التقاضي الاستراتيجي اثباتا لحق السكن (نماذج تقاض في الهند وافريقيا الجنوبية والولايات المتحدة الاميركية)


2012-05-07    |   

التقاضي الاستراتيجي اثباتا لحق السكن (نماذج تقاض في الهند وافريقيا الجنوبية والولايات المتحدة الاميركية)

تم تكريس  حق السكن في العديد من المواثيق الدولية، واهمهاالاعلانالعالمي لحقوق الانسان (الحق في مستوى معيشي لائق) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافيةوالميثاق الاجتماعي الاوروبي والميثاق الافريقي لحقوق الانسان وحقوق الشعوب، بالاضافة الى العديد من التوصيات والمذكرات كالتعليق العام رقم 4 بشأن السكن اللائق من قبل لجنة الامم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعتبر الحق في السكن حقا قائما بذاته. كما عمدت دول عدة الى سن قوانين تضمن فيها حق الافراد بمساكن لائقة[1]. لكن ما مدى انعكاسات هذا الحق؟ وهل تتحمل الدولة اي مسؤولية في مجال تأمين مساكن ببدلات تتناسب مع مداخيل المواطنين، ام انها تكتفي بالقاء هذه المسؤولية كاملة على فئات اجتماعية معينة كالمالكين القدامى من خلال تمديد الايجارات القديمة مع ابقاء البدلات متدنية، بما يشبه الاستملاك من دون تعويض او على الاوقاف في اطار المساعدة charityالطائفية بعيدا عن مفهوم الحق؟ وما هو الوضع القانوني للذين اتخذوا مساكن في املاك عامة او في املاك سواهم لفترات طويلة، فهل يترتب من جراء ذلك اي حق ام ان حاجتهم للسكن لا تغير شيئا من واقع الاعتداء؟ وماذا بشأن الذين هدمت مساكنهم او هجروا منها؟ اسئلة كثيرة قد يطرحها المشرع مرة ومرارا دون الوصول الى اي نتيجة، فيما يبقى الحراك الحقوقي، وخصوصا القضائي، في هذا المجال شبه معدوم. وفي هذا المقال، تقدم الكاتبة قراءة شبه تحريضية لحالات من التقاضي الاستراتيجي امام محاكم في دول عدة، بهدف تكريس هذا الحق (المحرر).

برز حق السكن في صلب التقاضي الاستراتيجي في دول عدة، وخاصة في الهند وافريقيا الجنوبيةوالولايات المتحدة. وقد حصل هذا التقاضي غالبا بمبادرة من اشخاص او مجموعات تم اخلاؤهم فعليا من قبل السلطات العامة او من خلال الدفاع عنهم في دعاوى تقدم بها مالكو الاراضي التي يشغلونها بطريقة غير شرعية لاخلائهم منها. وقد تم في حالات عدة بدعم من الجمعيات الاهلية[2] التي عمدت الى توكيل محامين عن هؤلاء. وهكذا، ظهر هؤلاء في غالبية هذه الحالات، ليس فقط على انهم اصحاب حاجة، بل احيانا على انهم معتدون على املاك عامة او املاك الغير، مما قد يرتب عليهم مسؤوليات جرمية من جراء ذلك.
حق السكن: اسناد مختلفة ومفاعيل متشابهة
وقد ادى هذا التقاضي الى صدور احكام متشابهة بعض الشيء، اقله من حيث نتائجها، في بلدان عدة، رغم اختلاف الاسناد والمرجعيات القيمية التي استندت اليها. وهكذا كرّست كلا من المحاكم الهندية ومحاكم جنوب افريقيا حق الافراد بالحصول على مأوى او مسكن بديل عن مسكنهم غير الشرعي، لتخلص تبعا لذلك الى تعليق قرارات الترحيل الصادرة بحقهم حتى تأمين هذه المساكن البديلة. كما وعمدت المحاكم الى فرض مواقع هذه المساكن ضمن مسافة جغرافية قريبة من المساكن التي يراد اخلاؤها، وذلك تفاديا لابعاد المواطنين عن اشغالهم او تغيير انماط عيشهم. وقد استندت المحاكم الهندية في هذا المجال بشكل خاص على النصوص الوضعية الداخلية. وهكذا، عدت ان حق السكن هو حق دستوري ينتج بشكل مباشر عن الحق في الحياة المضمون دستورا (مادة 21).ف”الحق في الحياة يتضمن الحق في الغذاء، والحق في الملبس، والحق في بيئة لائقة وسكن مناسب للعيش فيه … من شأنه ان يسمح للانسان ان ينمو بدنيا وعقليا وفكريا.”[3] بالمقابل، ركزحكم Grootbroomفي افريقيا الجنوبية بشكل كبير على المعاهدات والالتزامات الدولية لتكريس حق السكن وتحديد ابعاده. فقد استندت المحكمة الى المادة 11 (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليق رقم 3 من العهد الذي ينص على الالتزامات الاساسيةللدول الاطراف.
حق السكن، تأمين مسكن بديل كشرط للاخلاء:
وفي هذا السياق، تطرقتالمحكمة الدستورية في افريقيا الجنوبيةالى تقييم عمل مؤسسات الدولة ومشاريعها فيما يخص تأمين حق السكن. فاقرّت ان التدابير المتخذة من قبل الدولة غير كافية لانفاذ هذا الحق وحثّت الدولة على ان “تضع وتمول وتنفذ وتراقب التدابير اللازمة لتقديم الاغاثة الى من هم في حاجة ماسة”[4]ضمن مشروع متكامل بين مختلف القطاعات، يطال اكبر عدد ممكن من الفئات.لا بل ذهبت المحاكم ابعد من ذلك في حكم صدر في 1996[5] بحيث فرضت على الشركة العاملة لمصلحة بلدية المدينة المعنية تزويد المحكمة بخطة بناء للمساكن البديلة خلال مهلة شهرين. وفي قضية مماثلة[6]اصدرت المحكمةقرارا اجبرت فيه بلدية المدينة تقديم تقريرعما اذا كانت قد أمّنت اراضي بديلةلمحتلي أراض خاصة، كان قد تقدم مالكوها بدعاوى ضدهم. وإذ بدا من خلال التقرير الذي قدمته البلدية غياب اي سياسة إسكانية واضحة، أقرّت محكمة الاستئناف طرد المحتلين من الارض مع اعطائهم مهلة ستة اشهر للحصول على مساكن بديلة. وتبعا للطعن الذي قدمته الجمعية التي تمثل السكان، اجبرت محكمة التمييز البلدية باصدار تقارير دورية بالخطوات التي اتخذتها لتأمين المساكن البديلة وتم منع اخلاء الاشخاص حتى تأمين هذه البدائل. لا بل ان المحكمة ذهبت ابعد من ذلك في تطبيق صلاحياتها من خلال ادخال البلدية في القضية كطرف ثالث وبالتالي الزامها باتخاذ الخطوات الضرورية لتكريس حق السكن.
حق السكن: نحو احترام معايير دنيا لشروط السكن
لم تكتف المحاكم بضمان حق السكن، بل شددت ايضا على وجوب احترام معايير دنيا للبناء والخدمات التي تتوفر فيه. وقد اعتبرت المحكمة الهندية العليا ان “حق السكن يشملالحق بمساحة كافية للعيش، وبنية آمنة وكريمة، ومناطق محيطة نظيفة ولائقة، واضاءة كافية، وهواء نقي ومياه وكهرباء وصرف صحي ومرافق مدنية اخرى مثل الطرق وغيرها…”[7].
و في قضية بارزة في الهند3،تمكنت مجموعة من الأشخاص من مقاضاة متعهد بناء مساكن شعبية لعدم مراعاة المعايير المطلوبة في هذا المجال وتحويل تلك المساكن إلى مساكن تجارية وبالتالي رفع أسعارها. و بعد ان رفضت محكمة الإستئناف الطلب المقدّم من قبل الفئات الفقيرة، أقرّت المحكمة العليا أحقيته واعطت التوجيهات لضمانالتنفيذ الفعّال للخطة الاسكانية، مستخدمة عبارة “المسكن المعقول” Reasonable residence  لتحديد المعايير المطلوبة، كما وفرضت على المتعهد التريث في تقسيم الشقق لحين التأكد من عدد طالبي الايجار ومن كونهم من الفئات الفقيرة وبالتالي تقسيم الشقق بناء على ذلك. واكدت المحاكم في قضايا اخرى على ضرورة تأمين هذه المساكن الشعبية ببدلات منخفضة بوسع الفئات الفقيرة تسديدها.[8]
وفي الاتجاه نفسه، اعتبرتاللجنةالاوروبية للحقوق الاجتماعية ان “السكن الملائم” يعنيالمسكنالذي هو آمن من الناحية الهيكلية والصحية والذي تتوفر فيه الحماية من الاخلاء القسري وغيرها من التهديدات[9].
حق السكن، في مواجهة الاخلاء القسري ورفع بدلات الايجار:
في قضية سبق ذكرها اعلاه، رفضت المحكمةالعلياطلب اخلاء حوالي 2500 شخصا من اراض احتلوها6. واستندت المحكمة الى الدستور والقوانين المحلية معتبرة انه “لا يمكن للمحكمة طرد هؤلاء الا بعد النظر في جميع الظروف ذات الصلة، والتي تشمل وضع جميع المسنين والمعوقين، والاطفال بمن فيهم الاطفال اليتامى والضعفاء، والاسر التي ترعاها النساء”.
و لم تكتف المحكمة العليا برفض طلبات الاخلاء، وانما عاقبت السلطات المتعسفة. فاذ عمدت السلطات في احدى المدنالهندية الىطرد غير قانوني لمحتلي الاملاك العامة، من دون اي امر قضائي بعدما هدمت اكواخهم واضرمت النار فيها، اصدرت المحكمة حكما عد سابقة قانونية، امرت  بموجبه المدعى عليهم, أي بلدية المدينة, وزير الشؤون الداخلية ووزير السلامة والأمن, المشاركين في عملية الاخلاء غير القانوني، بالتكافل والتضامن، بناء مساكن للسكن المؤقت مساوية لتلك التي قاموا بتدميرها.[10]
امّا في الولايات المتحدة، فقد برزت مؤخرا قضية كرّست من خلالها المحاكم الحق في المساكن الشعبية. فقد تقدم اكثر من مائة مستأجر بدعوى ضد الشركة المؤجرة[11]والتي تعمل اساسا في مجال تأمين المساكن الشعبية على خلفية قيامها برفع بدلات الايجار بشكل عشوائي ومن دون انذار مسبق، معتبرين ان في ذلك نوع من استغلال للسلطة.وعلى الرغم منعدمصدور حكمعلى الفوربعدجلسة الاستماع، تم التوصل الى اتفاق على انرفع الاسعار لنيصبح ساري المفعولحتىاجللاحق تحددهالمحكمة. وعللت المحكمة ذلك بالاضرار التي يمكن ان تتبع هذا التدبير، خاصة لجهة تشريد العائلات، مستندة الى ” fair housing act” الصادر عام 1968.
حق السكن و”التمييز العنصري”؟
فيما ارتكز التقاضي الاستراتيجي في كل من افريقيا الجنوبية والهند على تكريس حق السكن، خاصة “للفئات الأكثر ضعفا” كقبائل الدالي في الهند, اتخذ منحى “اضيق” في الحالات الاوروبية بحيث اتى ردا على ممارسات التمييز العنصري في مجال السكن، تحديدا ازاء الغجر.
ففي بريطانيا مثلا، تم طرد عائلة من الغجر كانت تعيش في موقع معين منذ اربعة عشرة عاما.وتبعا لمراجعات عدة، اصدرتالمحكمة الاوروبية لحقوق الانسان حكما[12]لحظت فيهان موقف السلطات ضعيفتجاه الغجر كاقلية وانه يجب مراعاة احتياجاتهم وانماط عيشهم المختلفة. واعتبرت انالاخلاء ليس مبررا ب”حاجة اجتماعية ملحة” او متناسبا مع الهدف المشروع المعلنلتخلص الى عده انتهاكا للمادة 8 (الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية) من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان والى الزام الدولة البريطانية بتسديد اكثر من ثلاثين الف يورو للمتضرر (أي ربّ العائلة)، في غضون ثلاثة اشهر من تاريخ ابرام الحكم. كما وادانت اللجنة الاوروبيةللحقوق الاجتماعيةكرواتيا وايطاليا وفرنسا لعدم اتخاذها الخطوات الضرورية لتفعيل برنامج السكن بحق الصرب والغجر وحثّتهم على اتخاذ الخطوات الضرورية لتحسين اوضع هؤلاء وتقديم التقارير المثبتة ذلك.
ومما تقدم، يظهر بوضوح دور التقاضي الاستراتيجي في ضمان حق السكن، في ظروف ودول مختلفة، ومعه ضمان حقوق الفئات الاكثر احتياجا.

نشر في العدد الرابع من مجلة المفكرة القانونية



[1] ففي فرنسا مثلا, تم الاعتراف بالحق في السكن اللائق كحقاً يستوجب التطبيق الفوري من جانب الهيئات القضائية والإدارية، عملاً بالقانون رقم 2007/290 المؤرخ 5 آذار/مارس 2007.
[2]ECCR,COHRE, LHR…
[3]M/S. Shantistar Builders vs Narayan Khimalal Totame And … on 31 January, 1990:
[4]Government of the Republic of South Africa v Grootboom;
[5]Ahmedabad Municipal Corporation v Nawab Khan Gulab Khan
[6]Occupiers of Erf 101, 102, 104 and 112 Shorts Retreat, Pietermaritzburg v Daisy Dear Investments (Pty) Ltd and Others, [2009] 4 All SA 410 (SCA)
[7]Chameli Singh v State of UP
[8]PG Gupta v. State of Gujarat and Ors, 1995 Supp.(2) SCC 182, in 1994
[9]European Social Charter (Revised), Conclusions 2003, Volume 1, European Committee of Social
Rights, p. 363.
[10]Tswelopele Non-Profit Organisation and Others v City of Tshwane Metropolitan Municipality and Others, 2007 (6) SA 510
[11]South Delta Regional Housing
[12]case of Connors v. the United Kingdom
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني