الجريدة الرسمية الالكترونية لقاء بدل مرتفع: ضرب ممنهج لمجانية الوصول إلى المعلومات


2018-05-19    |   

الجريدة الرسمية الالكترونية لقاء بدل مرتفع: ضرب ممنهج لمجانية الوصول إلى المعلومات

يشكل نشر النصوص القانونية وسيلة رسمية تمكينا للجمهور من الاطلاع عليها أحد ركائز دولة القانون. ويسمح هذا الأمر للمواطنين بمراقبة أعمال السلطة السياسية ومعرفة حقوقهم بغية الدفاع عنها. فالثقافة الحقوقية هي ركن من أركان المواطنة الحقة، والحق بالوصول الى المعلومات هو شرط جوهري من أجل تأمين الشفافية في عمل مختلف أجهزة وإدارات الدولة. وقد تم التعبير عن هذا المبدأ بالجملة اللاتينية التالية:  " nemo censetur ignorare legem" أي من غير المفترض أن يجهل أحد القانون. وقد أصبح هذا المبدأ من المسلمات في النظم القانونية اليوم.

صحيح أن التطبيق الحرفي لهذا المبدأ بات في عصرنا الحالي صعبا جدا نظرا لتشعب القوانين وضرورة أن ينكب المرء على دراستها طيلة حياته ما أدى عمليا إلى ظهور مختصين يتولون هذا الأمر دون سائر الناس. لكن المبدأ يظل صالحا لناحية ضرورة إعطاء المواطنين فرصة الاطلاع على القوانين. فالدولة ملزمة بتمكين الأفراد من الحصول ليس فقط على كل المعلومات التي تتعلق بهم بل أيضا معرفة جميع التشريعات المعمول بها.     

ولا شك أن الجريدة الرسمية شكلت الوسيلة الأبرز لنشر النصوص القانونية في غالبية دول العالم. وقد شهد لبنان أول صحفه الرسمية زمن المتصرفية مع صدور جريدة "لبنان الرسمية" في أربع صفحات وباللغتين العربية والفرنسية سنة 1864 (بعض المصادر تذكر سنة 1867) في فترة حكم المتصرف داود باشا. وعندما أصبحت بيروت عاصمة لولاية عثمانية كبيرة سنة 1887 قام علي باشا والي المدينة الجديد بإصدار جريدة "ولاية بيروت" الرسمية سنة 1888 بطبعتين عربية وتركية لنشر أخبار وأوامر السلطات العثمانية. وفي سنة 1891، أصدر ابراهيم بك الأسود جريدة كانت تطبع في بعبدا وأطلق عليها اسم "لبنان" وتحولت إلى شبه رسمية مع تبنيها من قبل واصا باشا لنشر أخبار حكومة المتصرفية.

ولا شك أن التطور الأبرز الذي عرفته الصحافة الرسمية كان في عهد الانتداب الفرنسي. ففي سنة 1920 أعلن الجنرال غورو إنشاء دولة لبنان الكبير ومنحه استقلالا ذاتيا وحكومة محلية لإدارة شؤونه. وهكذا صدرت "جريدة لبنان الكبير الرسمية" سنة 1921 باللغتين العربية والفرنسية إذ كان ثمن العدد الواحد "غرشين سوريين" أما ثمن الاشتراك السنوي فكان 225 غرشا للداخل و300 غرش للحارج. ومع تبني الدستور سنة 1926 وتحول لبنان إلى جمهورية، تبدل اسم الجريدة الرسمية ليصبح جريدة الجمهورية اللبنانية الرسمية.

وقد تم تحديد مهام الجريدة الرسمية في عهد فؤاد شهاب بموجب المرسوم رقم  2870  تاريخ 28/12/1959  بحيث نصت الفقرة "د" من المادة السابعة على منح المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء صلاحية
"إدارة الجريدة الرسمية ونشر النصوص المطلوب إدراجها فيها، وتأمين شؤون الطبع والتوزيع وحفظ المجموعات". وفي سنة 1975 تحولت الجريدة الرسمية إلى مصلحة تابعة لرئاسة الحكومة.

ولما كان طبع الجريدة الرسمية وتوزيعها يرتب نفقات على خزينة الدولة، كان من الطبيعي تحديد رسم اشتراك سنوي لقاء خدمة الحصول على الأعداد المطبوعة. فقد كان سعر العدد الواحد سنة 1966 مثلا ليرة واحدة بينما حدد الاشتراك السنوي عبر البريد المضمون ب 75 ليرة داخل لبنان. أما النص الحالي الذي يرعى اليوم سعر الجريدة الرسمية فهو المرسوم رقم 1147 تاريخ 14/10/1997 والذي نصت المادة الثانية منه على تحديد الاشتراك السنوي ب 240000 ليرة داخل لبنان.

ظلت الجريدة الرسمية متوفرة فقط بنسختها الورقية حتى سنة 2005 عندما بدأ الموقع الالكتروني لرئاسة مجلس الوزراء بنشرها. وبالفعل أصبحت جميع الأعداد منذ نهاية 2005 متوفرة على الموقع بشكل مجاني بحيث كان يستطيع الجميع الاطلاع عليها ومواكبة صدور الأعداد دوريا، كون الموقع يتم تحديثه مرة في الأسبوع على الأقل. وقد ساهم هذا الأمر أيضا بتسهيل عمل الباحثين في القانون وعلم الاجتماع لأن المعلومات باتت متوفرة دائما دون الحاجة إلى شراء الأعداد أو الانتقال إلى المكتبات الجامعية لمراجعتها.

شكلت هذه الخطوة تطورا مهما إذ سار لبنان على نهج الدول الأوروبية التي باتت تنشر جرائدها الرسمية عبر المواقع الالكترونية. ففي فرنسا على سبيل المثال يتم نشر الجريدة الرسمية مجانا منذ سنة 2004 عبر الانترنت[1]. وقد لاقى هذا الأمر نجاحا كبيرا نظرا للحد من نفقات الطباعة والتوزيع إضافة إلى أطنان من الورق تم توفيرها لدرجة أن الحكومة الفرنسية أقرت سنة 2015 قانونا أجاز الاستغناء نهائيا عن النسخة الورقية بحيث باتت الجريدة الرسمية منذ الأول من كانون الثاني 2016 تصدر فقط بنسختها الالكترونية وهي مجانية بالكامل.

لكن الخطوة المتقدمة للجريدة الرسمية اللبنانية سرعان ما تم التراجع عنها إذ صدر في 23 شباط 2018 المرسوم رقم 2420 والذي نصت المادة الأولى منه على التالي: "حدد بدل الاشتراك الواحد في الجريدة الرسمية الالكترونية بمبلغ /550.000/ ل.ل فقط خمسماية وخمسون الف ليرة لبنانية". وهكذا وبكل بساطة أنهى هذا المرسوم مجانية النشر الالكتروني. وفور الانتهاء من الأعمال التقنية لإنشاء الموقع الإلكتروني، تم حذف الزاوية المخصصة للجريدة الرسمية على موقع رئاسة مجلس الوزراء واستعيض عنها بصفحة تشير للزائر بضرورة شرائه لكرت مسبق الدفع بقيمة 550000 ليرة كاشتراك سنوي بغية ولوج الموقع وتصفح الجريدة الرسمية. لا بد أمام هذا الواقع من طرح الملاحظات التالية:

  • أن سعر الاشتراك السنوي في الجريدة الالكترونية يفوق بكثير سعر الاشتراك السنوي بالنسخة الورقية أي أن الحدّ من هدر الورق بات دون جدوى، كون ارتفاع السعر يجعل من المشتركين يفضلون الحصول على النسخة الورقية بدل دفع رسم مضاعف من أجل النسخة الالكترونية.
  • أن المرسوم رقم 2420 أشار فقط إلى "بدل الاشتراك الواحد" بينما الموقع الالكتروني الذي تم استحداثه يتكلم عن "الاشتراك السنوي" أي ضرورة تجديد الاشتراك سنويا. فما هو المقصود بكلمة "الاشتراك الواحد" هل يعني ذلك الاشتراك الواحد عن كل سنة أو أن الاشتراك هو دائم يتم دفعه مرة واحدة فقط من قبل جهة واحدة؟ مسألة لا بد من توضيحها.

وهكذا، وبشكل مفاجئ، تكون الدولة قد حرمت المواطنين من خدمة مجانية من دون مبرر وأصبحت مثل سائر دور النشر والشركات الخاصة التي تبيع برامج الكترونية تحتوي على أعداد الجريدة الرسمية منذ 1922 وحتى اليوم إضافة إلى اجتهادات المحاكم المختلفة.

هذا علما أن مبدأ مجانية الحصول على المعلومات جرى تكريسه في الفقرة الأولى من المادة 18 من قانون الحق بالوصول إلى المعلومات عندما نصت صراحة على "أن الوصول إلى المستندات الإدارية يتم مجاناً في مكان وجودها، ما لم تحل دون ذلك أسباب المحافظة المادية على المستند". فإذا كان المستند الإداري الذي لا يتم نشره أصلا يمكن الاطلاع عليه بشكل مجاني، فكم بالحري القوانين والمراسيم التي يتم نشرها دون نفقات طباعة أي عبر المواقع الالكترونية التابعة لمؤسسات الدولة؟[2]

إن إنشاء جريدة رسمية الكترونية هو في المبدأ خطوة مهمة جدا لكن تم إفراغها من مضمونها عبر فرض بدل اشتراك سنوي مرتفع جدا بحيث تحول القانون إلى احتكار معرفي بيد طبقة محصورة من الأفراد والشركات التي ترى في منع نشر الثقافة الحقوقية وسيلة فعالة لتأمين مصالحها. فعوضا أن يكون القانون سلاحا فعالا بيد المواطنين لا سيما المهمشين منهم، أصبح سلعة تبيعها الدولة لمن يستطيع الدفع.


[1]  الموقع التالي: www.legifrance.gouv.fr

[2]  تجدر الاشارة إلى نقطة مهمة. فقد كانت محاضر مجلس النواب يتم توزيعها مع الجريدة الرسمية إذ كانت تضم في مجلد واحد وذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. واليوم أيضا تعتبر المحاضر مستقلة عن ادارة الجريدة الرسمية لكن هذه الأخيرة تتولى توزيعها على المشتركين. الغريب أن هذه المحاضر لا يتم نشرها الكترونيا وهي غير متوفرة للعموم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني