الحراك الاجتماعي مجددا في ساحات لبنان: أو حين يفقد نظام الجاه حصانته الطائفية


2014-04-10    |   

الحراك الاجتماعي مجددا في ساحات لبنان: أو حين يفقد نظام الجاه حصانته الطائفية

لقد أشبع النظام الطائفي في لبنان درسا وتحليلا وبات من السهل جدا توجيه النقد له وفضح كل أساليبه التي تفرق بين المواطنين وتخل بمبدأ المساواة وسائر الحقوق التي يكرسها الدستور والمواثيق الدولية. لكن الغريب أن هذا النظام لا يزال صامدا رغم فشله البين والأكيد. هل هي معجزة عصية على التفسير العقلاني؟ لماذا يذهب كل هذا النقد أدراج الرياح ويتبدد أثره دون مفعول يذكر؟

والحقيقة أن المشكلة التي تمنعنا من حل هذه المعضلة هو خطأ في التوصيف وتحديد مكمن الداء. فالطوئف هي قطعا مهمة في لبنان، لا بل هي رافعة النظام السياسي وحصنه الحصين لكنها في الحقيقة لا أهمية لها إلا بمقدار ما هي نافعة للحصول على السلطة. النظام الحقيقي، هذا الذي يجب كشفه أمام الجميع وهتك استاره هو "نظام الجاه" الذي تكلم عنه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة في معرض شرحه كيف ينعكس اختلاف طرائق الناس في كسب معاشهم على حياتهم الاجتماعية.

الجاه حسب ابن خلدون هو "القدرة الحاملةللبشر على التصرف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع و التسلط بالقهروالغلبة"[1]. ولا شك أن هذا التعريف يؤدي معنى السلطة على أكمل وجه. فالمرء يملك من الجاه بمقدار السلطة التي يمثلها للاخرين. فالمال قد يصبح جاها لأنه يمنح من يحوزه سلطة أكيدة. كذلك الثقافة قد تتحول عند البعض إلى سبب للجاه، فالمعرفة هي شكل من أشكال السلطة التي تمنح من يمتلكها هالة من التقدير لدى شريحة معينة من الناس. لكن جاه المال، وبدرجة أكبر أيضا جاه المعرفة، لا يملكان وسائل القهر التي تكلم عنها ابن خلدون بل هما بحاجةإلى تغلب صاحب السلطان أي من يحكم الدولة فعليا ويقبض على زمام الأمور. الجاه الحقيقي هو فقط ذلك الذي يمكن من يحوزه على استخدام وسائل الاكراه وتحويل ارادته، بغض النظر عن مدى عدالتها وشرعيتها، إلى معيار عام يحكم تصرف البشر، أي الى قانون نافذ وفعال.

أن علاقة المثقف بالسلطة إشكالية لا تهمنا الآن لكن الذي نريد فهمه في بحثنا هذا بشكل دقيق هو علاقة المال بالجاه. هل السلطة السياسية وليدة المال أو أن المال هو نتيجة للسلطة السياسية؟ بالحقيقة، لقد درس ابن خلدون هذه الظاهرة بشكل فذ فقال لنا بأن "الجاه مفيد للمال"، إذ ان أنجع طريقة لبناء ثروة كبيرة ودون عناء أو جهد حقيقي هي الجاه. فالمال يذهب إلى صاحب السلطان كما تتوجه مياه الأنهر إلى البحر بفعل عوامل الجاذبية فقط. ويشرح ابن خلدون فكرته فيقول: "وذلك أنا نجد صاحب الجاه والحظوة فيجميع أصناف المعاش أكثريساراً وثروة من فاقد الجاه. والسبب في ذلك أن صاحبالجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه فالناسمعينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي"[2]. وهنا لب القضية، فالثروة لا تأتي من العمل وتعب التجار والفلاحين وأرباب الصنائع بل هي ملازمة للجاه. ومن كان فاقدا للجاه حتى لو كد في العمل فهو لن يتمكن من جني ثمار عمله لأن فائض الانتاج التي توفره مدينة بلغت من العمران البشري مرحلة الحضارة لن يذهب إلى جميع سكانها، بل سيتنعم به فقط من كان صاحب جاه فيتمتع برغد العيش وترف الحياة بينما تحرم من ذلك سائر فئات المجتمع.

ويطلق ابن خلدون على هذا النوع من جمع الثروات وكنز الأموال اسم "الامارة". الامارة "ليست بمذهب طبيعي في المعاش" لأنها تقوم على الجاه بحيث يتم جمع المال دون عمل أو انتاج.فتحصيل الرزق حسب هذه الطريقة"يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارفويسمى مغرماً وجباية"[3]. إن أصحاب الجاه يأتيهم المال على شكل ريوع دون جهود حقيقية لذلك ميز ابن خلدون بين الامارة من جهة وبين الفلاحة والتجارة والصناعة من جهة أخرى والتي وضعها في عداد الطرق الطبيعية لكسب المعاش.

هذا هو النظام الحقيقي الذي يحكم لبنان، انه نظام الجاه حيث تتكدس الريوع الناتجة عن الفوائد المصرفية والمضاربات العقارية عند أصحاب السلطة بينما يتم استهداف شرائح المجتمع المنتجة كالعمال والفلاحين والأساتذة بضرائب غير مباشرة هدفها الأول دفع فوائد ديون الدولة ما يؤمن لأصحاب رؤوس المال مزيدا من الأرباح الريعية.

وقد وجد البعض في مقدمة الدستور اللبناني ما يجيز هذا النمط من التصرف لا سيما الفقرة "و" التي تنص على أن " النظام الاقتصادي حر يكفل
المبادرة الفردية والملكية الخاصة" متناسين الفقرة "ج" التي تتكلم عن العدالة الاجتماعية. فدولة الجاه والامارة تتكسب من الجباية وتعد كل منحة تأتيها من الخارج مغرما بينما الدولة يجب في المبدأ أن تكون المستثمر الأول في كافة القطاعات الانتاجية وتشجع على الانفاق كي يتحول الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ينتج ثروة حقيقية. دولة الجاه لا تستخرج الطاقات الكامنة في المجتمع بل تعمل على توزيع الأرباح على شكل ريوع. ومن المعلوم منذ ابن خلدون على الأقل أن هذه الأرباح تذهب بغالبيتها الساحقة إلى أصحاب السلطة والجاه من السياسيين وأصحاب الرساميل.  
وكما أن الجاه مفيد للمال كذلك الحال في لبنان مع الطوائف والمؤسسات الدينية. فالطوائف مفيدة للمال إذ انها تملك الجاه الذي يستقطب حوله رأس المال الباحث أبدا عن سلطة تحميه. وقد أظهر الحراك المطلبي الأخير انهيار الحواجز بين الأحزاب السياسية وتوحد أرباب المال والجاه في جبهة واحدة ضد المطالب المحقة للفئات الشعبية المهمشة وشرائح المجتمع الكادحة. يا لها من لحظة مهمة جدا وبالغة الدلالة عندما يسقط القناع الحقيقي الذي يتستر به نظام الجاه الريعي فيفقد حصانته الطائفية ويضطر للدفاع عن نفسه في مجلس النواب عبر حلفائه من ساسة وممثلين للهيئات الاقتصادية والمصارف الحاكمة بأمرها في بلد الرسالة والعيش المشترك. إن في كلام ابن خلدون لعبرة لقوم يتفكرون.



[1]مقدمة ابن خلدون، دار ةمكتبة الهلال، بيروت، ص. 247-248.
[2] مقدمة ابن خلدون، ص. 246.
[3] مقدمة ابن خلدون، ص. 242.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني