الإعلام يحاصر الناس ويهادن السّلطة


2021-01-28    |   

الإعلام يحاصر الناس ويهادن السّلطة
(رسم رائد شرف)

حطّ فيروس كورونا رحاله في لبنان في شباط 2020 وانطلقت معه حملة إعلامية “هيستيرية” لم تهدأ حتى اليوم. فبين “يا بلا مخ، خليك بالبيت” و”المستهتر، الحربوق، المتذاكي”، يستمرّ الإعلام في توبيخ الناس منذ قرابة سنة ويساهم في نشر الهلع. وبين “ليه فاتح المحل؟” و”ليه إنت ع الطريق؟” يواصل انتهاك خصوصيّتهم. ومن خلال وصف طرابلس بأنّها “قنبلة موقوتة” والجوع بأنّه “عذر أقبح من ذنب”، يقارب الفقر من منطق فوقي وطبقي يجهل الواقع وتعقيداته. وعبر عرض فيديوهات لناس تصارع الفيروس في المستشفيات ومقابلات لأطباء يحذرون من انهيار شامل للقطاع الصحي، يتجاهل 11 شهراً أضاعتهم الحكومة والمستشفيات الخاصّة لتجهيز نفسها لمكافحة الوباء. ومع استمراره في جلد الناس على الكارثة الصحية والاقتصادية التي حلّت بهم ومهادنة النظام وأصدقائه أصحاب النفوذ، يمعن في تحميل الأضعف مسؤولية أخطاء الأقوى. 

نعرض في هذه المقالة أبرز الإشكاليّات التي رافقت التغطية الإعلامية للوباء من خلال مراجعة نشرات أخبار المحطّات التلفزيونية، لاسيما “أل بي سي” و”أم تي في” نظراً للدور الكبير الذي أدّته في بثّ القلق في نفوس الناس وفي تحميلهم مسؤولية تفشّي الوباء بالدرجة الأولى. نحاول ومن خلال رصدنا لتغطيات شباط وآذار 2020 أي بعد تسجيل الإصابة الأولى في لبنان وتغطيات كانون الأول 2020 والثاني 2021، الإضاءة على حملات التأنيب والوشاية وانتهاك الخصوصية التي رافقت التغطيات من جهة وعلى مقاربة الإعلام لإشكاليّات الفقر والطبقية والحق في الصحّة من جهة أخرى. 

 

الإعلام يؤنّب الناس

أصاب الهلع الإعلام كما أصاب الناس. بدت وسائل الإعلام بعد تسجيل الإصابة الأولى بكورونا في شباط الماضي مرتبكةً، لا تفهم ماذا يجري ولا تعلم كيفية التعاطي معه. اختارت اللجوء إلى خطاب فوقي، أبوي، قوامه التأديب والتأنيب بشكل أساسي بدل تبنّي خطاب يتفهّم قلق الناس وخوفهم، ويبدّد هواجسهم ويسعى لمساعدتهم. 

انتهزت “أم تي في” الفرصة للتصويب على حزب الله وخلفه إيران عبر تحميلهما مسؤولية “تفشي” الوباء. “كأنّ ما تتكرّم به إيران على لبنان واللبنانيين لا يكفي، فأرسلت إلينا الكورونا لتكمل معروفها معنا” عبارة أتت في مقدمة نشرتها المسائية في 21 شباط 2020 بعدما أعلن وزير الصحة حمد حسن تسجيل الإصابة الأولى عبر طائرة آتية من إيران. حرّضت على المرضى لتصفّي حساباتها السياسية ضاربة عرض الحائط أبسط القواعد الأخلاقية وطالبت بإغلاق المطار فوراً فيما لم تحرّك ساكناً عندما سجلّت الإصابة الأولى بالسلالة الجديدة من الفيروس عبر رحلة آتية من بريطانيا. فلا حسابات سياسية مع الإنكليز، ولا اعتبارات صحية عندما يتعلّق الأمر بالسفر من بلاد “الغرب”.

تطوّرت حالة الهلع مع إعلان الحكومة قرارها بإقفال البلاد في آذار. أعلنت “أم تي في” حالة الطوارئ في البلاد متحجّجة بغياب الدولة. أطلّ مذيعو أخبارها يومياً لتذكير الناس بضرورة تحمّل مسؤوليّاتهم في ظلّ تلكّؤ الدولة. “أيّها اللبنانيون، الـmtv تعلن حال الطوارئ، وتدعوكم إلى إعلانها طوعاً، فتحجروا على أنفسكم وأطفالكم، لأن دولتكم فقدت جرأتها، وتخلّت عن سيادتها غير عابئة بمصيركم”. 

بموازاة ذلك، ارتأت “الهيستيريا” الإعلامية التركيز على عنصرين أساسيين. الناس “البلا مخ” وهي عبارة فاخرت بها “أل بي سي” واعتمدتها نهجاً في نشراتها و“بطولات” الأحزاب في “معركة” مواجهة الوباء. “هناك صنف من البشر أقلّ ما يمكن أن يقال فيه إنّه “بلا مخ” وعديم المسؤولية ومستهتر…هناك صنف من البشر لا ينفع معه الحكي، وإلّا كيف يسمح لنفسه بأن يسير كالقطيع على كورنيش المنارة، وكأنّ لا كورونا في البلد”. لم يسبق لوسيلة إعلامية أن تعاملت بهذه الفوقية مع مجتمعها. سمحت لنفسها بتصنيف أفراده بالـ”بلا مخ”، و”القطيع” لمجرّد خروجهم للمشي على الكورنيش عندما كان لبنان يعلن عن 10 إصابات كحدّ أقصى يومياً. تبّنت هذا الخطاب طوال فترة الإقفال الأولى ورافقتها “الجديد” عبر إطلاق صفة “الاستهتار” على الأشخاص الذين خرجوا إلى السوق أو التنزّه.

في المقابل، حضرت الكاميرات لتغطية نشاطات الأحزاب في كلّ المناسبات: تعقيم الشوارع من قبل عناصر حزبية، توزيع المساعدات على الأهالي، استعداد الوحدات الطبية الحزبية لمواكبة المرضى، تجهيز المستشفيات المحسوبة على حزب أو زعيم. ونظّمت الوسائل الإعلامية حملات تبرّعات ليتمكّن السياسيون من إغداق “كرمهم” و”خيرهم” على “المحتاجين” وحرصت على شكرهم على ذلك. فتحوّلت الشاشات إلى منابر لهؤلاء وللمصارف في مشهدية أدّت إلى تظهيرهم مجدداً بمظهر “أبطال”، هم الذين ساهموا في إغراق المجتمع في البطالة والفقر بعدما دمّروا اقتصاده.

ساهمت الشاشات في زيادة منسوب الخوف لدى الجميع. استفاضت في مقدّمات نشراتها الإخبارية في الحديث عن الدولة “الغائبة”، “الضعيفة”، “اللا دولة”. سعت إلى تحييد النظام وتحميل الأفراد مسؤولية تفشي الوباء. ضغطت على الناس عبر حملات فوقية مثل حملة “خليك بالبيت” التي تبنتها “أل.بي.سي.” و”الجديد” والتي كرّست النبرة المتعالية للإعلام التي تفاقمت بعد التفشي المجتمعي للوباء في كانون الثاني. 

 

الإعلام المخبر والمنتهك لخصوصية الأفراد

ليش فاتح المحل؟ وين الغراض؟ رح تسكّر المحل هلّق؟ لازم تحطّ الكمّامة منيح”، سلسلة من الأسئلة وجهتها جويس عقيقي مراسلة “أم تي في” إلى صاحب محلّ في الحمرا. يتجسّس المراسلون على المواطنين. يحاولون ضبطهم “بالجرم المشهود”. يلاحقونهم إلى محالهم. يوجّهون إليهم الملاحظات ويهدّدونهم حتّى. لا تهمّهم الحجّة التي سيقدّمها صاحب المحلّ. فالمواطن الذي يعاني منذ أكثر من سنة من أزمة اقتصادية طاحنة لا رأي مشروع له طالما أنّ المراسل نصّب نفسه مرشداً يفوقه “فهماً”.

تقف مراسلة “أل بي سي” بيرلا النجّار على حاجز للدرك. تسأل المواطنين في سياراتهم: “لوين رايحين؟ شو رايحين تعملوا باللقلوق؟ يعني بظلّ منع التجوّل إنتو شباب عم تكزدروا؟” يحرّر الشرطي محضر ضبط في حقّ المواطن مباشرة على الكاميرا. يهوى الإعلام لعب دور القوى الأمنية. لا يكتفي المراسلون بالحواجز، يريدون التحقّق من حجج الناس وتوبيخهم وتحميلهم المسؤولية شخصياً. يخيّل للمشاهدين أنّهم يريدون إذلالهم في العلن حتى، هم الحريصون على البلد والدولة وصحّة المواطنين. يحرّضون الناس على بعضهم البعض، يشجّعونهم على الوشاية. وحين يتعذّر ذلك يؤدّون دور المخبر ولا يتركون فرصة إلّا ويلجأون إليها لفضح صاحب محلّ خياطة فتح محلّه “نص فتحة” أو صاحب محلّ لتصليح السيارات اضطر للعمل لتأمين قوته. 

وعندما يترك الإعلام الشارع، يتجّه إلى المستشفيات. “هذا الطابق مخصّص لمرضى كورونا. سندخل إليه. عادةً لا يمكن لأحد الدخول إلى هذا الطابق، نظراً لخطورة الأمر. في هذه الغرفة في العناية الفائقة تمكث ميرا ووالدها. لماذا هناك شخصان في هذه الغرفة؟ سنكتشف سوياً”. تفتح جويس عقيقي باب العناية الفائقة. اللحظة مشوّقة. تنقصها موسيقى درامية كانت على الأرجح سترافق التقرير لولا “معوقات” البث المباشر. “بصعوبة يتنفّس العم بولس”. تحاول الكاميرا التقاط أنفاس الرجل على آلة الأوكسيجين. تجول في غرف العناية الأخرى. تتلصّص الكاميرا على المرضى. تنتهك آلامهم. تختم عقيقي البث مستشهدة بالإنجيل: “قد تكون المشاهد التي عرضناها قاسية ومؤذية لكنها تعبّر عن واقع لا يزال كثيرون يستخفّون به. فرجاء لمن لا يزال يستهتر، نقول “توما توما ها قد رأيت بأمّ عينيك”. تحاول تبرير انتهاكها لخصوصية المريض وحرمة المرض عبر اللجوء إلى القديس توما الذي يمثل الشكّ عند المسيحيين. تريد إقناعنا أنّها اقتحمت غرفته لتثبت للمشاهدين بأنّ كورونا موجود. لم تكتفِ عقيقي بهذا القدر. نقلت مباشرةً من طوارئ مستشفى آخر عملية إنعاش قلب لمريض تعرّض لجلطة. توفيّ المريض أمام الكاميرا. ربّما علمت عائلته بالخبر عبر الشاشة لكن هذا لا يهمّ طالما أنّ عقيقي تحصد السكوبات متجاهلة أبسط قواعد المهنة. 

ها هو الإعلام مرة جديدة وبدل أن يترك الناس وشأنهم ليتابع إخفاقات النظام التي لا تعد ولا تحصى، يركض لمحاسبة الضعيف ويتساهل مع جرائم الأقوى.

 

الإعلام في ظلّ التفشّي المجتمعي

بدأت الكارثة الحقيقية في لبنان بعد قرار اللجنة الوزارية فتح البلاد خلال فترة الأعياد. توقّع الجميع أن يتسبب هذا القرار بمأساة على الصعيدين الصحّي والاقتصادي. وعلى الرغم من ذلك، بقيَ المسؤول عن المصيبة لدى الإعلام هو نفسه: المجتمع.

“طوّر” الإعلام خطابه في ظلّ التفشّي المجتمعي للفيروس وزاد إلى جانب “البلا مخ” صفتي “الحربوق” و”المتذاكي“. لا تكاد تمرّ نشرة من أخبار “أل بي سي” بدون العودة إلى هاتين العبارتين. ولا تكاد تمرّ نشرة لا تحمّل اللبنانيين مسؤولية ما آلت إليه الأمور. تهاجمهم، تلومهم، تخاطبهم بفوقية، تحمّلهم مسؤولية وفاتهم ووفاة أهلهم. تصوّر أكفاناً وتسألهم: “شايفين هيدا الصندوق، يمكن كتار ما عندن فكرة عنه، بس هو يستخدم لنقل الأشخاص المتوفين بعد إصابتن بكورونا. عم نخوّفكن؟ أكيد، لأنه صار وقت تخافوا”. هكذا افتتحت مراسلة “أل بي سي” ساندرا أيوب أحد تقاريرها وهكذا تذكّرنا المحطة كل يوم “بمصيرنا” في حال التقطنا العدوى ونقلناها.

أما “أم تي في” فقررت اعتبار كلّ من يخرج من منزله بمثابة “قنبلة موقوتة تهدّد المجتمع اللبناني بأسره” وكلّ من لا يلتزم بالحجر “مشروع مجرم يهدّد حياة الآخرين”. 

(رسم رائد شرف)

الإعلام في مواجهة الفقر

يحرص الإعلام كل يوم تقريباً على رصد الحركة في طرابلس وسوق صبرا المُكتشَف مؤخراً. كأنّه يريد أن يثبت أنّ سكّان الأحياء الشعبية، الفقراء هم المستهترون الأشد خطورة. “هيدي الصور يلي التقطت لسوق العطارين بتأكّد إنه طرابلس مقدمة على كارثة صحيّة وهي بتشكّل حالياً قنبلة موقوتة رح تنفجر بوجه جميع اللبنانيين بسبب عدم التزام البعض بإغلاق الأسواق”، هكذا قرر تقرير على “أم تي في” التعريف عن طرابلس.

يحاول المراسلون دحض حجة الجوع إن عبر الجملة الأزلية “ما حدا بيموت من الجوع” أو عبر تسخيفها “هيدا عذر أقبح من ذنب” حسب مراسلة “أل.بي.سي” بترا أبو حيدر. تطلب زميلتها لارا الهاشم من الناس التحلّي بالصبر إلى حين توزيع المساعدات، المساعدات التي تعد الحكومة بتوزيعها منذ 11 شهراً وقيمتها 400.000 ليرة أي أقلّ من 50 دولار حسب سعر صرف السوق السوداء (أي السعر الحقيقي). تتوقع الهاشم أنّ هذا المبلغ سيكون كافياً لإبقاء الناس في منازلهم. فاتها أن تتوجه إلى أقرب سوق وتحاول شراء بعض الحاجيات لتخبرنا ماذا اشترت لها الـ400 ألف. تختم تقريرها “وإلى حينه صدّقونا لن تموتوا من الجوع، لا يخلو المجتمع اللبناني من التضامن والمبادرات الاجتماعيّة، لكن إن انقطع عنكم الأوكسيجين فما من إنسان قادر على ضخّه في رئتيكم”.      

تبحث المراسلات يومياً عن مواطن يقول لهم “ما في كورونا” لتوبيخه وتأنيبه. تحاول مراسلة “الجديد” حليمة طبيعة فهم هذه “الظاهرة”. “وكأنّ كورونا لم يجرؤ على دخول حيّ التنك في منطقة الميناء في طرابلس. في هذا الحي الفقير الشعبي الطابع تغيب أساليب الوقاية بكلّ أشكالها ولا يحضر فيروس كوفيد 19 إلّا بالشائعات المتداولة بين الأهالي، رافضين الاعتراف به. الفقر والجهل وصفة صحيّة في المناطق الشعبيّة من شأنها تحويل أيّ وباء إلى مصيبة فكيف إذا أضفنا قليلاً من الشائعات إليها؟”. 

لكن هل تساءل الإعلام لمَ يخرج سكان المدينة إلى السوق؟ لمَ يفتحون محالهم ويخاطرون بحياتهم؟ الجواب بسيط: لأنّ معظمهم يحتاج إلى العمل اليومي لتأمين أبسط حاجات عائلته. ومعظمهم يقضي نهاره على أمل أن يبيع أيّ شيء ليتمكّن من تسديد إيجار منزله وفواتير الكهرباء والماء. ومعظمهم لا يملك “امتياز” البقاء في المنزل. والأهم، لا يثق أغلبهم في هذا النظام لأنّ علاقتهم به لم تبنَ يوماً على الثقة. فهذا النظام بأجهزته وميليشياته تقاتل على أرضهم واستعملهم كفتيل لإشعال حروبه الطائفية وكمخزن لتأمين أصوات كافية لضمان نجاحه في الانتخابات النيابية. وحين استنزفهم، لم يلتفت إليهم، وعندما فعل، كان ذلك لتمكين شبكات الخدمات وتكريس الزبائنية وسيطرة الزعيم. وطرابلس التي لا يذكرها الإعلام إلّا في الاقتتال والتفجيرات والتظاهرات الدموية خير دليل على اضطراب العلاقة بين الدولة كمفهوم والمواطن. ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك خروج سكان طرابلس في الأيام الأخيرة في تظاهرات احتجاجاً على تردّي المستوى المعيشي وعلى غياب الحلول. وبينما تقمع القوى الأمنية والجيش المتظاهرين وتوقع بينهم الجرحى، يغيب الإعلام عن الشارع. وإذا حضر يحملّهم مسؤولية تفشّي العدوى أو تحذيرهم من أنّ التظاهرات ستؤدّي إلى مزيد من الإصابات، كما ألمحت “أل بي سي” في مقدمة نشرتها المسائية في 25 كانون الثاني. 

وبدل أن يحقق الإعلام في المساعدات التي كان من المفترض أن تقدّمها الدولة لأهالي طرابلس وغيرها من المناطق، وبدل أن “يعتل همّ” أمنهم الصحي والغذائي، رأى أنّه من الأجدى ملاحقة الناس في الشوارع وتصويرهم على أنّهم متخلّفون لا يفهمون خطورة هذا الوباء. وبدل انتقاد قرار وزارة الشؤون الاجتماعية إطلاق منصّة إلكترونية لتقديم طلبات الاستفادة من مشروع استهداف الأسر الأكثر فقراً “أونلاين”، يلاحقهم بين أروقة الشوارع لرصد “مخالفاتهم”. وبدل أن يدقّ ناقوس الخطر بعد أن كشف تقرير للبنك الدولي بأنّ نسبة الفقر ستغطي أكثر من نصف سكان لبنان بحلول عام 2021، اختار أن يصوّب على “الأضعف”، كصاحب دكانة في حيّ في برج حمود. وبدل أن يضغط لمحاسبة هذا النظام الذي كدّس الثروات بسبب فساده ودمّر المجتمع بسبب إهماله وفشله، والذي يتهرّب من تحمّل مسؤولياته والبدء بمعالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية، اختار أن يحاسب رجلاً فتح كشكه “الإكسبرس” لبضع ساعات في طريق الجديدة. يستمر الإعلام إذاً في جلد الضحية وتبرئة الجلّاد.

 

الإعلام يساير أصحاب النفوذ

والجلاد هنا ليس فقط النظام وزعمائه. بل هو أيضاً كلّ من يشاركهم النفوذ، وفي مقدمتهم أصحاب الكارتيلات الذين ضغطوا على اللجنة الوزارية والحكومة لفتح البلاد خلال فترة الأعياد. صحيح هنا أنّ الإعلام حذّر مراراً خلال شهر كانون الأول من خطورة هذه الخطوة لأنها ستفتح “أبواب الجحيم”. لكنه في المقابل، عرض إعلانات تروّج لحفلات رأس السنة وقابل الفنانين واستضافهم في نشراته وبرامجه لتشجيع الناس على السهر. “كل شي منظّم. التباعد تمام”: قالها الفنان ملحم زين في مقابلة مع “الجديد” فيما التفّ حوله حوالي 20 شخصاً بين مرافقين وصحافيين، فيما تُظهر الصور من حفله تكدّس الناس في الصالة من دون أي احترام لمعايير السلامة العامّة. 

حاول المراسلون في بعض التقارير عرض المخالفات داخل المطاعم، إن لناحية عدم الالتزام بشروط الاستيعاب أو السماح بتدخين النرجيلة. لكنه لم يوبّخ صاحب المطعم ولم يؤنبّ نقابة المطاعم والملاهي الليلية التي تفاخر نقيبها بأنّ الرقص خلال السهرات سيكون “على الطاولات“. اكتفى بإظهار بعض المطاعم المخالفة وبتقصير القوى الأمنية والشرطة السياحية من الناحية الرقابية. لم يلجأ هنا إلى خطابه الفوقي، لم ينتقد الفنانين المتباهين بحفلاتهم الـsold out ولم يحضر فجأة إلى أيّ من تلك السهرات للإضاءة على “الكوارث” الصحية الحاصلة. فالإعلام في هذه الحالة لا يريد إغضاب شركائه، المستثمرين في إعلاناته، والضيوف الدائمين على شاشاته ومعظمهم أصدقاؤه في الكواليس. حاول أداء دور متوازن لكنه في الواقع بقيَ على الحياد، يتفرّج على الخروقات الفاضحة في الملاهي تحت حجّة تشجيع السياحة وعلى المخالفات الجسيمة في الفنادق والمنتجعات تحت حجّة تحريك عجلة الإقتصاد. لم يتجرّأ على اقتحام الشاليهات في المناطق الجبلية كما يقتحم الدكاكين والعربات لأنّ أصحابها من النافذين، من هؤلاء الذين تحبّهم الشاشات ولا تغضب عليهم. أو ربما لاعتقاده بأنّ هؤلاء لا ينقلون العدوى، فهم “الفهمانين”، أصحاب الامتيازات، الذين سيمدّون “يد الخير” لحظة وقوع الكارثة. الكارثة التي كان الجميع ينتظرها وبخاصّة القطاع الصحّي.  

 

الإعلام والقطاع الصحّي

تفاقم الهلع بعدما أعلنت المستشفيات بلوغ قدرتها الاستيعابية في ما يخصّ مرضى كورونا. حطّت الكاميرات على مداخل الطوارئ، في غرف العناية الفائقة، في الممرّات. استضافت أطبّاء في النشرات حاملين رسالة واحدة “بقوا بالبيت لأن ما بقى فينا”. لهؤلاء أحقية في مطالبة الناس الالتزام بالإقفال فهم يعانون الأمرّين. لكن في موازاة الحرص على تكرار الرسالة في كل نشرة مسائية، كان حرياً بالإعلام التركيز أيضاً على حقيقة الوضع في المستشفيات، لاسيما الخاصّة. فقد كشف رئيس لجنة الصحّة النيابية النائب عاصم عراجي في 21 كانون الثاني لبرنامج “هنا بيروت” على “الجديد” أنّ أكثر من 47 مستشفى لم تفتح حتى الآن أقسام كورونا. كان يمكن لوسائل الإعلام المطالبة بمحاسبتها، والضغط على وزارة الصحّة لممارسة صلاحيّاتها بمصادرتها مثلاً. لكنه في أحسن الأحوال كشف عن أسمائها فقط ولفت إلى أنّه رغم زيادة عدد الأسرّة في العناية الفائقة، لن تتمكّن المستشفيات من تحمّل الضغط في ظلّ ارتفاع عدد الإصابات. وكما حيّد الإعلام النظام، نجح في تحييد المستشفيات الخاصّة بشكل أساسي. فهذه الأخيرة انتظرت 11 شهراً لتجهيز نفسها بحجة “أنّ لا داعٍ كان للهلع“، كما صرّح نقيبها سليمان هارون لبرنامج “صار الوقت” على “أم تي في”. تغاضى الإعلام عن هذه الفضيحة التي تستدعي محاسبة أصحاب هذا القرار، كما تجاهل تحضيرات المستشفيات بعد فترة الهيستيريا الأولى بين شباط وآذار 2020. وبعد إعلان المستشفيات وضع أسرّة لمرضى كورونا، تبيّن أنّ العدد محدود وأنّها تطالب أهل المريض بدفع مبالغ خيالية لاستقباله تراوحت بين 20 و30 مليون ليرة في العناية الفائقة، في بلدٍ لا يحظى أكثر من نصف مواطنيه بتغطية صحية. لم يهاجم الإعلام تلك الإجراءات، اكتفى بالإشارة إليها فحسب. لم يتطرّق إلى المعاشات المتدنيّة التي يتقاضاها الطاقم التمريضي وعمّال التنظيفات في حين راكم أصحاب المستشفيات وبعض الأطباء الثروات على مدى سنوات. فهو لا يريد إغضاب القطاع الخاص والمسّ بمصالحه المشتركة معه. وإلى جانب فضيحة المستشفيات، برزت فضيحة ماكينات الأوكسيجين. اختفت فجأة من السوق وبدأ المحتكرون التلاعب بأسعارها حتى وصلت كلفة الواحدة إلى ألف دولار أميركي والشرط الدفع نقداً. لم تتطرّق التقارير إلى احتكار الأوكسيجين الذي للعلم تحتكره شركتان فقط وتوزّعه على التجار. وبدل الضغط على هؤلاء لتسليم بضاعتهم وبيعها بسعرها العادي وكسر الاحتكار، حمّلت الوسائل الإعلامية ومن خلفها المعنيّون مسؤولية “اختفاء” الماكينات للمواطنين الذين “هجموا” لتخزينها في منازلهم. وأعدّت تقارير كنوع من “دليل” للحصول على الأوكسيجين بأسعار خيالية بدل مساءلة الشركات الموزّعة عن سبب هذا الارتفاع المفاجئ في الأسعار. وبموازاة ذلك، لحقت الكاميرات المواطنين إلى أمام مراكز الـpcr خلال فترة الأعياد لتصوير أعدادهم الكبيرة وتحذيرهم من التمادي في السهر في بلدٍ سمحت وزارة الداخلية فيه التجوّل حتى الثالثة بعد منتصف الليل طوال أسبوعي عطلة الميلاد ورأس السنة وفتحت مطاعمه وملاهيه لاستقبال “روّاد السهر”. لكنها تغنّت في المقابل بأرقام الفحوصات العالية التي تسمح بتتبع العدوى بشكل أفضل. عادت أعداد هذه الفحوصات للانخفاض مع بداية السنة وفي حين سجّل لبنان أرقاماً عالية جداً في عدد الإصابات والوفيات، لم تدفع وسائل الإعلام باتجاه تحميل وزارة الصحة والمستشفيات مسؤولية إجراء المزيد من الفحوصات وبطريقة مجانية للحدّ من انتشار الوباء. اكتفت بلوم المواطنين متناسية أنّ كلفة الفحص 150.000 ألف ليرة في المستشفيات الخاصّة و100.000 ليرة في المستشفيات الحكومية في بلدٍ منهارٍ مالياً واقتصادياً. 

 

الإعلام مرآة النظام

تبنّى الإعلام خطاب النظام. خرج رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب ليقول لنا “أنه يريد حماية اللبنانيين من أنفسهم“، فتبعه الإعلام. الأوّل لا يريد الاعتراف بأنّه فشل وتسبّب بهذه الكارثة من خلال خطط عشوائية وغياب سياسة صحّية فعّالة آخرها كان قرار فتح البلاد خلال فترة الأعياد وعدم تجهيز القطاع الصحّي، والثاني لا يريد تحمّل مسؤولية غياب حملة توعية حقيقية عن شاشاته وانتهاجه سياسة تحريرية تركّز على المسؤولية الفردية وتتغاضى عن الإجراءات التي كان على الدولة اتّخاذها طوال 11 شهراً. إذ كان أمام الحكومة حوالي سنة لوضع خطة جدية لكنها تراخت وتخلّت عن مسؤولياتها تماماً بعد استقالتها. فلم تجهز المستشفيات ولم تضع تصوراً لكيفية التعامل مع هذا الوباء لا يجبرها على الإغلاق التام في بلد يعاني من أزمة إقتصادية غير مسبوقة. وعندما تراخت الحكومة، تراخى معها الإعلام فلم تعد أخبار كورونا ضمن أولوياته. لم يأبه لوضع القطاع الصحي ولا للخطط المستدامة. اتفق الطرفان على أمرٍ واحد: تحميل مسؤولية تفشّي الوباء للمجتمع بهدف التخفيف من مسؤولية النظام وتمييعها منعاً لمحاسبته، في حين يتحمّل النظام وحده مسؤولية الكارثة ويتحمّل الإعلام الذي غضّ النظر عن إخفاقات الحكومة المستمرة مسؤولية أيضاً.

لكن كان حريّاً بالإعلام أن يتبّنى خطاباً يطالب بأبسط حقوق الناس، يضغط على النظام لتحقيقها، يدفع لمحاسبته، يضيء على مكامن الخلل الحقيقية، يتجرّأ على تحميل المسؤولية للمسؤول فعلاً عن هذه الجريمة. فقرار فتح البلاد مع معرفة نتائجه المسبقة وعدم قدرة أيّ قطاع على تحمّلها هو جريمة. وكان يمكن للإعلام أن يتبنّى خطاباً أكثر عقلانية وإنسانية. فاللبنانيون الذين عانوا في غضون سنة ونصف من انهيار اقتصادي كارثي ووباء ورابع أكبر تفجير في التاريخ يحتاجون إلى الدعم لا اللوم، ويتطلّعون لخطابٍ جامع، لا خطاب يقسّم بينهم مناطقياً وطبقياً. ويستحقون إعلاماً يهتمّ بمصلحتهم جميعاً لا مصلحة فئات معيّنة ويخوض المعارك كي ينالوا حقوقهم لا إعلاماً يساهم في التنكيل بها. فعندما اضطرّت رئيسة حكومة ألمانيا أنجيلا ميركل لإقفال البلاد خلال فترة الأعياد، اعتذرت من الألمان في خطاب أمام البرلمان في 9 كانون الأول لأنّها مضطرّة إلى إعلان الإقفال التام. بكت وهي تقول لهم “أنا آسفة حقاً وأعتذر من قلبي لكن لا أريد أن يكون هذا الميلاد هو الميلاد الأخير الذي تمضونه مع أجدادكم. لا أريد أن نرتكب هذا الخطأ”. في حين قررت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن تخفيض أجرها وأجر مجموعة من المشرّعين بنسبة 20% “تضامناً مع المتضررين من تفشي فيروس كورونا”. في المقابل تخلّت الدولة في لبنان عن دورها وسمحت لمجموعة من الزعماء بإدارتها وفق مصالحهم. وتخلّى معها الإعلام عن دوره، فأضحى مرآة لهذا النظام، صورة عنه، يهرب مثله إلى الأمام من خلال تحميل المجتمع أولاً مسؤولية كل كارثة تقع على رأسه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، حريات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مجلة ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أجهزة أمنية ، جائحة كورونا ، مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، قطاع خاص ، الحق في الخصوصية ، حرية التنقل ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني