التعيينات في مصرف لبنان والرقابة على المصارف: عناوين مغيّبة عن الخطاب العام

،
2020-04-03    |   

التعيينات في مصرف لبنان والرقابة على المصارف: عناوين مغيّبة عن الخطاب العام

منذ فترة، باشر مجلس الوزراء التباحث في ملء ثلاثة عشر منصبا شاغرا في الهيئات المالية: أربعة لنواب حاكم مصرف لبنان، خمسة في لجنة الرقابة على المصارف، ثلاثة لمدراء في هيئة الأسواق الماليّة ومنصب مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان بناء على اقتراح وزير المالية.

وأكثر ما استوقفنا خلال الأسبوعين الماضيين هو الخطاب الذي رافق البحث في التعيينات لهذه المناصب. وأبرز ما رشح عنه هو توجّه العديد من القوى السياسية الوازنة لاعتبار أن لهم حقا مكتسبا في تعيين أشخاص في مراكز وليس الإكتفاء بمناقشة الترشيحات المطروحة من ضمن الحكومة. وعليه، تداول الإعلام أسماء مع تحديد مرجعيتها الطائفية والسياسية، من دون ذكر مؤهّلاتها وخطّتها وإنجازاتها. بل أن مقالات عدة اقتصرت على نشر معلومات بهذا الشأن على نحو يعكس تطبيعا مع آلية التعيين هذه (حصص للثنائي الشيعي، حركة أمل، تيار المستقبل، تيار المردة، الحزب الديموقراطي، الحزب الإشتراكي، رئيس الجمهوريّة والتيار الوطني الحرّ، رئيس الحكومة، حزب الطاشناق). بل ذهب العديد من رؤساء الأحزاب حدّ التهديد بعدم حضور الجلسة وبسحب وزرائهم من الحكومة أو استقالة نوّابهم من المجلس النيابي في حال لم يُعطوا الحصّة التي “يستحقونها” في التعيينات.[1]

وقد تميّزت مواقف عدة من داخل الحكومة، الأوّل لوزيرة العدل ماري كلود نجم التي انتقدت في تغريدة لها منذ يومين حجم الزبائنية والمحاصصة عند البحث في التعيينات[2]، وقد عادت لتؤكده في مقابلة متلفزة أمس على قناة LBC. والثاني لوزيرة الإعلام منال عبد الصمد التي أيدت في تغريدة أمس موقف نجم. وقد تكلّل هذان الموقفان أمس بإعلان رئيس الحكومة حسّان دياب سحب موضوع التعيينات من جدول أعمال مجلس الوزراء، احتجاجا على الضغوط السياسية بهدف المحاصصة، واعدا بوضع آليات أكثر شفافية لإقرارها[3].

وكانت منظمات ثلاث (كلنا إرادة والمفكرة القانونية والجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين) أصدرت بيانا أمس استهجنت فيه استمرار ممارسات المحاصصة والتي من شأنها تقويض أي فرصة لإجراء إصلاحات مالية أو مصرفية، وبخاصة في هذا المنعطف المصيري من حياة لبنان.

وعند التدقيق في هذا الخطاب في مختلف تجاذباته، نلحظ أنه خلا من عناوين أساسية بقيت مغيبة عنه أو وردت فيه بشكل هامشي وخافت. ومن أهم هذه الملاحظات، الآتية:

1تضارب مصالح يكرسه “القانون”

الغائب الأكبر عن الخطاب هو “تضارب المصالح” المُكرّس قانوناً بشأن هذه التعيينات، حيث أن القوانين الحالية تمنح جمعية المصارف حصة وازنة ضمن الهيئات المالية والمصرفية، بما فيها الهيئات التي انوجدت لمراقبتها. فالقانون يسمح الآن لجمعية المصارف بتعيين عضويْن من الأعضاء الخمسة في لجنة الرقابة على المصارف، أحدهما مباشرة يعين بناء على اقتراحها[4] والآخر تسمّيه مؤسسة ضمان الودائع التي تسيطر جمعية المصارف على أغلبية المقاعد فيها[5] (4 من أصل 7 أعضاء في مجلس الإدارة تنتخبهم المصارف). كما تسيطر جمعية المصارف على تعيين عضوين في هيئة مراقبة الأسواق المالية  حيث أنّ أحد الأعضاء السبعة في هيئة الأسواق المالية يُعيّن بناءً على اقتراح جمعية المصارف فيما أن عضواً آخر يعين بناء على اقتراح بورصة بيروت التي تسيطر المصارف على معظم نشاطها[6]. ومن شأن هذا الأمر أن يشكل حالة شاذة من شأنها تفلّت المصارف من أي رقابة جدية[7].

وهذا ما يؤكده الأستاذ الجامعي هشام صفي الدين حيث جاء حرفيا في مقال حديث له: “وقد تمكّنت جمعية المصارف من الحصول على كوتا تمثيلية وازنة في كل من هذه المؤسسات (لجنة الرقابة على المصارف، الهيئة المصرفية العليا، مؤسسة ضمان الودائع) بالرغم من ادعاء استقلاليتها. فبحسب قانون 28/67 ، تتألف لجنة الرقابة على المصارف من خمسة أعضاء يتم تعيينهم بموجب مرسوم من مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية. لكن أحد هؤلاء تقترحه جمعية المصارف وأحدهم تقترحه المؤسسة الوطنية لضمان الودائع. والأخيرة، هي بدورها هيئة مشتركة بين القطاع العام والقطاع المصرفي. وبالرغم من مساهمة الدولة بنصف رأسمالها، تنتخب المصارف 4 أعضاء من مجلس إدارتها بينما يعين مجلس الوزراء الثلاثة الباقين. أي أن غالبية الأعضاء يمثلون قرار الجمعية. وعليه، فإن حصة مؤسسة ضمان الودائع في لجنة الرقابة هي بشكل غير مباشر حصة جمعية المصارف. وبما أن الجمعية تقترح أيضا عضواً من الأعضاء الخمسة بشكل مباشر، يتبين أن إثنين من أصل ثلاثة أعضاء في لجنة الرقابة محسوبان على جمعية المصارف”.[8]

وما يفاقم من تغييب هذه المسألة، هو أن المقالات الصحفية تتجاهل تماما عند استعراضها أسماء المرشّحين، الجهات التي أسمتْهم، بما يغيّب أكثر فأكثر تضارب المصالح المكرّس قانونا.

2- تضارب مصالح بفعل لوبي المصارف والمحاصصة

فضلاً عن ذلك، فإن التدقيق في أسماء المرشحين المقدمة من وزارة المالية يظهر في العديد منها تضارب مصالح فاقعا، لجهة ارتباط هؤلاء بمصارف أو بقوى سياسية وازنة، وغالبا بالإثنين معا بفعل التزاوج الحاصل بين المصارف وهذه القوى.

ومن الأمثلة الفاقعة على ذلك، اقتراح إسم رئيسة لجنة الإمتثال في أحد المصارف[9] ذات اللون السياسي الفاقع لمنصب مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان ما يثير ارتباكا وشكوكا حول دور وزارة المالية الرقابي على مصرف لبنان ومدى تنازلها عنه واستمرارها في غض النظر عن سياسة مصرف لبنان النقدية المسخّرة عموماً لصالح المصارف والقوى السياسية على حساب المودعين.

وللدلالة على خطورة هذا التوجّه، يجدر التذكير بأن المصارف سيطرت في التعيينات الأخيرة على أربعة مقاعد في لجنة الرقابة عليها، من بينها رئاسة اللجنة التي شغلها أحد أكثر أعضاء جمعية المصارف السابقين نفوذا[10]. علما أن دور رئيس اللجنة لا يقتصر على نشاطاتها، إذ هو يشغل علاوة على ذلك منصبا في مجلس هيئة الأسواق المالية وفي هيئة التحقيق الخاصة.

وعليه، يجدر بأي تعيينات موضوعية أن تضع معايير لمنع تضارب المصالح هذا أو على الأقل لضمان حسن إدارته.

3- تخصيص المراكز لطائفة معينة مخالفة للدستور

أمر آخر يقتضي التنبيه له، هو التطبيع الحاصل في الترشيحات مع تخصيص المراكز لطوائف معينة في مخالفة واضحة للمادة 95 من الدستور التي نصّت على أن الكفاءة والإختصاص هما المبدآن الأساسيان لملء الوظائف الشاغرة حتى في وظائف الفئة الأولى التي تقسّم مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، فضلاً عن عدم جواز تخصيص أي مركز لأي طائفة.

فباستثناء البيان الصادر عن المنظمات الثلاث والمشار إليه أعلاه، بدا كأنما ثمة تطبيعاً مع تخصيص المراكز طائفيا، حيث تناولت الصحف المرشحين عن كل طائفة للمفاضلة فيما بينهم، من دون أي إشارة إلى عدم دستورية هذا التوجه. وخطورة هذه الممارسة تتجلى في ثلاثة محلات: (1) أنها كثيرا ما تؤدي إلى تغليب الانتماء الطائفي على الكفاءة، (2) أنها تؤدي إلى إعطاء القوى السياسية الوازنة في الطائفة المعنية أحقية حسم الترشيحات بعد اعتبار أنها تدخل ضمن حصتها أو إقطاعها. وطبعا، وفي حال تعدد القوى الوازنة ضمن طائفة معينة، فإنه يتعين عليها الاتفاق على الحصة العائدة لكل منها ضمن حصة هذه الطائفة. وهذا ما يفسر النقاش المحتدم بين التيار الوطني الحر وتيار المردة في خصوص الأعضاء المسيحيين. والخطير في هذا الأمر وفق ما أشارت إليه وزيرة العدل نجم في تصريحها المتلفز أمس أن هذه القوى تتصرف عند طرح الترشيحات على المراكز المخصصة لطوائفها أن لها وحدها حق المناقشة والحسم، (3) أنها غالبا ما تؤدي إلى تحويل هذه المراكز إلى إمارات تابعة للقوى السياسية المخوّلة ملأها والتي تكون هي نفسها عند كل استحقاق وإن تغيرت الوجوه أو الأسماء.

ومن البيّن تاليا أن مخالفة هذه القاعدة الدستورية إنما يشكل المدخل الأساسي والضمانة الأساسية لنفاذ وفعالية آلية المحاصصة.

ختاما، يجدر التذكير في هذا المضمار أن أحد أسباب ردّ التشكيلات القضائية من قبل وزيرة العدل إلى مجلس القضاء الأعلى في بداية هذا الشهر تمثلت في مخالفتها للمادة 95 من الدستور، بعدما ثبت تخصيص مراكز قضائية لطوائف بعينها.

4- المناظرات العلنية تكريسا للشفافية

تطرّقت العديد من الجمعيّات والصحف والقوى السياسية الوازنة إلى ضرورة إجراء التعيينات بشفافية من دون أن يحدّدوا معنى ذلك وكيفية القيام به، خاصة أنّ تجارب لبنان مع التعيينات غالبا ما تتّسم بالسرية. وقد جاء موقف رئيس الحكومة إيجابيا البارحة لناحية تشديده على ضرورة اعتماد الشفافيّة مع اعترافه بعدم وجود آليات لضمانها وضرورة البحث في كيفيّة وضعها.

وقد تميّز بيان المنظمات الثلاث المشار إليه أعلاه بالمطالبة بشكل محدّد بوضع آليات واضحة وشفافة وتنافسية عبر نشر شروط ومعايير التعيين لكلّ مركز والسماح بتقديم الطلبات لكلّ اللبنانيين المستوفين الشروط وتقييم الطلبات بحسب معايير الإختيار التي تم نشرها مما يشكّل خطوة أساسية في طريق الشفافية. إلا أنه يبقى من المفيد أن يضاف إلى ما تقدم من إجراءات مسألة المناظرات العلنية والتي ينتظر فيها من كل مرشح على مركز معيّن أن يبين المؤهلات والتصورات التي تجعله أهلا لإشغاله وأن يصرح عن حالات تضارب المصالح في حال وجودها. وما يزيد من أهمية المناظرات العلنية هي دقّة المرحلة الإنتقالية التي نشهدها وتراجع مشروعية السلطة السياسية فضلا عن أن أسماء المرشحين تبقى مجهولة بالنسبة لمعظم الشعب اللبناني، خاصة المودعين منهم، رغم تأثيرها المباشر على حياتهم اليومية.


[1] هدد النائب سليمان فرنجية باستقالة وزرائه في حال لم يتم إعطاءه حق تسمية عضوين فيما هدّد الحريري باستقالة نوابه في حال لم يعيّن محمد بعاصيري بحسب جريدة الأخبار. فرنجية «مصمّم» على الاستقالة و5 وزراء يعترضون على التعيينات: هل ينقذ دياب الائتلاف الحكومي؟2/4/2020

[2] عبر حسابها على تويتر ” 30 سنة من المحاصصة الزبائنية بين زعماء الطوائف نتيجتها: فساد في بنية الدولة، 100 مليار دولار دين وما يزيد ، انهيار اقتصادي ومالي، يأس هجرة، انتفاضة…التوازن الطائفي مقبول على قاعدة الأكثر كفاءة، لا أكثر ولاء. مكافحة المحاصصة أصعب من مكافحة الكورونا”.

[3] “ماذا قال دياب عند نسف التعيينات؟” جريدة النهار، 2/4/2020

[4] فأحد الاعضاء الخمسة في لجنة الرقابة على المصارف يعيّن بناء على اقتراح جمعية المصارف بحسب المادة 8 من القانون 28/67

[5]  بحسب المادة 13 من القانون 28/67 أربعة من أصل سبعة أعضاء في مجلس إدارة مؤسّسة ضمان الودائع تنتخبهم المصارف المساهمة دون أن يشترك في التصويت ممثّلو أسهم الدولة فيما ثلاثة تعيّنهم الحكومة

[6] بحسب  المادة 6 من قانون الأسواق المالية 161/2011.

[7] بحسب الموقع الإلكتروني تسعى الجمعية الى توثيق أواصر التعاون بين المصارف الأعضاء من خلال وضع تصور مشترك لمصلحة القطاع العليا وتمثيل المهنة والدفاع الجماعي عن مصالح القطاع المصرفي.

[8]  هشام صفي الدين، ثالوث الحكم المصرفي: تاريخ من اللاإستقرار واحتكار القرار، ينشر في المفكرة القانونية، العدد 64، نيسان 2020.

[9] بحسب جريدة النهار في المقال الذي تطرّقنا إليه سابقا

[10] شغل سمير حمود أكثر من 10 سنوات في مجلس إدارة جمعيّة المصارف وقد عيّن في اللجنة على أنّه الخبير الإقتصادي و المصرفي و ليس كعضو تقترحه جمعية المصارف أو مؤسة الضمان و ترأّس اللجنة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني