قد يكون من المبكر الجزم بأن وفاة حسن الضيقة حصلت بفعل التعذيب الذي تعرض له بمناسبة التحقيق معه لدى أحد الأجهزة الأمنية. لكن ما يمكن الجزم به على ضوء هذه القضية أن عددا من أجهزة الدولة، في مقدمتها الحكومة اللبنانية، ما تزال تدير ظهرها للأحكام القوانين التي وضعت للوقاية من التعذيب أو لمكافحته وأن من شأن هذا الأمر أن يسهّل استمرار التعذيب بمنأى عن أيّ محاسبة. هذا ما يتأكد عند الإمعان في تفاصيل هذه القضية والتي تشكل مادة خصبة لاستكشاف سوء الممارسات المعتمدة واستخلاص الدروس (المحرر).

في نهار الأحد الماضي الواقع في 12/5/2019، استيقظ اللبنانيون على خبر وفاة الموقوف حسان الضيقة. وسرعان ما سرت أنباء على احتمال تعرّضه للتعذيب داخل السجن من قبل فرع المعلومات، علما أن والده المحامي توفيق الضيقة سارع إلى توجيه أصابع الاتّهام إلى النيابة العامة في جبل لبنان على خلفية رفضها إخلاء سبيله وتمكينه تاليا من تلقي العلاج اللازم، مما أدى إلى وفاته. ويلحظ أن الشاب المتوفي أربعيني، متزوج وأب لثلاث بنات يعمل مخلصاً جمركياً ولديه مكتب في بيروت، وقد وجهت إليه تهمة الإتجار في الممنوعات وذلك بحسب البيان الصادر عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.

فور انتشار الخبر، صدرت مجموعة من المواقف عن وزارة الداخلية والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والمسؤولين القضائيين في جبل لبنان. كما أخذت القضية أبعادا حقوقية بعد صدور بيان عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة والنائب السابق غسان مخيبر.

وتأتي هذه القضية لتطرح مجددا التساؤل حول مدى استجابة الأجهزة الأمنية والقضائية لمقتضيات قانون مكافحة جرائم التعذيب والذي تم إقراره في 2017. ففيما انشغل الرأي العام في عدد من الاتهامات الموجهة سابقا لجهاز أمن الدولة (قضية زياد عيتاني)، ها هو ينشغل اليوم في اتهام موجه لجهاز آخر غالبا ما تم تصويره على أنه جهاز يستخدم في تحقيقاته أحدث الوسائل التقنية.

وقبل المضي في استعراض المواقف الرسمية، رأينا من المهم أن ننقل بداية رواية والد الشاب المتوفي، والتي نأمل أن تحظى بتحقيقات جدية، بالنظر للمعطيات الخطيرة التي تتخللها.

رواية الأب

في البداية، وبعد التعزية، نسأل والد الشاب عن ظروف توقيف إبنه والتهمة التي وجهت إليه وأدّت إلى توقيفه نحو ستة أشهر، فيسارع إلى الإجابة: “لا يهم ما هي التهمة عندما يتعلق الأمر بقضية حقوق إنسان أدت إلى وفاة شاب في ريعان شبابه جراء التعذيب داخل أقبية السجن وتيتيم أسرته”.

ثم يتابع مستذكراً أدق تفاصيل “ليلة من الرعب”، حسب وصفه، عاشها وعائلته، فيعود إلى تاريخ 31/10/2018 ويقول: “كانت الساعة بين التاسعة والنصف والعاشرة إلاّ ربع ليلاً عندما حضرت قوة من أكثر من عشرين آلية مدنية وعسكرية بداخلها حوالي سبعين عنصراً بعضهم مقنع، وانتشروا في منطقة دوحة عرمون في المبنى الذي نسكنه أنا وابني، بين الطوابق وعلى السطح كما انتشروا في الشارع وراحوا يوقفون المارة ويطلبون منهم رفع العشرة. كما أوقفوا عددا من الجيران إلى الحائط ومنعوا الناس من الدخول والخروج من المبنى بمشهدية يمكن وصفها بـ “ميني جاهلية” (وقصد بها المعركة التي حصلت مؤخراً في منطقة الجاهلية بين عناصر قوى الأمن الداخلي ومناصري الوزير السابق وئام وهاب)

وتابع:”لم نعد نسمع سوى الصراخ و”خرطشة السلاح”. فتحت زوجتي الباب واقتربت أنا لأرى ماذا يحصل. كان الأمر مذهلاً حقاً. كانوا ينادون باسم إبني ويصرخون أنهم يراقبونه ويعرفون أنه موجود هنا. في حين أن لدى إبني مكتب في قلب بيروت وكان من السهل الوصول إليه من دون حاجة الى كل هذا السيناريو”.

أنا لم أعرف من هؤلاء بداية وقد شعرت بخوفٍ شديد. وعندما سألت من أنتم، جاءني الجواب: “المعلومات”. عندها قررت أن أعرّف عن نفسي بأنني “المحامي فلان” وأنني والده”.

بعد ساعة من المناوشات بين الأب والعناصر الأمنية، طلب الأخير من إبنه أن يفتح الباب ففتحه فوراً ويروي الوالد: “دخلوا وطلبوا منه أن يرفع يديه إلى الأعلى فرفعها. كانوا بالعشرات وقاموا بتفتيش المنزل ففتحوا كل شيء ونبشوا كل زاوية ومكان فلم يعثروا على شيء واستمر الأمر لنحو ساعتين من الوقت”. ويقول الوالد: “دخلوا دون أي اعتبار لحرمة المنزل ولا خصوصية وجود أطفال. لم يعثروا على شيء من الممنوعات، فأخذوا هويته والباسبور وهوية زوجته وأطفاله وبطاقة الائتمان وأشياء تتعلق بالأولاد والمدرسة، بالإضافة إلى مفاتيح السيارة التي فتحوها وبحثوا فيها فلم يعثروا على شيء. ثم أخذوه وانطلقوا. وقد قمنا بتصوير الموكب”. ما يذكره عن الدقائق الأخيرة قبل أخذ ولده أنه كان يرجوهم ألا يضربوه”.

أوقف الضيقة الإبن بتاريخ 1/11/2018 عند الساعة الثالثة فجراً ثم انقطع اتصال عائلته به نحو تسعة أيام كان موقوفاً خلالها لدى فرع المعلومات. ويقول الوالد: “بعد تسعة أيام، تلقّيت منه اتصالاً لثوانٍ، ما كدت أن أقول له “بابا كيفك” حتى أقفل الخط”.

يتابع: “تسعة أيام لم أتمكّن من رؤيته. كنت أبكي باستمرار: أريد أن أعرف أين هو، كي أراه من دون نتيجة. وفي الوقت نفسه تقدمت بطلب تعيين طبيب شرعي لكن لم أستطع تسجيل الطلب ولم أكن أملك أي إثبات بذلك”. وهنا يقول الضيقة الأب: “خلال الأيام التسعة هذه، لم أتمكن حتى من تسجيل طلب أمام النيابة العامة لتعيين طبيب شرعي بعدما منعتني النيابة العامة من ذلك”.

بتاريخ 9/11/2018، تم نقل ضيقة الإبن إلى النيابة العامة ووضعه في نظارة قصر بعبدا. وقد حاول الوالد أن يقدّم طلبا لإحضار طبيب شرعي ولكنه لم ينجح في ذلك. وبتاريخ 16/11/2018 مثل الضيقة الإبن أمام قاضي التحقيق الأول نقولا منصور دون محام، ثم صدرت مذكرة توقيف بحقه. وعن هذه النقطة، يقول الضيقة الأب: “بتاريخ 16/11، توجه محامٍ بالوكالة عني لرؤية إن حددت له جلسة فعلمنا أن الجلسة انعقدت من دون محامٍ”.

وبتاريخ 23/11/2018، مثل الموقوف أمام محكمة الجنايات. وقد حضر والده الذي رأى إبنه “في حالة مزرية”. وعن ذلك قال: “لقد أثار شفقة القاضي الذي طلب من العناصر الاهتمام به لأنه يبدو عليه التعب. على ضوء ذلك، تقدمت بطلب لدى المحامي العام الاستئنافي سامي صادر لتعيين طبيب شرعي بعدما عرفت حالته وعلمت أنه تعرض للتعذيب. فأصدر قراراً بتعيين طبيب شرعي ولم يحدد من هو وما هو اسمه، ووضع ذلك على نفقة المستدعي علما أنه بحسب القانون فإن هذا الطلب يكون على نفقة قوى الأمن أو وزارة العدل. ومع ذلك، وافقت على الأمر فطلب مني إحضار طبيب شرعي فإتصلت بأول واحد موجود على هاتفي وكان “نعمة الملاح”. رجوته الإسراع، لأنه من المعروف أن الأطباء قد يكونون منشغلين وأنا كنت أريده بأسرع وقت ليتم إثبات آثار التعذيب قبل زوالها. ويبدو أن الكلام بيني وبين الطبيب كان مسجلاً واعتُبر أنه كلام لاستلطافه. المهم قام الطبيب بمعاينته أمام القوى الأمنية في النظارة من دون حضوري، ثم أصدر تقريراً سلمه إلى النيابة العامة. أنا لم أطلع على هذا التقرير بداية وإنما حصلت لاحقا على صورة عنه ثم أخرجت 200 ألف ليرة وأعطيته إياها بدل أتعاب ثم انصرف. لكن النيابة العامة طعنت بهذا التقرير لاحقاً ووجهت إلي تهمة الرشوة. وأشار الضيقة الأب إلى أن “تقرير الطبيب لم يتم ضمه إلى ملف التحقيق وإنما بقي عند النيابة العامة”. ومن أبرز ما نص عليه التقرير أن الضيقة الإبن “يعاني من ألم في أسفل الظهر مع صعوبة بالحركة ناتجة عن عنف، ويلزمه صورة رنين مغناطيسي” فضلا عن أنه يظهر على جسده آثار ضرب وكدمات.

كما لفت الوالد إلى أنه طلب بتاريخ 26/11/2018 تعيين طبيب نفسي لإبنه فتمت الموافقة على ذلك على نفقته أيضاً فكشف الطبيب عليه بتاريخ 29/11/2018 وأخذ بدل أتعاب 500 دولار أميركي وأعطى الطبيب تقريره إلى قوى الأمن ومن ثم إلى قاضي التحقيق. ولكن لم يضم تقريره إلى الملف أيضاً.

بعدما علم أن إبنه تعرض للتعذيب استفاد، بحسب قوله، من وجود القانون 65/2017 الذي يشدد معاقبة التعذيب ليتقدم “بشكوى ضد فرع المعلومات”، فقامت النيابة العامة في جبل لبنان بتحويلها إلى “فرع المعلومات”، بدل التحقيق فيها مباشرة. وكذلك كان حال كل الشكاوى التي تقدمت بها وهنا بدأت أتعرض للتهديد”.

تابع: “عندها حصل اتصال مع القصر الجمهوري وصعدت وسلمتهم نسخة عن الشكوى التي تقدمت بها، فضلاً عن المستندات وصور المداهمة. ثم في اليوم التالي تم الاتصال بي وإعلامي أن الشكوى تحوّلت إلى وزير العدل في ذلك الوقت سليم جريصاتي الذي حولها إلى مدعي عام التمييز وطلب إجراء التحقيق بالموضوع، وقد وصلت الشكوى إلى النيابة العامة في جبل لبنان فقامت بتحويلها إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي”.

يلفت الضيقة إلى أنه “بحسب القانون عندما يتم تقديم شكوى يجب على القاضي خلال 48 ساعة إما أن يقوم بالتحقيق فيها أو أن يحفظها أو أن يحوّلها إلى قاضي التحقيق. لكن بقيت الشكوى نحو شهرين لدى “فرع المعلومات”. عندها، عمدت إلى تقديم شكوى مباشرة لدى قاضي التحقيق الأول نقولا منصور. إلاّ أن القاضي منصور لم يقبل تسجيلها وقال أنه يجب أن تكون أمام القضاء العسكري، فأجبته أنه بحسب القانون 65 وفي الأسباب الموجبة هناك نص يقول أن صاحب الاختصاص للنظر بهكذا نوع من الشكاوى هو القضاء العدلي المدني وليس القضاء العسكري. عندها رد علي قائلاً، تريد أن تتقدم بشكوى هنا وتضعني في مواجهة مع فرع المعلومات؟” (وقد علمنا لاحقا أن الشكوى سجلت رسميا إلا أن الضيقة الأب تراجع عن هذه الشكوى لأسباب لم يشأ الإفصاح عنها وإن نقلت بعض المواقع حصولها بناء على طلب مسؤول سياسي).

ويروي المحامي الضيقة معاناته لمدة ثلاثة أشهر في هذه القضية. وهو يروي أنه في نهاية المطاف، ساعده النائب غسان مخيبر بالاتصال برئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد حتى قبل بالسير بالشكوى، كما توجه إلى وزير العدل ألبير سرحان الذي اتصل بالنيابة العامة في بعبدا التي أصرت على أن هذا التقرير مزوّر.

في شهر شباط 2019، أدخل الضيقة الإبن إلى مستشفى الحياة. وكان يعاني من ارتفاع حاد بالضغط وقد تمكن والده من الحصول على تقرير يشير إلى أن ابنه “دخل إلى المستشفى وضغطه 19 كما كان يبكي ويصرخ من الألم ويعاني من تورم في ساقه اليسرى وألم ووجع بالظهر”.

وتابع: “في هذا الوقت”، أخذت علما من مصادر في وكالات الأمم المتحدة التي كانت أجرت كشفا أن ثمة كرسيا كهربائيا يستخدم في التحقيق الأولي لدى مركز المعلومات، وعند استعماله على الشخص يترك آثارا على الظهر ويؤثر في أعصاب الرجلين ويؤدي إلى الشلل”.

من مستشفى الحياة، تمّ نقل الضيقة الإبن إلى سجن رومية. وبفعل الوساطة، تمكن والده من نقله إلى سجن عاليه لأن زيارته هنالك أسهل للوالد والعائلة. وعن ذلك قال: “في إحدى الزيارات، أخبر والدته أنه ما عاد بإمكانه أن يستحم وحده وأن المساجين يساعدونه. عندها صعدت إلى السجن لرؤيته. قال لي أنه ما عاد يستطيع السير على رجله. فأخبرته أنني أقوم بطلب طبيب من أجله لكن لم يكن يتم تسجيل هذه الطلبات. وفي زيارة بعدها من قبل زوجتي، رأته محمولاً من قبل رفاقه في السجن. وإذ سقط بين أيديهم وبدأ بالصراخ من الوجع، فكشف عليه طبيب السجن الذي أخبر زوجتي أن وضعه تعيس جداً وبحاجة لإجراء صورة رنين مغناطيسي”.

بتاريخ 22/3/2019، تمّ إجراء صورة الرنين المغناطيسي لضيقة الإبن في مستشفى الإيمان في عاليه. وبنتيجتها، تبين أنه بحاجة إلى إجراء عملية جراحية. ويتابع الضيقة الأب قائلاً: “في هذا الوقت، قام قاضي التحقيق بتعيين طبيب شرعي له وهو وحيد صليبا والذي أخذ مني 400 ألف ليرة بقرار من قاضي التحقيق”. أضاف: “وكنت قد تقدمت بطلب إخلاء سبيل بناء على اقتراح قاضي التحقيق الذي قال لي أنه في حال أظهر الطبيب الشرعي أن وضعه الصحي سيئ سأوافق على إخلاء السبيل. ورغم أن التقرير أظهر أن وضعه تعيس، لكن القاضي عاد ورد الطلب. وأخبروني أنه يجب إدخاله إلى المستشفى لأن وضعه يتفاقم فقلت لهم أدخلوه فقالوا لي أن ذلك سيكون على نفقتي”.

بتاريخ 2/4/2019، دخل الضيقة الإبن إلى المستشفى مجدداً. وبتاريخ 4/4/2019 طلب والده من الطبيب المعالج تقريراً بحالته فحصل من الطبيب “روجيه قصعة” على تقرير ذكر فيها أن”هناك “فتق” كبير الحجم في الظهر ويحتاج إلى عملية جراحية مستعجلة ضرورية كي لا يتطور وضعه مشيراً إلى أنه يعاني طرف شلل في رجله”. أخذ الضيقة التقرير وعرضه على النيابة العامة وقاضي التحقيق ظناً منه أن هذا الأمر سيساعد لكن أحداً لم يهتم.

ويتابع: “بتاريخ 6/4/2019، حصلت على تقرير جديد يفيد أنه بعد إجراء العملية، يجب عليه أن يبقى نائماً مدة ثلاثة أشهر دون أن يتحرك، وأنه يحتاج إلى علاج مدة ستة أشهر بعد إجراء العملية التي لا يجوز تأخيرها حتى لا يتفاقم الوضع. عندها تقدمت بمذكرة تضم كل هذه التقارير وأبلغتها للنيابة العامة في بعبدا وكانت برفقتي المحامية فاطمة علامة، فجوبهت بكلام بمنتهى القسوة مفاده “أن ابني يكذب ويمثل وأن النيابة العامة ستطلب من نقابة المحامين رفع الحصانة عني وحبسي”. بكيت في محضر النيابة العامة راجيا إياها النظر في الملف، لكن من دون جدوى. وعليه انصرفت.

استخدم الضيقة كل الوساطة الممكنة لمساعدة ابنه إلى أن قدّم شكوى إلى المفوضية السامية في الأمم المتحدة. وبعد الاستعانة بالوساطة، طلبت النيابة العامة في جبل لبنان مني أن أتقدم بطلب تعيين طبيب شرعي. وعندما صدر القرار بتعيين طبيب شرعي مع تكليفي بتسديد سلفة 400 ألف ليرة، توجهت إلى جبيل حيث يقيم الطبيب المذكور وأخذته لرؤية ابني فأصدر تقريره بظرف مغلق بالشمع الأحمر مكتوب عليه جانب النيابة العامة حتى لا أتمكن من معرفة مضمونه. في موازاة ذلك، حصلت من المستشفى على تقرير طبي أكد على ضرورة إجراء العملية وأنه ما عاد بالإمكان إعطاء أبر الكورتيزون والمسكنات لأنه بذلك ستتضرر الكلاوى والكبد. ومع ذلك، لم نحصل على إذن إخلاء سبيل، فلم يجرِ إبني العملية. تفاقم وضعه الصحي ثم اتصلوا وقالوا لنا “تفضلوا استلموه”.

ردود الأفعال الرسمية

غداة وفاة الضيقة، أصدرت وزيرة الداخلية والبلديات ريا الحسن بياناً أعربت خلاله عن أسفها لوفاته. وأعلنت في بيان أنها أعطت “تعليماتها إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان بضرورة اتخاذ الاجراءات الفورية لفتح تحقيق للوقوف على أسباب الوفاة” .واللافت أن الوزيرة عمدت إلى تبرئة ذمة قوى الأمن الداخلي من دون انتظار نتائج التحقيق. فبعدما أكدت الحسن “التزامها الكامل تطبيق المعاهدات العالمية لحقوق الانسان”، أكدت على عدم حصول اي ممارسات تنتهك حقوق الإنسان”. واللافت أنها دعت إلى “عدم التسرع في إطلاق الاحكام ليأخذ التحقيق مجراه القانوني”. كأنما التسرع في إطلاق الأحكام يكون فقط عند الإدانة، وليس فقط عند منح إبراء ذمة قبل أي تحقيق. كما غرد وزير العدل ألبرت سرحان عبر موقع التواصل الإجتماعي “تويتر”، متعهداً بإجراء التحقيقات اللازمة لكشف ملابسات القضية.

أما النائبة العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، فنفت في بيان صدر عنها رفضها “تعيين طبيب شرعي لمعاينة الموقوف”، مصرّحة أنها هي التي “نقلت الموقوف إلى المستشفى وعينت لجنة طبية لمعاينته”، وأن قرارها “موجود في الملف”. بدوره، أكد قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان، أنه “قبل الشكوى على المحققين في فرع المعلومات على الرغم من عدم بيان كامل هويتهم وفقا للأصول ولما هو متعامل به عليه أمام قاضي التحقيق الأول في الشكوى المباشرة. إلا أن والد المرحوم عاد وتراجع عن الشكوى لأسباب نترك له إيضاحها”، مضيفا “أن اختصاص النظر بتعيين طبيب شرعي يعود للنيابة العامة وكذلك نقل المريض إلى المستشفى، علما أننا اتخذنا قرارا بتكليف طبيب لمعاينة الموقوف إلا أن النيابة العامة لم توافق على اعتبار أن ذلك هو من اختصاصها، وأن الوالد هو على علم بذلك”.

بدورها، أصدرت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي شعبة العلاقات العامة بيانا رأت فيه بأنه “تم توقيف المرحوم حسان الضيقة من قبل شعبة المعلومات بتاريخ 3/11/2018″. وقد علق النائب غسان مخيبر في مؤتمره الصحافي على هذا التاريخ مبينا أنه يتعارض مع تاريخ التوقيف الحقيقي (والذي هو 1/11/2018) وفق ما ورد في القرار الظني.

وإذ كشف بيان الأمن الداخلي أن توقيف الضيقة حصل بتهمة تهريب مخدرات (وهو أمر لم ينفِه والده)، فإنه كشف أيضا أن التحقيق ختم معه بتاريخ 5/11/2018، إنما بقي في سجن المقر لحساب النيابة العامة لغاية 9/11/2011″. وعليه، يظهر باعتراف مؤسسة قوى الأمن الداخلي أن توقيفه لدى الضابطة العدلية استمر زهاء 7 أيام (وفق الوالد 9 أيام)، من دون أن يكون ذلك مبررا بحاجات التحقيق. وهذا الأمر إنما يعني بشكلٍ واضح تجاوز المهل القانونية للتوقيف خلال مرحلة التحقيق الأولي.

وبشأن اتهامات التعذيب، يجيب البيان بأمرين: الأول، أن “المرحوم حسان الضيقة” لم “يدلِ بأية معطيات حول تعرضه للضرب والتعذيب” أمام قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان بتاريخ 16/11/2018. ونلحظ على هامش هذا البيان أن قاضي التحقيق لم يباشر تحقيقاته إلا بعد 7 أيام من تحويله إلى نظارة قصر العدل في بعبدا.

الثاني، أن الطبيب الشرعي نعمة ملاح زوّر التقرير الذي تحدّث عن استخدام العنف ضد الموقوف الضيقة ووجود علامات ضرب وكدمات على جسده. ولتدعيم هذا القول، ذكر البيان أن الطبيب المذكور موقوف بجرم تزوير تقارير طبية شرعية، وأنه نظم تقريره بتاريخ 23/11/2018 بعد 20 يوما من توقيفه. كما ذهب البيان إلى حد تأكيد التواطؤ بين الضيقة الأب والطبيب، حيث جاء أنه “بنتيجة إجراء الدراسة الفنية على هاتفه (أي الطبيب)، تبين وجود تسجيلات ومحادثات صوتية بينه وبين المحامي توفيق الضيقة، تم خلالها الاتفاق بين الإثنين على تنظيم تقرير طبي لمصلحة إبنه بحيث يتم ذكر تعرض المرحوم حسان الضيقة لكدمات نتيجة تعرضه للتعذيب. وبنتيجة مواجهة الطبيب بالتسجيلات والمحادثات، صرح بأنها صحيحة وبأنه على معرفة بالمحامي توفيق الضيقة الذي طلب منه الكشف على إبنه، وأصر عليه بتنظيم تقرير طبي يظهر فيه تعرّض إبنه للضرب والإيذاء”. ولفت البيان إلى أنه “بتاريخ 20/3/2019 وبعد علم ومعرفة المحامي توفيق الضيقة بوقائع التحقيق المجرى مع الطبيب الشرعي، قام بتنظيم رجوع وإسقاط نهائي عن الشكويين اللذين كان قد تقدم بهما سابقا ضد عناصر من شعبة المعلومات بموضوع تعرض إبنه للضرب والتعذيب”.

وعند سؤال الضيقة الأب عن هذه المعطيات، سخر الضيقة من “تلفيق التهم له”. قال: “الطبيب أخذ مني مئتي ألف ليرة فقط في حين أن باقي الأطباء يأخذون أربعمئة ألف وأكثر ومع ذلك يتهمونني بالتزوير. نعم اتصلت به ورجوته لأن الاطباء يقولون عادة مشغولين وقبل أن تختفي آثار التعذيب لكنهم اعتبروا الأمر رشوة”.

مخيبر يطرح سبعة أسئلة هي بمثابة دروس نستشفها من هذه القضية ض له الضيقة

بتاريخ 14/5/2019 وخلال مؤتمر صحافي دعت إليه الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب،في نقابة محرري الصحافة اللبنانية في الحازمية، تناولت فيه قضية وفاة السجين حسان الضيقة، تحدث النائب السابق المحامي غسان مخيبر حول قضية حسان الضيقة باعتباره كان متابعاً لها، فاعتبر أنه بوفاته أثناء التوقيف الاحتياطي، “العدالة وحقوق الإنسان مفجوعين”. وأنه “مع دفنه، لا يجب أن نسمح بدفن المسؤوليات، حرصا على أن لا تتكرر الانتهاكات الجسيمة لأصول التوقيف والتحقيق والآليات للوقاية من التعذيب ومناهضته، أمام أية ضابطة عدلية أو أية نيابة عامة أو قضاء تحقيق”.

وقدم مخيبر سبعة أسئلة يرى أنه يتعين الإجابة عليها من دون تهرب. ونذكرها هنا تباعا بالنظر إلى أهميتها:

السؤال الأول اتصل بتحديد أسباب الوفاة، مع ما يفترض ذلك من الاطلاع على الملف الطبي والاستماع إلى الأطباء المعالجين. وقد تضمن هذا السؤال أسئلة فرعية أهمها أسباب تأخر المعاينات الطبية والمعالجة الجراحية،

السؤال الثاني اتّصل بعدم تقيّد النيابة العامة والضابطة العدلية بالمدة القصوى للتوقيف في إطار التحقيقات الأولية، بما يخالف المادة 47 من قانون أصول المحاكمات المدنية؟ وقد وضع مخيبر في هذا الإطار الأصبع على ممارسة جد خطيرة قوامها إبقاء الموقوف لأكثر من 4 أيام لدى الضابطة العدلية (وقد وصل التوقيف إلى 8 أيام في حالة الضيقة) مع التصريح على ملفه أنه موقوف بإشارة من النيابة العامة على سبيل الأمانة. وبالطبع، ليس هنالك أي سند قانوني لهذه الممارسة التي شكلت عاملا أساسيا لإتاحة توقيف المشتبه بهم خلافا للأصول القانونية. كما تساءل مخيبر عن أسباب تأخر تحقيقات قاضي التحقيق مع الضيقة لأكثر من 7 أيام بقي خلالها في نظارة قصر العدل. وكانت “المفكرة” سجلت سابقا هذه الممارسة القائمة على تأخير التحقيقات مع مشتبه به بانتظار اختفاء آثار التعذيب، كما حصل مع زياد عيتاني أمام القاضي العسكري رياض أبو غيدا.

السؤال الثالث، اتصل بحقوق الأشخاص المحتجزين المنصوص عليها في المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ومن أبرزها الإتصال الهاتفي ومقابلة محام وتقديم طلب بعرضه على طبيب لمعاينته. وقد شكك مخيبر هنا بما صرحت به قوى الأمن الداخلي لجهة أن الضيقة حيث صرح “بأنه لا يرغب بالإستفادة من أي من هذه الحقوق سوى الإتصال بذويه..”. فكيف يمكن وفق مخيبر لأي كان الإدلاء بمثل هذا التصريح، سيما وان والد حسان الضيقة هو بذاته محام وكان يسعى للإلتقاء بابنه؟ ثم عاد وسأل: “كيف يمكن لمساعدي الضابطة العدلية تدوين مثل هذا التصريح وهذه الحقوق تتعلق بالإنتظام العام ولا يمكن التنازل عنها؟”. كما أشار مخيبر أن الاتصال الهاتفي بذويه حصل بعد يومين من التوقيف ولم يكن فور الاحتجاز مطالبا التدقيق في وقت الاتصال (صرح الضيقة الأب أنه لم يتعدّ الثانية). ثم تساءل عن أسباب تأخر تكليف طبيبين شرعيين في هذه القضية؟ كما تساءل عن أسباب منع الطبيب الشرعي من إدخال هاتفه إلى داخل النظارة اثناء الكشف على الموقوف، مما حال دون تصوير آثار التعذيب؟ ثم تساءل عن أسباب إهمال تقرير الطبيب النفسي لجهة تضمينه ملاحظات حول حالة نفسية مقلقة “وحسب افادة حسان الضيقة للطبيبة الشرعية “هو تحت تأثير الصدمة الناتجة عن توقيفه وتعرضه للضرب والتعذيب”؟

وقد ختم مخيبر تساؤلاته هذه بسؤال كبير: “ألا تستدعي هذه الوقائع المدلى بها والموثقة بتقارير ولو بدء التحقيق باتهامات التعذيب المساقة من وكيل ووالد حسان الضيقة للوقوف على مدى صحتها، أقله عبر الإستماع إلى حسان الضيقة بهذا الشأن ولم يحصل ذلك ولو مرة واحدة منذ احتجازه الأول في 1/11 وحتى وفاته؟”

السؤال الرابع اتصل بالأسباب التي حالت دون حضور محام مع المشكو منه أو المدعى عليه عند عرضه على قاضي التحقيق بعد انتهاء فترة الإحتجاز الأولى.

السؤال الخامس، اتصل بأسباب تأخر النيابة العامة وقاضي التحقيق عن التحقيق في شكاوى التعذيب ضمن 48 ساعة خلافا لما تفرضه المادة 401 من قانون العقوبات.

السؤال السادس اتصل عن سبب إحالة الشكوى إلى الأجهزة الأمنية فيما أن المادة 401 المذكورة تفرض على قضاة النيابة العامة أو التحقيق الناظرين في الدعوى أن يتولوا بأنفسهم القيام بجميع اجراءات التحقيق في شأن الأفعال المنصوص عليها في المادة 401 من قانون العقوبات، دون استنابة الضابطة العدلية أو أي جهاز أمني آخر للقيام بأي اجراء باستثناء المهمات الفنية.

السؤال السابع، اتصل بتأخر الحكومة عن تعيين لجنة خاصة دائمة للوقاية من التعذيب.

تنديد دولي

كانت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان ميشيل باشليت دعت بتاريخ 14/5/2019 “السلطات المعنية إلى إجراء تحقيق شامل وفعال ومستقل” في وفاة الضيقة. وقالت: “إن الضيقة توفي على الرغم من تدخلات عديدة مارستها مجموعة متنوعة من هيئات الأمم المتحدة بما فيها المفوضية السامية لحقوق الإنسان مع السلطات اللبنانية بعد إدعاءات تفيد تعرّضه للتعذيب في السجن بعد اعتقاله في تشرين الثاني 2018 وحرمانه من الاجراءات القانونية الواجبة والرعاية الطبية الضرورية”. وأعلنت المفوضة السامية “أن وفاة حسان المأساوية تسلط الضوء على عدد من أوجه القصور الخطيرة للغاية في الأنظمة القانونية وأنظمة السجون في لبنان”. وأنه يبدو أنه “تم تجاهل قوانين البلاد على كل مستوى الفشل في التحقيق في مزاعم التعذيب الأساسية التي دعمتها تقارير الطب الشرعي بشكل دائم أم على مستوى رفض تقديم العلاج الطبي”.

ودعت السلطات اللبنانية على سبيل الاستعجال إلى تخصيص الموارد المطلوبة للجنة الوطنية لحقوق الانسان في لبنان التي تتمتع بموجب التزامات البلاد الدولية بما يعرف بآلية الوقاية التي يمكن أن تحدث تغييراً ملحوظاً في تنفيذ أحكام اتفاقية مناهضة التعذيب بما في ذلك أماكن الاحتجاز”.

مقالات ذات صلة:

قضية عيتاني، رسم كاريكاتوري للنظام اللبنانيّ: هكذا رقصنا على مذبح المحاكمة العادلة

كيف تتعامل الدولة اللبنانية مع فضائحها؟ فضيحة التعذيب في رومية نموذجاً (1)

كيف تتعامل الدولة اللبنانية مع فضائحها؟ فضيحة التعذيب في رومية نموذجاً (2)

نقاشات معيبة في مجلس نواب لبنان: التعذيب عمل أمني، ومن دونه على الدنيا السلام

المحاكم العسكرية وأخواتها في دول المنطقة العربية: رواسب ماضٍ أم ثوابت للمستقبل؟

شكوى دغيم بالتعذيب نائمة في أدراج العسكرية: أي إرادة للنيابات العامة في محاسبة جرائم التعذيب والتعويض على ضحاياها؟

مطالبة حقوقية بإحالة شكوى عيتاني بشأن التعذيب للقضاء العدلي: ومفوض الحكومة العسكري يستجيب

استجواب لافت في قضية “تلفيق تهمة العمالة لزياد عيتاني”: الغرفة السوداء موجودة وجرمانوس لا يحقّق في قضايا التعذيب

مسار مقلق في تعيينات أعضاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان: أين لجنة الوقاية من التعذيب؟

إقرار قانون معاقبة التعذيب: خطوة هامة إلى الأمام