التبني في تونس من مفخرة تشريعية الى موضوع سؤال


2014-09-24    |   

التبني في تونس من مفخرة تشريعية الى موضوع سؤال

في خطوة بدت جريئة في تاريخها، اجاز المشرع التونسي بموجب القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس 1958 التبني كسبب للبنوة القانونية. ورغم ان مؤسسة التبني كانت "مستحدثة" وتخرج عن ثقافة المجتمع التونسي وموروثه الثقافي، فان تجربة نصف قرن من اعمالها بينت تحولها الى "مؤسسة اجتماعية " تساهم في حماية استقرار الاسرة التونسية. فقد استفادت منه الأسر التي حرمت من انجاب أبناء، كما تمكن الأطفال المهملون ومجهولو النسب من امكانية التمتع بالحق في الهوية وفي التمتع برعاية اسرية. وتكشف لغة الارقام بوضوح عن  تحول التبني الى تقليد اجتماعي اذ تذكر احصائيات المعهد الوطني لرعاية الطفولة انه خلال الفترة الفاصلة بين سنتي 2008 و2011 تم تبني 2000 طفل في تونس وذلك في مقابل 4082 طفل تم تبنيهم في فرنسا سنة 2008. ونظرا الى الخصوصية الثقافية للبلدين والتفاوت الديموغرافي بينهما، يظهر من الارقام ان التبني في تونس بات من الآليات التشريعية الاساسية للتعاطي مع حماية الطفولة المهمشة. 

انعكس نجاح القانون في تطوير بنية الاسرة التونسية وتصوراتها الثقافية حول مسألة البنوة على المسائل القانونية المطروحة. ففيما باتت صحة التبني أمرا محسوما، انحصرت الإشكاليات حول البنوة القانونية قبل الثورة في مسائل تتعلق بامكانية الرجوع عنه وبالطبيعة القانونية للتبني (عقد أم حكم قضائي)، وأيضا بحق المتبنى في معرفة اصوله الجينية بحثا عن تصور مؤسساتي يضمن الحق الاصلي في الهوية. الا أن الثورة وما تبعها من طروحات رسمية وسياسية أعادت النقاش الى مربعه الأول، أي مدى "شرعية التبني" بالنظر الى أحكام الشريعة الاسلامية. فقد خرجت المؤسسة الدينية الرسمية بعد انتخابات 23 اكتوبر 2011 عن تقاليد صمتها في هذا الشأن ليصرح مفتي الديار التونسية بتكفيره للتبني[1].

وقد أعاد بتاريخ 5-3-2014 وزير الشؤون الدينية في الحكومة الجديدة صياغة الموقف نفسه حين أكد أن قانون التبني يتعارض مع احكام الشريعة الاسلامية ويتعين الغاؤه[2]. وبدا الموقفان متناغمين مع ما صرح به سياسيون بارزون ينتمون للأغلبية النيابية والذين اكدوا عزمهم على تمرير نص قانوني يلغي التبني ليستعاض عنه بنظام الكفالة كبديل يستجيب لمقتضيات الشريعة الاسلامية. اذ وبمجرد الاعلان عن فوز حزب حركة النهضة ذات التوجهات الاسلامية باغلبية مقاعد المجلس الوطني التاسيسي، بادر رئيس الحزب السيد راشد الغنوشي[3] الى التصريح بكون حزبه الذي يتعهد بالحفاظ على مجلة الاحوال الشخصية باعتبارها اجتهادا اسلاميا يعتزم تمرير قانون يلغي التبني لكونه يخالف احكام الشرع الإسلامي. وقد عبرت النائبة بالمجلس الوطني التأسيسي عن حزبه السيدة سعاد بن عبد الرحيم عن الموقف نفسه حين أكدت انه لن يتم مراجعة قوانين الاسرة في تونس الا فيما تعلق بالتبني الذي سيعوض بالكفالة. ويبدو القول في ظاهره منسجما مع ما تضمنته الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي ساوت بين الكفالة والحضانة المستمدة من القانون الاسلامي والتبني في تحقيقهما لالتزام الدولة بتوفير "رعاية بديلة" للاطفال الذين حرموا "بصفة مؤقتة أو دائمة من البيئة العائلية"[4]. الا أنه من المعلوم أن نص الاتفاقية انما هدف في صياغته الى تحقيق التوافق بين الدول المشاركة في وضعها، مما يحتم اعادة طرح السؤال حول حقيقة ما يساق من مآخذ حول التبني. فضلا عن ذلك، تقتضي الإشارة الى أن الفصل 49 من الدستور التونسي الجديد منع المشرع من المس بالحقوق والحريات التي حماها، الأمر الذي يطرح سؤالا فيما اذا كانت الحقوق الناشئة عن التبني مشمولة بهذا الفصل، مما يؤدي عمليا الى منع المس به.

التبني والخشية من اختلاط الانساب  
يأخذ رافضو التبني بمقولة انه يؤدي الى اختلاط الانساب بما قد يشرع لمخالفة احكام القانون والشريعة. الا أن المشرع حرص خلافا للانتقاد المعلن على احترام مقاصد الشريعة باعتبارها مصدرا من مصادر القانون التونسي وان بدا شكلا أنه خالف نصوصا شرعية ناهية. فقد نص الفصل 15 من القانون على "أنّه في الصورة التي يكون فيها أقارب المتبنى معروفين، تبقى موانع الزواج قائمة". ويؤدي اعمال النص القانوني المذكور الى منع اختلاط الانساب بشكل يطابق في بعده الحمائي النظام الاسلامي. ويمكن القول ان اجازة التبني تضمن حماية افضل لمقصد "حماية الانساب من الاختلاط". اذ يؤدي منع التبني متى تحقق الى بروز ممارسات غايتها التحايل على أصل الحكم كأن يلتجئ الراغبون في التبني الى ادعاء أن المراد تبنيه هو ابنهم بيولوجيا خلافا للواقع[5]. وهو أمر يحول عند شيوعه دون تأطير القانون فعليا للواقع، ويفتح الباب على مصراعيه امام فكرة الاتجار بالأطفال من جهة وأمام إمكانية اختلاط للأنساب.

تميز التبني في مقابل البدائل المقترحة
طرحت الكفالة كبديل مفترض للتبني. إلا ان واقع النظام التشريعي التونسي يبين أنها مؤسسة قائمة الذات في المنظومة التشريعية التونسية. فذات القانون الذي أرسى التبني نظم في فصوله من 3 الى 5 الكفالة التي عرفها بكونها "العقد الذي يقوم بمقتضاه شخص رشيد يتمتع بحقوقه المدنية أو هيئة بكفالة طفل قاصر"[6]. ويتبين أن الكفالة عقد يرتب التزامات رعاية من قبل الكافل الذي يشترط فيه ان يكون شخصا معنويا او شخصا ماديا رشيدا تتعلق اساسا بالحضانة وما يتبعها من التزام بالرعاية الصحية وحماية الحق في التعليم والإنفاق وما ينجر عنه من التزامات مادية بين الطرفين تجعل الكفيل ملزما في حدود اقتداره بالإنفاق على مكفوله بما يحقق حاجياته. وهذا الالتزام ينتهي مفعوله بمجرد بلوغ المكفول سن الرشد المدني أي 18 عاما كاملة وتتم دون أن يكون لها اثر على الحالة المدنية للمكفول أو الكفيل فلا ترتب حقا في النسب او الارث او اي شكل من اشكال الاستحقاق لحق مالي في صورة وفاة الكافل قبل بلوغ المكفول سن الرشد. ويستفاد من ذلك أن الكفالة لا تمتع المكفول بهوية تضمن "عدم تعرضه للإقصاء الاجتماعي"، كما انها قد تؤدي لحرمانه في سن مبكرة من الرعاية القائمة كحق قانوني. وبذلك، يكون التبني بهذا المنظور اداة اكثر نجاعة في تحقيق حق الطفل في محيط اسري خصوصا وفي التمتع بحقوق الأبناء البيولوجيين من دون أي تمييز. فضلا عن ذلك، يجوز للشخص الاعتباري اي اساسا للجمعيات الخيرية التكفل، مع ما يعنيه ذلك من حرمان فعلي للطفل من التمتع بعلاقة انسانية قوامها الرعاية العائلية. وبنتيجة ذلك، يظهر ان التبني من منظور ما يوفره من استقرار نفسي ومحيط عائلي يضمن لمختلف اطرافه الحق في العائلة بشكل لا يتحقق في الكفالة التي تكتفي بتوفير الرعاية دون تمثل للبناء الاسري.

كما تجدر الإشارة الى أن نظام اسناد اللقب العائلي الذي ارساه المشرع التونسي بموجب القانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28/10/1998 المتعلق باسناد لقب عائلي للاطفال المهملين او مجهولي النسب يبقى بدوره قاصرا عن تأمين حقوق هؤلاء. فالهوية الافتراضية لا تحقق للطفل المهمل حق التمتع بأسرة محددة[7]. خصوصا وان قانون اللقب العائلي يقوم على فكرة اثبات البنوة التي ينكرها احد الابوين بواسطة التحليل الجيني. وهو ما يجعل منه اداة قانونية لاثبات الهوية تعجز عن تحقيق الدفء العائلي للطفل  ضمن علاقات اسرية طبيعية[8].

ويتضح مما سلف ان التبني يضمن كمؤسسة قانونية حق الاطفال الذين فرضت عليهم وضعية هشة، في الاسرة، وهي الخلية الأساسية للمجتمع وفق الفصل السابع للدستور التونسي. كما أن التبني يضمن للطفل الذي يتمتع به الحق في الكرامة ويحميه من التمييز بما ينسجم مع ما قرره الدستور التونسي من حقوق للطفل في الفصل 47 منه. وانطلاقا من ذلك، يؤدي توافق التبني في احكامه مع الحقوق الاساسية المحمية دستورا الى طرح السؤال حول جواز الغاء احكامه على ضوء الفصل 49 من الدستور المشار اليه أعلاه والذي يمنع المشرع من المس بالحقوق والحريات التي حماها. وهذا ما قد يتعين على المحكمة الدستورية الإجابة عليه في حال نجح الطرف الرافض للتبني في الغائه بالاستناد الى أحكام الشريعة.
الى ذلك، تم تسجيل صدور حكم قضائي برفض التبني[9]، الأمر الذي يطرح سؤالا آخر حول مدى توافق ذلك مع أدبيات العمل القضائي ومشروعية فرض القاضي لمعتقداته ومواقفه الشخصية على المتقاضين والقانون.
 
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا



[1]الشيخ عثمان بطيخ مفتي الديار التونسية سابقا تصريح لصحيفة الصباح التونسية نشر بتاريخ 03/01/2012 في تاريخ اضطلاعه بمهامه الرسمية وعادية.
[2] وزير الشؤون الدينية السيد منير التليلي تصريح لراديو موزاييك ف م منشور بصحيفة التونسية الالكترونية بتاريخ 05/03http://www.attounissia.com.tn/details_article.php?t=42&a=115399/2014
 
[3]تصريح الشيخ راشد الغنوشي لاذاعة اكسبراس ف م بتاريخ 27/10/2011
elbecha.com/videos/watch/758SKGOBW1GS
 
[4]اتفاقية حقوق الطفل اعتمدتها الجمعية العامة بقرارها 52/44 المؤرخ في 20 نوفمبر 1989 – انخرطت تونس في هذه الاتفاقية بمقتضى القانون عدد92 لسنة 1991 المؤرخ في 29 نوفمبر 1991.   
[6] يراجع في خصوص المقارنة الشكلية بين المؤسستين وثيقة مركز الكوثر منظومة حقوق المرأة في التشريع التونسي
wrcati.cawtar.org/index.php?a=d&faq=122‎
 
[7]ارست الفصول 1 و2 و3 من القانون نظاما يضمن للطفل مجهول النسب الحق في هوية افتراضية تتم النقص الوارد في معطيات هويته.                                              
 الفصل الأوّل:على الأم الحاضنة لابنها القاصر ومجهول النسب أن تسند إليه اسما ولقبها العائلي أو أن تطلب الإذن بذلك طبق أحكام القانون المتعلق بتنظيم الحالة المدنية. كما عليها في أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ الوضع أن تطلب من رئيس المحكمة الابتدائية المختصة أو نائبه أن يسند إليه اسم أب واسم جدّ ولقبا عائليا يكون في هذه الحالة وجوبا لقب الأم.ويقدّم المطلب إلى رئيس المحكمة الابتدائية التي وقع بدائرتها تحرير رسم الولادة. وإذا كان مكان الولادة بالخارج يقدم المطلب إلى رئيس المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة شريطة أن تكون الأم تونسيةالجنسية.وعلى ضابط الحالة المدنية أن يعلم وكيل الجمهورية المختص بعد انقضاء الأجل المنصوص عليه بالفصل 22 من القانون المتعلق بتنظيم الحالة المدنية بخلو رسم ولادة الطفل من اسم أب واسم جدّ ولقب عائلي للأب وجنسيته. وعلى وكيل الجمهورية بعد انقضاء الأجل المشار إليه بالفقرة الأولى من هذا الفصل أن يطلب من رئيس المحكمة الابتدائية الإذن بإتمام الرسم بأن يسند إلى الطفل مجهول النسب اسمأب واسم جدّ ولقبا عائليا يكون في هذه الحالة وجوبا لقب الأم.
الفصل 2: إذا لم يطلب أحد من أهل الأطفال المهملين أو مجهولي النسب إسناد عناصر الهوية إليهم في ظرف ستة أشهر بعد قبولهم من السلطة المختصّة، يجب على الولي العمومي المعرّف بالقانون المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني، أن يسند اسما إلى مجهولي النسب وفق أحكام القانون المنظم للحالة المدنية، كما عليه أن يطلب من رئيس المحكمة الابتدائية المختصة أن يسند إلى كل طفل مهمل أو مجهولالنسب اسم أب واسم جدّ ولقبا عائليا واسم أم واسم أب ولقبا عائليا لها. ويكون اللقب العائلي للطفل وجوبا اللقب المسند إلى الأب.
الفصل 3:لكلّ شخص تجاوز سنه العشرين عاما أن يطلب من رئيس المحكمة الابتدائية المختصة أن يسند إليه اسما ولقبا عائليا واسم أب واسم جدّ واسم أم واسم أبيها ولقبها العائلي أو بعض هذه العناصر إن كان خاليا من ذلك. ويكون اللقب العائلي للطالب وجوبا لقب الأب إن لم تسند إليه والدته لقبها العائلي.
 
[8]علاوة على احكام اثبات النسب كما نضمها الفصل 68 من مجلة الاحوال الشخصية ارسى قانون المتعلق باسناد لقب عائلي لمجهولي النسب نظاما موازيا لاينتهي باثبات نسب كامل للطفل ويرتب آثارا عن ثبوت البنوة بين نظامه الفصل 3 مكرر منه .الفصل 3 مكرّر:يمكن للمعني بالأمر أو للأب أو للأمّ أو للنيابة العمومية رفع الأمر إلى المحكمة الابتدائية المختصة لطلب إسناد لقب الأب إلى مجهول النسب الذي يثبت بالإقرار أو بشهادة الشهود أو بواسطة التحليل الجيني لإثبات أن المعني بالأمر مجهول النسب.وتبتّ المحكمة في الدعوى عند عدم الإذعان إلى الإذن الصادر عنها بإجراء التحليل الجيني بالاعتماد على ما يتوفر لديها من قرائن متعددة ومتظافرة وقوية ومنضبطة.ويخوّل للطفل الذي تثبت بنوته الحق في النفقة والرعاية من ولاية وحضانة إلى أن يبلغ سن الرشد أو بعده في الحالات المنصوص عليها بالقانون. وتبقى مسؤولية الأب والأم قائمة نحو الطفل والغير طيلة المدة القانونية في كل ما يتعلق بأحكام المسؤولية وفق ما يقتضيه القانون
 
[9] تحفظ الكاتب عن ذكر تاريخ الحكم عملا بموجب التحفظ، من موقع كونه قاضيا. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني