إنفجر قبح النظام في وجوهنا. ففي عصر 4 آب الماضي، نشب حريق في مستودع في مرفأ بيروت أدى إلى إنفجار هائل (هو الأكبر في تاريخ بيروت) بفعل تخزين أطنان من مادة نترات الأمونيوم في أحد عنابر المرفأ. وقد أدّى الإنفجار إلى تدمير أحياء كاملة من العاصمة (لا سيما في مناطق الكارنتينا والرميل والجعيتاوي وفسّوح والأشرفية إلخ.) وسقوط مئات من القتلى وآلاف من الجرحى، جاعلاً من بيروت مدينة منكوبة.

إنفجر قبح النظام في وجوهنا بعدما كان نجح في استغلال جائحة الكورونا لضبط الشارع وقمع ما تبقى من ثورة 17 تشرين. وهو كان قد أقرّ – قبل حدوث الإنفجار – إقفالاً آخر للبلاد ومنعا غير مشروع للتجوّل فيه لغاية 10 آب 2020، فألزم الناس المكوث في بيوتها لينفجر قبحه فيهم ويصل إلى عقر دارهم بعد أيام فقط.

إنفجر قبح النظام في وجوهنا، وبعد الصدمة الأولى وتهافت سكّان بيروت بالآلاف إلى المستشفيات وانشطار زجاج المباني في أرجاء العاصمة، تفاقم غضب الشارع إزاء النظام القاتل في إثر اتضاح تورّط هذا الأخير ومسؤوليته في حدوث الإنفجار. ومعه، علت الأصوات الشعبية المطالبة بالإنتقام. فكلمت “إنتقام” ظهرت على معظم الأفواه وخرجت من معظم الأقلام، فيما إحتلّت كلمتي “تحقيق” و”عدالة” مراتب ثانوية في الساعات الأولى من النقاش العام.

الثأر”، لأن التحقيق والعدالة خذلانا… الثأر، لأن النظام يستغلّ قوّته لإحتلال الفضاء العام ومنابره لتبييض صورته، محاولاً إمّا رمي المسؤولية على القضاء (الذي يعجز هو الآخر الدفاع عن نفسه بفعل موجب التحفظ) وإمّا تشتيت المسؤولية على مختلف أركان النظام بغية إغراقها في تفاصيل تركيبته وهلاكها… والثأر، لأن التحقيق والعدالة محتكران من قبل النظام المجرم، فكيف عسى للمجرم أن يحقق ويحاكم ذاته؟ وهو نفسه من شوّه، قبل أيّام من الإنفجار، أنشودة “بيروت ستّ الدنيا” للشاعر نزار قبّاني، مستبدلاً عبارة “الثورة تولد من رحم الأحزان” بلالات بائسة، وكأنه يسعى لمحو الثورة وواقع الأحزان من ذاكرتنا المشتركة. أمّا بعد فشله بتلك المهمّة، ها هو يفجّر بطلة الأنشودة، بيروت.

ولم تمضِ ساعات على الإنفجار الجرمي حتى تبنّت الحكومة بيان المجلس الأعلى للدفاع، لا سيما لجهة إعلان بيروت مدينة منكوبة وإعلان حالة الطوارئ فيها لمدة أسبوعين قابلة للتجديد (أي من 04/08/2020 لغاية 18/08/2020)، وذلك سنداً للمرسوم الإشتراعي رقم 52 الصادر بتاريخ 05/08/1967، على أن تتولى السلطة العسكرية العليا فوراً صلاحية المحافظة على الأمن، وتوضع تحت تصرفها جميع القوى المسلحة بما فيها قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والجمارك ورجال القوى المسلحة في الموانئ والمطار وفي وحدات الحراسة المسلّحة ومفارزها بما فيها رجال الإطفاء. فكيف نقرأ إجراء الحكومة هذا لإدارة الكوارث الوطنية، في ظلّ مطالبات الثأر الشعبية؟

إعلان حالة الطوارئ لضبط الشارع

إعلان حالة الطوارئ يجسّد مجدّداً مقاربة النظام الأمنية لمعالجة الكوارث الوطنية وعسكرة لها. ففيما كان بوسع النظام الإستعانة بمرسوم التعبئة العامة لاستنهاض القوى الوطنية ومضافرة الجهود بهدف دعم ضحايا الإنفجار وإزالة الأنقاض، آثر النظام “إعلان حالة الطوارئ” بما يتيحه له من إجراءات إستثنائية واسعة مؤداها تمكينه من ضبط الشارع وقمعه مجددا. فالنظام يبدو مرتاعا بعدما فضح الإنفجار قبحه ودمّر كل جهوده في استغلال جائحة الكورونا لقمع الإنتفاضة الشعبية التي بدأت في منتصف تشرين الأول 2019.

ففور إعلان حالة الطوارئ، تتولى السلطة العسكرية العليا صلاحية المحافظة على الأمن وتوضع تحت تصرفها جميع القوى المسلحة (قوى الأمن الداخلي والأمن العام والجمارك ورجال القوى المسلحة في الموانئ والمطارات ومخافر الاحراج وفي وحدات الحراسة المسلحة ومفارزها بما فيهم رجال الإطفاء إلخ.). وعليه، يصبح بمتناول هذه السلطة العسكرية أن تتخذ سلسلة من الإجراءات الإستثنائية خلافاً لضمانات القانون العادي إزاء الحقوق الأساسية والحريات، لا سيما منها: مصادرة الأشخاص والأشياء والممتلكات؛ تحري المنازل في الليل والنهار؛ فرض الإقامة الجبرية على الأشخاص الذين يقومون بنشاط يشكل خطراً على الأمن (دون تحديد ما قد يشكل خطراً على الأمن وبالتالي إمكانية توسيع هذا المفهوم ليشمل أي نشاط لا يتناسب ونهج النظام والسلطة)، وتالياً منع الإجتماعات المخلة بالأمن (وفق ما ترتئيه مخلا بالأمن)، ومنع تجول الأشخاص والسيارات (دون حاجة لتبرير مثل هذا الإجراء)، ومنع النشرات المخلة بالأمن وإتخاذ التدابير اللازمة لفرض الرقابة على الصحف والمطبوعات والنشرات المختلفة والاذاعات والتلفزيون إلخ. مع الإشارة إلى أن هذا الأمر لا يقتصر على مدينة بيروت وحسب. فالمادة 5 من المرسوم الإشتراعي رقم 52 تخوّل السلطة العسكرية أن تحيل أمام المحكمة العسكرية الجرائم الواقعة على أمن الدولة وعلى الدستور وعلى الأمن والسلامة العامة، وإن وقعت هذه الجرائم خارج الإقليم المعلنة فيه حالة الطوارئ (أي خارج بيروت).

هذه هي حفنة من مفاعيل إعلان حالة الطوارئ القانونية. ويتبين إذ ذاك مدى إمكانية إستغلال مثل هذا الإعلان لشرعنة الطاغية وجعله مدخلاً لإجراء إنقلاب على الديمقراطية ومبادئها. وخير دليل على ذلك هي السوابق التاريخية، لا سيما في المنطقة العربية، حيث إتسمت إعلانات “حالة الطوارئ” بطابع مستدام، رُسخت من خلالها مكانة أنظمة إستبدادية ورهنت شعوبها وقمعتها لسنوات وعقود. بالمقابل، يُشار أنه وفق المادة 2 من نفس المرسوم الإشتراعي المذكور، فبعد إعلان حالة الطوارئ من قبل الحكومة، على مجلس النواب أن يجتمع للنظر بهذا التدبير في مهلة ثمانية أيام وان لم يكن في دور الإنعقاد. ولا يمكن قراءة هذه المادة إلاّ من منظور وجوب تصديق البرلمان لمثل هذا الإجراء، بصفته السلطة الرقابية الدستورية العليا على الحكومة، لئلا يتحوّل إعلان حالة الطوارئ إلى إنقلاب عسكري.

وأمام شرعنة الطاغية على هذا النحو، تُرك الشعب اللبناني – مجدداً – وحيداً للدفاع عن نفسه. فكيف عسانا أن نقرأ دعوات الثأر في هذا الإطار وبعد أشهر حافلة تخللتها إنتفاضة شعبية وإنهيار إقتصادي وجائحة؟

الثأر لإستعادة العدالة المحتكرة

“وإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْساً بِنَفْسٍ وَعَيْناً بِعَيْنٍ وَسِناًّ بِسِنٍّ وَيَداً بِيَدٍ وَرِجْلاً بِرِجْلٍ وَكَياًّ بِكَيٍّ وَجُرْحاً بِجُرْحٍ وَرَضاًّ بِرَضٍ.”[1]

لا يمكن قراءة قانون الثأر هذا وفق تحويره الثقافي الآيل إلى شرعنة غريزة الإنتقام الإنسانية، بل يقتضي قراءته وفق إطاره البنيوي ضمن القانون المدني العبري (أو السينائي)، ومفاده الأساسي يكمن في تعزيز التناسب بين الضرر والتعويض. فالعين بالعين لا يعني إقتلاع عين مقابل عين، بل يعني التعويض عن العين بما يساوي قيمة هذه العين، وقوامه الأساسي هي مسؤولية المقترف الشخصية عن التعويض المتناسب للضرر الناجم عنه[2]. على هذا الأساس أيضاً يقتضي قراءة دعوات الثأر في الشارع اليوم ومن منظور ما تعرّض له هذا الشارع من خذل من قبل النظام. فالنظام القاتل، هو نفسه يحتكر العدالة في لبنان، لا سيما من خلال تعرضه التاريخي لإستقلالية القضاء في البلد مقابل تخصيصه مئات المليارات من ليرات الخزينة لتمويل محكمة دولية خاصة لمحاكمة قتلة رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، بدلاً من تخصيصها لتمويل وتطوير القضاء اللبناني وضمان إستقلاله، في حين يقبع هذا الأخير على ركام فتات دولة مفلسة، عاجزاً عن إحقاق رسالته في العدالة بشكل فعّال.

وعليه، تبدو دعوات الثأر كأحد تجليات العدالة الشعبية الخاصة البديلة عن العدالة المؤسساتية المحتكرة، على نحو يجسّد قطيعة مفصلية بين الشعب الغاضب والثائر والنظام الطاغي، بحثاً عن تعويض متناسب وإحقاق فعّال للعدالة إزاء ما إقترفه هذا النظام بحق الشعب. فكيف لدعوات الثأر ألا تتجلى أمام من ينصّب نفسه حكماً في جريمة إقترفها هو؟ وفي حين قد يكون نجح هذا النظام في استغلال جائحة الكورونا التي تفشت مطلع سنة 2020 لقمع ما تبقى من 17 تشرين، أتى إنفجار بيروت في 4 آب الماضي ليرنّ ناقوس النظام مجدداً. فيتحول الثأر (أو رغبته) إذ ذاك إلى انتفاضة مستجدة لاستعادة عدالة – ومعها سردية لواقعنا – يحاول النظام بائساً التمسك باحتكارها.


[1] العهد القديم، الخروج، الأصحاح 21؛ 23-24-25.

[2] Raphaël Draï, “Talion” in « Dictionnaire de la Culture Juridique », Quadrige / LAMY-PUF, 2003.