الجدل الدستوري حول المحاكم العسكرية


2018-01-18    |   

الجدل الدستوري حول المحاكم العسكرية

تطور القضاء العسكري في مصر منذ نشأته وحتى الوقت الحالي؛ فبدأ كمحاكم تأديب للعساكر والضباط حتى وصل إلى قضاء خاص متكامل، بشقين جنائي وإداري. فينظم قانون القضاء العسكري الجرائم المُعاقب عليها مع تنظيم النيابات والمحاكم التي تتولى النظر فيها، وهي لا تقتصر على محاكمة العسكريين. بالإضافة إلى اختصاص لجان قضائية خاصة بالفصل في المنازعات الإدارية المتعلقة بالقوات المسلّحة[1]. وكانت المحاكم العسكرية نشأت في مصر بموجب قانون الأحكام العسكرية الصادر عام 1893. وكانت أغلب الجرائم الواردة فيه ذات طابع تأديبي رغم استعمال المشرع للفظ “جناية” للتعبير عنها[2]. وظلّ هذا القانون ساري المفعول حتى صدور القانون رقم 25 لسنة 1966 المعمول به حاليا.

وثار الجدل حول دستورية وجود هذه المحاكم في المقام الأول، ثم دستورية إحالة قضايا بعينها إلى هذه المحاكم. فاعتبر البعض أنه لا يحق للمشرّع إنشاء محاكم خاصة أو استثنائية اعتمادًا على السلطة المخولة له لترتيب وتنظيم جهات القضاء، وأنه لا يمكنه حجب ولاية القضاء العادي عن بعض القضايا وإسنادها إلى هيئة أو جهة أخرى اذا لم ينص الدستور على ذلك. كما أشار هؤلاء إلى إخلال هذا الأمر بمبدأ المساواة بين المتقاضين[3]. وذهب جانب آخر من الفقه، أن القضاء العسكري يعتبر دستوريًا ما دام نص الدستور على وجوده[4]. ولعل هذين الرأيين يتفقان مع أسباب تطور المحاكم العسكرية في التشريع الدستوري المصري. وقد وضع المشرع الدستوري نصب عينيه تقنين وجود هذه المحاكم وحماية وجودها. فإذا تم ذلك، مهّد الدستور لضمان اختصاص هذه المحاكم بالنظر في قضايا قد تخرج عن اختصاصها في الأحوال الطبيعية مثل محاكمة المدنيين.

وعليه، نلاحظ أن الدساتير المصرية المتعاقبة- حتى دستور 1964- استخدمت لفظ “محاكم عسكرية” عند الإشارة لهذه المحاكم. بينما نص دستور 1971 لأول مرة على لفظ “القضاء العسكري”، رافعا بذك مستوى هذه المحاكم من مجرد محاكم تأديبية إلى محاكم ذات اختصاص قضائي، وسامحًا بإنشاء نظام قضائي متكامل خاص للعسكريين. كما سمح القانون المنظم لاختصاص المحاكم العسكرية بمحاكمة المدنيين أمام هذه المحاكم في حالات معينة وفي حال صدور قرار من رئيس الجمهورية بمحاكمتهم أمامها. وبعد الثورة، ومع تولي المجلس العسكري السلطة، ارتفع عدد المدنيين المحاكمين أمام القضاء العسكري، مما أدى، خاصة مع فتح المجال العام في مصر، إلى مطالبة الشارع بوقف هذه المحاكمات وحظرها بموجب الدستور. وقد صنف دستور 2012 المحاكم العسكرية ضمن الجهات القضائية، وسار دستور 2013 الحالي على الدرب نفسه.

وانعكس التطور الدستوري على التشريعات المنظمة للقضاء العسكري. فحتى قانون “الأحكام العسكرية”، أصبح يسمى قانون “القضاء العسكري” فاتحا الباب لمزيد من الاختصاصات والصلاحيات للقضاء العسكري. كما أن المشرع أدخل تعديلات على تنظيم المحاكم ودرجات التقاضي، بهدف إنشاء نظام قضائي يقارب القضاء المدني ويزيح عن القضاء العسكري شبهة مخالفة مواد دستورية خاصة تلك المتعلقة بالمحاكمة العادلة والمنصفة.

وتطوّرت كذلك نظرة الفقه للقضاء العسكري: فمن اعتباره قضاء خاصا، والجدل حول دستورية وجوده إلى الجدل حول اعتباره قضاء استثنائيا في ما يخص محاكمته للمدنيين، والمطالبة بوقف هذه المحاكمات باعتبارها غير دستورية، وصولا إلى المطالبة بعدم تضمنين المحاكمات العسكرية للمدنيين في الدستور. كما تطورت نظرة القضاء الدستوري والإداري إلى القضاء العسكري مع تطور نظرة المشرع الدستوري له مع تطور الأحداث والأوضاع السياسية المصرية؛ وبالتالي التشريعات المنظمة له.

ونركز في هذا المقال على تطور القضاء العسكري في المنظومة الدستورية المصرية، مع قراءة للجدل الدائر حوله مع هذا التطور سواء من جانب الفقه أو القضاء أو الشارع المصري.

ما قبل 1971: المحاكم العسكرية محاكم تأديبية واستثنائية

نصت الدساتير المصرية المتعاقبة قبل سنة 1952 وبعدها على القضاء العسكري مستخدمة لفظ “المحاكم العسكرية”. فعلى سبيل المثال نصت المادة 183 من دستور 1956 على أن القانون ينظم “ترتيب المحاكم العسكرية وبيان اختصاصها والشروط الواجب توافرها فيمن يتولون القضاء فيها”. واستبدل دستور 1964 المحاكم العسكرية بمحاكم أمن الدولة مع الإحتفاظ بنفس النص الوارد في دستور 1956. وفسر بعض الفقه حرص المشرع الدستوري على استخدام لفظ “المحاكم العسكرية” برغبته في اقتصار التنظيم التشريعي لتلك المحاكم على الفصل في المخالفات والجرائم العسكرية، دون أي امتداد للمنازعات الإدارية بين العسكريين والقوات المسلحة أو لمحاكمة مدنيين أو لمحاكمة العسكريين في الجرائم التي تخرج من نطاق الجرائم العسكرية[5].

وكان لهذا الأمر أثره على نظرة القضاء لهذه المحاكم. فقد استقرّ قضاء محكمة القضاء الإداري على أن “المجالس العسكرية هي هيئات تأديبية”[6]، حتى وإن نظرت في مخالفات جسيمة للقوانين الجنائية أو وقعت جزاءات مما تقضي بها المحاكم العادية. واعتبرت أن جسامة العقوبة لا تنفي عنها الصفة التأديبية حيث أن من حق المشرع أن يجعل الجزاء التأديبي ممثلاً في معياره أو مقداره للجزاء الجنائي. وبالتالي، فإنه يجوز الطعن على هذه القرارات أمام محاكم مجلس الدولة. كما ذهبت المحكمة إلى جواز مثول المتهم للمحاكمة أمام المحاكم المدنية، وإن ثبتت الجناية عليه أمام المجالس العسكرية[7]. كما سلكت محكمة النقض نفس المنهج، حيث اعتبرت المحاكم العسكرية محاكم استثنائية لا تحول دون محاكمة الجاني أمام المحاكم الجنائية حيث أن أحكامها لا تحوز قوة الشيء المقضي به[8]. كما أنّ محاكم الجنايات كانت تتمسّك بمحاكمة العساكر أمامها في الجرائم التي ليس لها طابع عسكري. وفي هذه الفترة، صدرت عدة قوانين في محاولة لتغيير هذا الوضع، وإضفاء طابع قضائي على المحاكم العسكرية، مع الأخذ بعين الإعتبار الإتجاه في هذه الفترة إلى إنشاء محاكم استثنائية تتكون من قضاة عسكريين للنظر في قضايا سياسية. القانون الأول هو القانون رقم 101 لسنة 1957 الذي يسمح بمحاكمة المتهمين غيابيًا أمام المحاكم العسكرية. أما الثاني فهو القانون رقم 159 لسنة 1957 في شأن التماس إعادة النظر في قرارات وأحكام المجالس العسكرية وهو القانون الذي نص في مادته الأولى على أن”المجالس العسكرية محاكم قضائية استثنائية لأحكامها قوة الشيء المحكوم فيه ولا يجوز الطعن في قراراتها أو أحكامها أمام أي هيئة قضائية أو إدارية خلاف ما نص عليه في هذا القانون”. وهي المادة التي تعلن بطريقة واضحة عن رغبة المشرع في إضفاء طابع قضائي تشريعي على المحاكم العسكرية، رغم نص الدستور وتفسير المحاكم له.

وهو ما ترتب عليه اختلاف قضاء كل من محكمتي النقض والقضاء الاداري بخصوص هذه المحاكم. فبخلاف القضاء الإداري الذي استمر في اعتبارها محاكم تأديبية، قضت محكمة النقض عام 1960 أن اختصاص المحاكم العادية هو اختصاص شامل يسري على جميع الأفراد سواء كان لمرتكب الجريمة الصفة العسكرية أم لا، وبالتالي فاختصاصها هو اختصاص عام. إلا أنه في حال باشرت المحاكم العسكرية إجراءات المحاكمة وأصدرت حكمها وأصبح نهائيا، فهو بالتالي صادر من هيئة مختصة قانوناً ويحوز قوة الشيء المقضي به[9].

ولكن، رغم اختلاف قضاء المحكمتين، ورغبة المشرع إضفاء الطابع القضائي على المحاكم العسكرية، بقيت إحالة قضايا بعينها إلى هذه المحاكم ومحاكمة مدنيين أمامها تشوبها شبهة عدم الدستورية.

المحاكم العسكرية في ظلّ دستور 1971: الاعتراف بالصفة القضائية

نصت المادة 183 من الدستور الصادر عام 1971 على أنه: “ينظم القانون القضاء العسكري، ويبين إختصاصاته في حدود المبادئ الواردة في الدستور”. وبذلك، تمّ إضفاء الصفة القضائية على المحاكم العسكرية بموجب الدستور. وكان صدر قانون الأحكام العسكرية في عام 1966، أي قبل صدور الدستور، والذي أوجد تنظيما قضائيا للمحاكم العسكرية من محاكم ونيابات، كما قسم الجرائم المعاقب عليها مثل التنظيم الجنائي العام. وكان من شأن هذا التنظيم أن يحذف أية صفة تأديبية من العقوبات التي توقعها هذه المحاكم[10]، كما أخضع القانون العسكريين إلى المحاكمة أمام المحاكم العسكرية حتى في حال ارتكابهم لجرائم القانون العام. وبإضفاء صفة “قضاء” على المحاكم العسكرية في دستور 1971، أغلق المشرع الدستوري أية محاولة للجدل حول دستورية هذا التنظيم القضائي للمحاكم العسكرية، وكرس كون هذه المحاكم قضاء “خاصا” مستقلا بذاته وله اختصاصه. كما فتح هذا النص الدستوري الباب أمام إنشاء “محاكم إدارية” خاصة للقوات المسلحة هي اللجان القضائية التي أنشأها القانون الصادر عام 1975 والتي تختص بنظر المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارت الصادرة في شأن أفراد وضباط القوات المسلحة. وبذلك تم إنشاء نظام قضائي موازٍ للنظام القضائي العادي، خاص فقط بالقوات المسلحة.

ولم ينصّ دستور 1971 في المادة 183 السابق ذكرها على جواز محاكمة المدنيين من عدمه أمام المحاكم العسكرية. وهو ما نظمه قانون الأحكام العسكرية لعام 1966 فعلاً، حيث نص على محاكمة المدنيين العاملين في وزارة الحربية أو في خدمة القوات المسلحة[11]، بالإضافة إلى تحديد المشرّع المعيار الموضوعي كأساس لاختصاص القضاء العسكري أي تحديد جرائم معينة يُحاكم مرتكبها أمام هذه المحاكم سواء كان مرتكبها عسكرياً أم مدنياً[12]. كما أعطى القانون- في المادة 6 منه- رئيس الجمهورية الحق في إحالة قضايا بعينها، تختص بها محاكم الجنايات، إلى القضاء العسكري[13]، مما أدى إلى محاكمة العديد من المدنيين أمام القضاء العسكري في قضايا لها عموما طابع سياسي. وهو الأمر الذي اعتبره جزء من الفقه غير دستوري إستنادا على أنه “لا يجوز للمشرع القانوني إستنادا إلى السلطة التي خولها له الدستور في ترتيب وتنظيم جهات القضاء وتحديد اختصاصها -في إطار الدستور- أن يحجب بعض المنازعات عن ولاية القضاء العادي ويسند الاختصاص بنظرها إلى هيئة أو جهة ما لم ينص الدستور على ذلك صراحة”[14]. كما أن الدستور الصادر عام 1971 نص في المادة 68 منه على حق المواطن في الإلتجاء إلى قاضيه الطبيعي وهو الذي يُحدد مسبقا وفقا للقانون، وليس لقضية معينة أو بطريقة فردية؛ مما يعني أن محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري بموجب المادة 6 من قانون الأحكام العسكرية غير دستوري لتعارضها مع مبدأ القاضي الطبيعي[15].

وقد تم تقديم طعون بعدم دستورية المادة 6. وكان من أول الطعون، الطعن المُقدم على دستورية الفقرة الثانية من المادة 6 التي كانت تنص على أنه: “لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ أن يحيل إلى القضاء العسكري أيا من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر”. ولكن المحكمة العليا اعتبرت أن نص الفقرة دستوري معتبرة أن تنظيم القضاء العسكري أمر يتعلق بأمن الدولة، وأن “سلطة الإحالة إلى القضاء العسكري والتي ناطها النص برئيس الجمهورية وقصد بها تخويله وزن الإعتبارات التي تقتضي المحاكمة أمام المحاكم العسكرية بالنسبة لهذا الإختصاص المشترك بينها وبين المحاكم الأخرى فإنها لا تنشئ اختصاصا للقضاء العسكري ولا يعدو أن تكون هذه السلطة أداة لتنفيذ حكم الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية”. كما اعتبرت المحكمة أن إعمال هذه السلطة لا ينتقص من الإختصاص المقرر للمحاكم الأخرى[16].

 ويلحظ أن الطاعنين تعاملوا مع قرارات رئيس الجمهورية بإحالة قضايا معينة إلى القضاء العسكري، باعتبارها قرارات إدارية يجوز الطعن عليها أمام محاكم مجلس الدولة. واستقر قضاء محكمة القضاء الاداري أن القرارات الصادرة من رئيس الجمهورية بإحالة قضايا بعينها إلى القضاء العسكري لا تعتبر من أعمال السيادة، وذلك لأنها ليست تصرفا سياسيا بالمعنى الدستوري والقانوني كما أنها لا تتصل بشؤون الحكم، بل أنها قرارات إدارية تخضع لرقابة المشروعية التي تتولاها محاكم مجلس الدولة[17]. أما في ما يخص إلغاء القرارات، فاختلف قضاء محكمة القضاء الإداري، فرفضت في بعض الحالات إلغاء أو وقف تنفيذ هذا القرار كونه صادراً من مرجع مختص[18] أو لافتقاده ركن الجدية[19]، وحكمت بالغائه أو وقف تنفيذه في حالات أخرى معتبرة إياه مخالفا للقانون ومبتغيا غير المصلحة العامة[20].

وما سبق يدلل على أن غياب دسترة محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري كان يفتح الباب للطعن على هذه القرارات وكان يمثل بارقة أمل لامكانية وقف هذه المحاكمات ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العادية، وهو الأمر الذي اختلف بعد 2011 في ظل رغبة وإصرار على تضمين محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في الوثيقة الدستورية.

المحاكم العسكرية بعد 2011

بعد ثورة 2011، شهدت مصر ولادة أربع وثائق دستورية حتى اللحظة. فبعد وقف العمل بدستور 1971، صدر الإعلان الدستوري كوثيقة دستورية مؤقتة حتى إقرار دستور دائم. وفي أثناء فترة حكم الإخوان المسلمين، تم إقرار دستور 2012 الذي تم إيقاف العمل به بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013. وبناء عليه، أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور إعلانا دستوريا مؤقتا حتى الاتفاق على الدستور الجديد الذي صدر في مطلع عام 2014 وهو الدستور الساري حاليا.

واختلفت نظرة الوثائق الدستورية السابق ذكرها إلى المحاكمات العسكرية للمدنيين، فسار الإعلان الدستوري الأول على نهج دستور 1971، وبدأت الدسترة الفعلية لهذه المحاكمات في دستور 2012، كما سنوضح أدناه.

الإعلان الدستوري 2011

صدر الإعلان الدستوري بتاريخ 30-3-2011، وتضمن في المادة 51 منه النصّ على القضاء العسكري، كما جاء في دستور 1971.

ورغم غياب دسترة محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، شهدت هذه الفترة عدداً كبير من القضايا التي تمت إحالتها للقضاء العسكري بدعوى الحفاظ على الأمن و”ضبط الشارع”. كما أصدر المجلس العسكري قراراً بإحالة بعض الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات إلى محاكم أمن الدولة “طوارئ”، وهي جرائم تعطيل المواصلات، وجرائم الترويع والتخويف والمساس بالطمأنينة (البلطجة)[21]، وجرائم الإعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت، وجرائم جلب وتصدير المواد المخدرة[22]. وتعد محاكم أمن الدولة طوارئ محاكم استثنائية، وتخضع لقواعد شبيهة بتلك التي يخضع لها القضاء العسكري.

ومهدت النصوص السالف ذكرها لإقرار محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري حسب النص الحالي في الدستور.

ونشأت في هذه الفترة حملة “لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين” وتحديدًا بعد فضّ اعتصام ميدان التحرير بالقوة بتاريخ 9-3-2011[23]، وطالبت بوقف المحاكمات العسكرية للمدنيين وإحالة الأحكام التي صدرت بالفعل للقضاء المدني. واستندت الحملة إلى المبدأ الدستوري الذي ينص على حق الشخص في الحصول على محاكمة عادلة ومنصفة أمام “قاضيه الطبيعي”، أي أمام القضاء المدني. وانتقل، بالتالي، الجدل القانوني إلى الشارع المصري ووسائل الإعلام. وأصبح مصطلح “القاضي الطبيعي” مسموعا ومتداولا في أوساط متنوعة من المجتمع المصري.

كما شهدت هذه الفترة قيام المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالطعن على المادة 48 من قانون الأحكام العسكرية والتي تقرر للمحاكم العسكرية حق تقرير إذا كانت الدعوى داخلة في اختصاصها أم لا[24].

دستور 2012

كان دستور 2012 هو أول دستور بعد الثورة، وعُقدت عليه الآمال أن يكون معبّراً عن مبادئ الثورة. ودار النقاش داخل الجمعية التأسيسية للدستور حول محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ومال الرأي نحو حظرها. وكان الاقتراح أن يتم حظرها إلا في ما يخص الجرائم الواقعة على منشآت ومعدات وأسرار القوات المسلحة، وما يتعلق بالخدمة العسكرية. ولكن هذا الإقتراح لم يلقَ ترحيبًا من ممثلي القوات المسلحة في اللجنة استناداً على وجود حالات أخرى تجب فيها هذه المحاكمة للحفاظ على أمن البلاد[25]. كما اعتبر ممثل عن القوات المسلحة أن الاقتراح يُخرج من اختصاص القضاء العسكري مسائل في غاية الأهمية مثل الجرائم التي تتم عبر الحدود، والجرائم التي يرتكبها أعضاء المخابرات العامة وضد أموال المخابرات العامة ومصالحها، والجرائم التي ترتكب على منشآت المصانع الحربية وعلى الأماكن التي يشغلها العسكريون لصالح القوات المسلحة[26].

وانتهى النص إلى عدم جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري إلا “في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة”[27]، تاركا للقانون مهمة تحديد هذه الجرائم، مما يعني عمليا جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري[28]. في المقابل، نص الدستور في المادة 198 منه على عدم جواز محاكمة العسكريين أمام القضاء المدني، حيث أفرد للقضاء العسكري الاختصاص الحصري لمحاكمة ضباط وأفراد القوات المسلحة.

إلى جانب ذلك، رفع الدستور مرتبة القضاء العسكري إلى مرتبة الجهة القضائية، فاعتبرت المادة 198 أن “القضاء العسكري جهة قضائية مستقلة”. كما ساوت أعضاءه بأعضاء السلطة القضائية من حيث النص على استقلالهم وعدم قابليتهم للعزل، وإقرار كافة الحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية لهم.

ونصت المادة 196 من الدستور[29] لأول مرة على اللجان القضائيّة لضباط وأفراد القوات المسلحة، مكرسة بذلك اختصاصها بالفصل في المنازعات الإدارية التي تتعلق بالقرارات الصادرة بشأنهم، مما يعني أن دستور 2012 أضفى الطابع الدستوري على الجانب الإداري للقضاء العسكري.

ومما سبق، نستنتج أن دستور 2012 ذهب أبعد بكثير من دستور 1971 من حيث رفع مستوى القضاء العسكري إلى مستوى الجهة القضائية “المستقلة”، في خطوة لاستبعاد طابع تبعيته للقوات المسلحة، بالإضافة إلى دسترة اللجان القضائية. وهو ما يعتبر إنشاء لما أطلقت عليه المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إسم “السلطة القضائية العسكرية”[30].

دستور 2013

 بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي وتعطيل دستور 2012، أصدر رئيس الجمهورية المؤقت حينذاك، عدلي منصور، إعلانا دستوريا مؤقتا لحين الإنتهاء من مناقشة الدستور الجديد. ونصت المادة 19 من الإعلان الدستوري على أن: “القضاء العسكري جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى”. وحافظت المادة 19 على كون القضاء العسكري من الجهات القضائية مثل ما نص عليه دستور 2012. ولكن عادت إلى نص المادة الواردة في دستور 1971 في ما يخص اختصاص القضاء العسكري، تاركة بالتالي أمر محاكمة المدنيين أمامه للقانون. وهو الأمر الذي أنذر باستمرار محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وغياب النية الحقيقية لحظر هذه المحاكمات؛ مما أدى إلى تجدّد المطالب بحظر محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في الدستور الجديد. وفي هذه الفترة، تم تنظيم مظاهرة أمام مجلس الشورى[31] أثناء مناقشة لجنة الخمسين لتعديل الدستور المادة الخاصة بالقضاء العسكري، بهدف الضغط على أعضائها للنص صراحة على حظر المحاكمات العسكرية للمدنيين.

وقد ذهب أعضاء لجنة العشرة لتعديل الدستور[32] إلى الإبقاء على المادة كما جاءت في دستور 2012 دون أي تعديل في ما يخص الحالات التي يجوز فيها محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. وقد احتدّت المناقشة في هذا الشأن ما يخص هذه المادة، بين من يرجو العودة إلى نص دستور 1971، ومن يميل إلى الإبقاء على نص دستور 2012، ومن يقترح استحداث نص جديد لذكر الحالات الحصرية التي يجوز فيها محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ومن يرفض بشكل قاطع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري تحت أي ظرف من الظروف. وبرر المطالبون بالحصر هذا الإتجاه إلى أنه يقلص صلاحيات القضاء العسكري بحيث تكون مقصورة على الاعتداءات التي تقع في ظرف إستثنائي، بالإضافة إلى أنه يغلّ يد المشرع عن التوسع في هذه الحالات.

وتم فعلا الأخذ باقتراح حصر حالات محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري حيث عددت المادة 204 من الدستور الحالات التالية: “الجرائم التي تمثل إعتداءً مباشرًا على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشرًا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم. ويحدد القانون هذه الجرائم ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى”[33].

ومما سبق، نستنتج أن الدستور الحالي وضع استثناء لمبدأ “عدم جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري”، معددًا تلك الحالات حصرًا، ولكن هذا النص لم يلقَ قبول المطالبين بمنع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، الذي اعتبروه مخيبا للآمال، ويخلّ بمبدأ حق المحاكمة أمام “القاضي الطبيعي”.

كما أبقت المادة على عدم جواز محاكمة العسكريين أمام القضاء المدني، مثل دستور 2012، كما أضافت صراحة اختصاص القضاء العسكري بمحاكمة أفراد المخابرات العامة بسبب وأثناء الخدمة[34]، بالإضافة إلى احتفاظ أعضاء القضاء العسكري بالمكاسب التي حصلوا عليها في الدستور السابق من النص على عدم قابليتهم للعزل ومساواتهم بأعضاء السلطة القضائية في الضمانات والحقوق والواجبات[35].

بالإضافة إلى الإبقاء على اختصاص اللجان القضائية بالفصل في المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات الصادرة في شأن ضباط وأفراد القوات المسلحة.

ولعل نص دستور 2013 في ما يخص القضاء العسكري هو أكثر نص متقدم مقارنة بالدساتير السابقة في تقرير اختصاص القضاء العسكري وبالتأكيد على إضفاء صفة الهيئة القضائية للمحاكم العسكرية ولقضاتها. وهي الأمور التي ساهمت في التوسع في محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وأيضاً في تعديل قانون القضاء العسكري لجهة تنظيم المحاكم العسكرية وسبل الطعن على أحكامها، بهدف درء شبهة مخالفة المحاكم العسكرية للمبادئ الدستورية المتعلقة بالمحاكمة العادلة والمنصفة.

خاتمة

لدسترة المحاكم العسكرية أثر مباشر على وضعية هذه المحاكم في المنظومة القضائية المصرية. فعندما يقر أو ينشئ المشرع الدستوري قاعدة معينة في الدستور، فإنه بذلك يقرّ لها بأهمية من نوع خاص حيث يلزم المشرع بإطار معين عند تنظيمه لها. وبالتالي، أصبح القضاء العسكري في مصر “قائماً وثابتاً بنص الدستور ولا يمكن أن يمس به إلا عن طريق المساس بالدستور ذاته”[36]. كما أن دسترة المحاكم العسكرية في مصر بإقرار صفتها القضائية جعل منها نظاماً قضائياً متكاملاً وساهم في توسيع اختصاصات هذه المحاكم وتمسكها بما حققته من مكاسب. وقد وصل الأمر إلى تضمين الدستور أن القضاء العسكري جهة قضائية مستقلة ومساواة قضاته بأعضاء السلطة القضائية، وهو يمثل درجة متقدمة جدا في تنظيم قضاء خاص كالقضاء العسكري.

كما أن مناقشات اللجنة التأسيسية لدستور 2012 ولجنة الخمسين لإعداد دستور 2013 تعكس بشكل صريح تمسك أعضاء القوات المسلحة بوجود المحاكم العسكرية، وباختصاصها بنظر قضايا بعينها باعتبارها تمس أمن الدولة، ولا يجوز للقضاء العادي أن ينظر إليها بسبب حساسيتها وسريتها. كما أن مناقشات لجنة الخمسين لإعداد دستور 2013 تعكس ربط بعض أعضائها، وبالتالي بعض فئات الشعب، القضاء العسكري بدعم المؤسسة العسكرية بشكل عام، وخصوصاً في حربها ضد الإرهاب. كما عكست هذه المناقشات ما يمكن أن نطلق عليه تقليلاً من شأن القضاء المدني. فقد اعتبر البعض أن حذف نص جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري يرسل رسالة إيجابية للإرهابي؛ وهو ما يدلل على اعتبار البعض أن القضاء العسكري هو أفضل وسيلة للمحاكمة في حالات بعينها بسبب سرعة الفصل في القضايا، وعدم الرهبة في إصدار أحكام شديدة. وهو ما يدلل على قبول فئة من الشعب لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ولقبول دسترة هذا الوضع، بل واعتباره هو الأمر الأنسب في الوقت الحالي. كما عسكت النقاشات الدائرة داخل لجنة الخمسين حول هذه المادة الجدل حول القضاء العسكري ومحاكمته للمدنيين، حتى تم التصويت على هذه المادة بالإسم وليس برفع الأيدي، حتى يتحمل كل عضو مسؤولية تصويته بنعم أم لا أمام الشعب[37].

وكل هذا ينذر باستمرار الجدل حول هذه المحاكمة في الوقت الحالي، وصعوبة تغيير الوضع، خاصة بعد دسترته بهذه الطريقة.

نشر في العدد الخاص حول المحاكم العسكرية في دول المنطقة العربية.

النسخة اللبنانية

النسخة التونسية

 


[1] راجع القانون رقم 71 لسنة 1975 بشأن تنظيم وتحديد اختصاصات اللجان القضائية لضباط القوات المسلحة، والتي تنص المادة الثالثة منه على:”تختص كل لجنة من اللجان القضائية لضباط القوات المسلحة المنصوص عليها في البنود (ب، ج، د، ه، و) من المادة 1 دون غيرها بالفصل في المنازعات الإدارية المتعلقة بضباط القوة وطلبة الكليات والمعاهد العسكرية التابعين لها والمنازعات الإدارية المتعلقة بقرارات مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية”.

[2] راجع مستشار دكتور عمر علي نجم، “دستورية القضاء العسكري بين الإطلاق والتقييد”، صادر عن دار النهضة العربية.

[3] راجع دكتور بكري يوسف محمد، “محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ومدى اتساقها مع المواثيق الدولية والشرعية الداخلية”، صادر عن مكتبة الوفاء القانونية في 2013.

[4] راجع مستشار دكتور عمر علي نجم، “دستورية القضاء العسكري بين الإطلاق والتقييد”، صادر عن دار النهضة العربية.

[5] راجع مستشار دكتور عمر علي نجم، “دستورية القضاء العسكري بين الإطلاق والتقييد”، صادر عن دار النهضة العربية.

[6]  راجع على سبيل المثال الطعن رقم 1323 لسنة 6 قضائية بتاريخ 14-4-1953.

[7] راجع القضية رقم 374 لسنة 3ق، جلسة 22-3-1951.

[8] راجع الطعن رقم 1351 لسنة 26ق، صدر بجلسة 19-2-1957.

[9] راجع الطعن رقم 1153 سنة 29ق، صدر الحكم بتاريخ 14-6-1960.

[10] راجع المواد 119 و120 من قانون الأحكام العسكرية لعام 1966.

[11] راجع المادة 4 من القانون.

[12] راجع المادة 5 من القانون.

[13] راجع المادة 6 من القانون.

[14] راجع دكتور بكري يوسف بكري محمد، “محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري ومدى اتساقها مع المواثيق الدولية والشرعية الداخلية”، صادر عن مكتبة دار الوفاء القانونية، عام 2013.

[15] المرجع السابق.

[16] راجع المحكمة العليا، الطعن رقم 12 لسنة 5 قضائية، صادر بجلسة 3-4-1976.

[17] راجع على سبيل المثال حكم المحكمة الادارية العليا في الطعن رقم 515 لسنة 39 قضائية بتاريخ 23-5-1993.

[18] راجع على سبيل المثال حكم محكمة القضاء الاداري في الطعن رقم 2478 لسنة 56 قضائية بتاريخ 9-3-2004.

[19] راجع على سبيل المثال حكم محكمة القضاء الاداري في الطعن رقم 4766 لسنة 56 قضائية بتاريخ 17-12-2002.

[20] راجع على سبيل المثال حكم محكمة القضاء الاداري في الطعن رقم 16331 لسنة 61 قضائية بتاريخ 8-5-2007.

[21] اعاد المجلس العسكري المادة الخاصة بجرائم البلطجة إلى قانون العقوبات بموجب القرار بقانون رقم 10 لسنة 2011 بشأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1936، بتاريخ 10-3-2011.

[22] راجع أمر رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة رقم 2 لسنة 2011 بشن إضافة بعض البنود إلى نص المادة الأولى من أمر رئيس جمهورية مصر العربية رقم 1 لسنة 1981 بإحالة بعض الجرائم إلى محاكم أمن الدولة “طوارئ”، بتاريخ 22-9-2011.

[23] راجع موقع الحملة:  http://www.nomiltrials.org/

[24] تنص المادة 48 من قانون الأحكام العسكرية على:”السلطات القضائية العسكرية هي وحدها التي تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً في اختصاصها أم لا”.

[25] شاهد فيديو “ممدوح شاهين: مش عاوزين مدنيين أمام القضاء العسكري“، نشرته قناة صوت الشعب على موقع YouTube بتاريخ 28-11-2012.

[26] شاهد فيديو “ل.مجدي: محاكمتكم أمام القضاء العسكري تصفية حسابات“، نشرته قناة صوت الشعب على موقع YouTube بتاريخ 28-11-2012.

[27] نصت المادة 198 من دستور 2012 على:”القضاء العسكري جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها. ولا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة، ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى. وأعضاء القضاء العسكري مستقلون، غير قابلين للعزل، ويكون لهم كافة الضمانات والحقوق الواجبات المقررة لأعضاء الجهات القضائية”.

[28] راجع “شرعية المحاكمات العسكرية للمدنيين= بطلان التأسيسية“، صادر عن مجموعة “لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين” بتاريخ 29-11-

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان ، مقالات ، مصر ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني