الأمر المنظم لنشر تصاريح الذمة لكبار المسؤولين: سؤال عن موعد النشر وآخر عن مضمون ما سينشر


2020-07-20    |   

الأمر المنظم لنشر تصاريح الذمة لكبار المسؤولين: سؤال عن موعد النشر وآخر عن مضمون ما سينشر
رسم عثمان سالمي

تعتبر المفكرة أن شكلية نشر التصاريح بالممتلكات لجانب من الشخصيات العامة التي أرساها الفصل 8 من القانون عدد 46 لسنة 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح هي من شروط تطوير الثقة العامة فيمن يتولون المناصب الهامة في الدولة. وإذ تخشى المفكرة أن يكون انحصار الإهتمام بصياغة الأمر المنظم لهذا الإجراء سببا في إهمال تفعيله أو في إفراغه من آليات تحقيق غاياته، فهي تدعو منظمات المجتمع المدني التونسي للتحرك من أجل فرض نموذج للنشر يمنع ذلك. وفي هذا الإطار، تبادر “المفكرة” لنشر مختلف الآراء التي صدرت عن الهيئات الرسمية التي تشارك الآن في صياغة نموذج التصريح المعدّ للنشر. كما تنشر مقالا تحليليا يبرز موقفها من الموضوع (المحرر).

يفرض القانون المنظم للتصاريح بالممتلكات[1] نشرها في موقع رسميّ فيما تعلّق بفئة هامّة من سامي مسؤولي الدولة[2]. وقد سُنَّ هذا الإجراء بهدف “دعم النزاهة والشفافية في الحياة العامّة والإرتقاء بمنظومة الوقاية من الفساد إلى مستوى المعايير الدّولية”[3] وسعياً لفرض نوع من الرقابة العامّة على ما قد يحصل من المعنيين به من استغلال للنفوذ الوظيفي لتحقيق مكاسب مالية قد تكون غير مشروعة، بما يمس بالقيم المفترضة فيمن يتصدى للمسؤولية. وقد ارتبط إقرار النشر على أهميته بسؤال حول حماية المعطيات الشخصية للمعنيين بها بما فرض أن يترك المشرع لأمر حكومي تحديد “نموذج” نشر تلك التصاريح بالموقع الرسمي للهيئة المكلفة بمكافحة الفساد يوازن بين الهدف المطلوب وهاجس الحماية الضابط لحدوده.

أوكل المشرّع مسؤولية اقتراح صيغة “النموذج” الذي سينشر من التصريح بالممتلكات للهيئة التي تختص بمكافحة الفساد[4] والتي سبق له أن كلفها بتلقّي التصاريح والتدقيق فيها. كما أوجب على الحكومة أن تطلب رأي هيئة حماية المعطيات الشخصية وفق صيغة الرأي المطابق أي الملزم في توصياته ومضمونه.

بدا الهدف من اعتماد الصيغة التشاركية في صياغة النموذج الذي يضبط مضمون التصاريح بالممتلكات والمصالح منع تعسّف يؤول لتغليب مصلحة على أخرى. وكان ينتظر هنا أن يكون لحوار الهيئات فيما بينها السبيل لتحقيق ذلك وأن يمنع عملها المشترك الحكومة من الإنقلاب على واجب إصدار الأمر المنظم للنشر.

في أول محطات تنزيل التصور أي بتاريخ 15-11-2018، افتكّت هيئة حماية المعطيات الشخصية المبادرة في صياغة نموذج التصريح القابل للنشر. فوجهت للحكومة نموذجا أعدّته وأرفقته برأي يبيّن تصوراتها في الموضوع. استدعَتْ الخطوة لوضوح مخالفتها الإجرائية للقانون معاودتها. وهذه المرة، تولت الهيئة المختصة وهي الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وضع النموذج وأرسلته للحكومة مرفقا برأي هيئة حماية المعطيات الخاصة بتاريخ 14-12-2018.

خلال هذه المرحلة، بعيدا عن حديث المقاصد، أُديرت ورش صياغة النموذج في إطار توافق على تضييق مجال النّشر ومضمونه كما تشي بذلك آراء هيئة حماية المعطيات الشخصية والتي بدت في انسجام تام مع ما اقترح من نموذج معها. لاحقا وبعد انتخابات 2019، كشف وزير الدولة المكلف بالحوكمة ومكافحة الفساد محمد عبو عن حماسة لنشر أكثر جرأة بما فتح ورش الحوار مجددا حول الأمر المنظم للنشر وهو نقاش يجب التنبه له ومواكبته خصوصا وقد بينت مجريات العمل السياسي أن تعرية شبهات الفساد مدخل ضروري لمعالجتها.

النشر خطيئة تشريعية: الحجب علاجها

في الآراء التي صدرت عنها، بادرت هيئة حماية المعطيات الشخصية لطرح السؤال حول فكرة نشر التّصريح بالممتلكات. فذكرت أنه “إجراء غير ضروري لتحقيق الهدف المنشود من التصريح بالمكاسب” والذي “كان بالإمكان تحقيق الغاية منه الإكتفاء بالسماح لمن يهمه الأمر بالإطلاع بمقر هيئة مكافحة الفساد على التصاريح بالممتلكات”. وقد لاحظت الهيئة أنها دافعت عن رأيها هذا عند نقاش مشروع القانون وأنه لو اعتمد، كان سيمنع “التشهير بالأشخاص وانتهاك معطياتهم الشخصية والمساس بحياتهم الخاصة”. وقد أشّر هنا منطلق القول عن معارضة لمبدأ النشر من الجهة التي “أوكل لها المشرع حسب تقديرها” صلاحية تحديد المعطيات القابلة للنشر كان من أثره أن انصبّ جهدها على تضييق مجال منع النشر.

وفي هذا السياق، اعتبرت الهيئة أن”القانون” وكذلك “الناحية الواقعية” لا يجيزان:

  •  نشر المعطيات المتعلقة بالقرين لكون “التصريح على الشرف شخصي ولا يمكن القيام به بعنوان شخص آخر” و”القرين يتمتع بشخصية قانونية مستقلة وله ذمة مالية ليس من حق قرينه الإطلاع عليها” مما يجعل التصريح بالشرف في شأنها مجانباً للصواب.
  • نشر المعطيات المتعلقة بالأبناء القصر.

وانتهت الهيئة إلى التصريح بعدم نشر أيّ معلومات تخصّ القرين والأطفال القصّر وأن يكتفى بذكر إن كان التصريح الخاص بالمسؤول يتضمن أيّ معلومات تتعلق بممتلكات تعود لهم.

كما تمسكت – الهيئة-  أنه وبالنسبة للمداخيل، فإنه يُكتفى على نشر أصنافها (مرتبات وأجور، جراية، معينات كراء، مداخيل صناعية أو تجارية أو فلاحية) ومصادرها دون مبالغها.

فبالنسبة للعقارات، الإكتفاء بنشر صنفها (أرض بيضاء، أرض فلاحية، شقة، فيلا) وتاريخ اكتسابها وحصة الاشتراك في ملكيتها من دون بيان ثمنها أو قيمتها أو مساحتها،

وبالنسبة للمنقولات، الإكتفاء بنشر البيانات التالية:

+ وسائل النقل صنفها (سيارة، دراجة نارية، شاحنة، مركب، مروحية، طائرة) وتاريخ اكتسابها،

+ الأسهم والحصص والرقاع[5] والأوراق المالية الأخرى عددها وأنواعها وتاريخ اكتسابها،

+ الحيوانات صنفها وعددها،  

+ المبالغ المودعة: الصنف (حساب جاري حساب ادخار حساب إيداع ..) المؤسسة البنكية المفتوح لديها الحساب،

+ القروض: طبيعتها (قرض سكني، قرض شخصي، قرض لاقتناء سيارة …) ومدة سدادها،

+ الهدايا: طبيعتها وطبيعة المهدي (شخص مادي أو معنوي)،

+ الأشياء الثمينة: عدم نشر البيانات المتعلقة بها باستثناء براءات الإختراع والتي يمكن نشر عددها وطبيعتها وتاريخ إكتسابها

+ الأصول التجارية: النوع أو النشاط وحصة الاشتراك.

يُلاحظ هنا أنّ منع النشر فيما تعلق بممتلكات القرين والأبناء القصّر والذي استند لاستقلالية الذمة المالية للأفراد يتعارض مع نص القانون الذي أوجب التصريح بمكاسب ومصالح هاتين الفئتين طلبا للشفافية وإنطلاقا من الواقع الذي يفرض تشابك المصالح المالية داخل العائلة الواحدة.

كما يُلاحظ أن المعطيات التي سمح بنشرها تمّ الحرص على تغييب كل ما يمكن الإستناد له من خلالها لتقييم قيمة الممتلكات المالية. ويتعارض هذا التعتيم مع روحية النص القانوني والتي توجب التقدير لموجودات المصرحين ليتم لاحقا تبين إن كانوا قد استفادوا من اشتغالهم بالمناصب الموجبة للتصريح لتحقيق إثراء غير مشروع من عدمه. ويبدو أن هذه النزعة المحافظة كانت السبب في خروج الطرف الحكومي من توافق الهيئات ليطالب بشفافية أكبر في تطور قد يكون فرصة لملاءمة نموذج النشر مع فكرته.

سقف أعلى من الشفافية لكن دوما دون المأمول

كشف الوزير محمد عبو في حوار إذاعي له أنه فوجئ عند اطّلاعه على مسار إعداد أمر النشر بالسقف المنخفض للنموذج المعدّ من هيئة مكافحة الفساد فاتصل برئيسها ليطلب منه تحسين مضمون مقترحه وهو ما تم فعلا[6]. ويكشف النظر في النموذج الثالث للتصريح المعد بالنشر والذي كان الوحيد الذي مكن العموم من الاطلاع عليه بمبادرة من الجهة الحكومية أن التطور الذي حصل بفضل الدفع الحكومي تمثل في التنصيص بالنسخة الثالثة من مشروع النموذج بالنسبة:

  • للعقارات على البلدية التي تقع بها ومساحتها زيادة على طريقة الإكتساب وتاريخه،
  • لوسائل النقل قوة محركها الجبائية، تاريخ أول إذن لها بالجولان زيادة على نوعها وتاريخ اكتسابها،
  • للحصص والأسهم المؤسسة المصدرة لها زيادة على عددها وتاريخ اكتسابها.

كما تمّ إدراج المصالح في خانة ما يجب نشره. وفي هذا الإطار، نص النموذج على نشر المعلومات التي تتعلق بسبق تقديم الإستشارات والدراسات، مزاولة المهن الحرة، العمل بمؤسسات القطاع الخاص العضوية في هياكل مداولة وتسيير لدى شركات خاصة أو جمعيات أو أحزاب أو منظمات دولية حكومية أو غير حكومية.

يبدو التطور الحاصل في تحديد المعطيات والمصالح الواجب نشرها مهما. إذ يلاحظ أن الإضافات التي تمت من شأنها أن تساعد على إيجاد تقديرات لجملة الممتلكات المصرح بها كما تكشف عن المصالح التي للمصرح ولكنه لا يكفي لتحقيق ما ينتظر من نشر التصريح بالمكاسب من دور في تعزيز الرقابة العامة على نزاهة من يتولون المناصب الأهم في مؤسسات الدولة.

يؤمل هنا أن يتنبه المجتمع المدني لأهمية السؤال حول الأمر الحكومي المتعلق بنشر التصريح بالممتلكات وأن يضغط من أجل تحسين تصوراته ومضامينه طلبا لإلتزام بالنشر يتجاوز الشكليات الإجرائية لينفذ لروح الإجراء ويحقق غاياته. وقد يكون رفض ما تمّ من حجب لنشر المعطيات المتعلقة بالأبناء القصر والقرين حتى الآن المدخل لمثل هذا الحراك الذي تحتاجه تونس لتنقية فضائها السياسي من الفساد وتضارب المصالح واللذين باتا يهددان بجدية انتقالها الديمقراطي.


[1]    قانون عدد 46 لسنة 2018 مؤرخ في 1 أوت 2018 يتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح

[2]    الأشخاص المعنيون هم – رئيس الجمهورية ومدير ديوانه ومستشاريه، رئيس الحكومة وأعضائها ورؤساء دواوينهم ومستشاريهم،- رئيس مجلس نواب الشعب وأعضائه ورئيس ديوانه ومستشاريه،رؤساء الهيئات الدستورية المستقلة وأعضائها، رئيس المجلس الأعلى للقضاء وأعضائه، رؤساء الجماعات المحلية،أعضاء مجالس الجماعات المحلية، رئيس المحكمة الدستورية وأعضائها،

[3]  ورد بوثيقة شرح الأسباب المرفق بنموذج التصريح المعد من هيئة مكافحة الفساد

[4]  في انتظار  انتخاب أعضاء  هيئة الحوكمة  الرشيدة مكافحة الفساد   وتركيزها   تضل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من تضطلع بهذا الدور

[5]  يعرف الفصل الأول  من القانون عدد 111 لسنة 1988 مؤرخ فى 18 -08- 1988 والذي  يتعلق بضبط تراتيب القروض الرقاعية   الرقاع – Les obligations -بكونها ” قيم منقولة قابلة للتداول تمثل حق المديونية وتكون اسمية أو للحامل”ويعرفها الفصل 327 من مجلة الشركات التجارية بأنها “أوراق مالية قابلة للتداول تمثل حق المديونية”.

[6]  تصريح ببرنامج ميدي شو بتاريخ 30-06-2020  إذاعة موزاييك أف أم

انشر المقال



متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني