الأخبار الزائفة، جبهة ثانية للحرب ضد الوباء في تونس


2020-04-01    |   

الأخبار الزائفة، جبهة ثانية للحرب ضد الوباء في تونس

تزامنا مع ارتفاع حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا في تونس والتي بلغت 312 حالة إلى حدود 29 مارس 2020، تتزايد الضغوط النفسية على المواطنين وحالة الهلع العام مع تواتر الأرقام الكارثيّة للوفيات في كل من اسبانيا وإيطاليا. هذا المناخ أوجد أرضية ملائمة لانتشار الشائعات التي تجاوزت مواقع التواصل الاجتماعي إلى شاشات التلفاز وعلى أيدي صحفيين محترفين. حيث مثلت الساعات التي سبقت خطاب رئيس الحكومة الياس الفخفاخ مساء السبت 21 مارس الجاري، أبرز مثال عندما بثت قناة نسمة الخاصة والتابعة لرئيس حزب قلب تونس نبيل القروي، أخباراً زائفة مفادها حدوث استقالات وتفكك في أجهزة الدولة. حادثة تحركت على إثرها لجنة أخلاقيات المهنة الصحفية صلب النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في اليوم الموالي، لتحيل ملفات الصحافيين المورطين إلى المكتب التنفيذي الموسع رفقة توصيات بشطبهم من النقابة وسحب بطاقات احترافهم لانتهاكهم أبسط القواعد المهنية وأخلاقيات العمل الصحفي في مثل هذا الظرف الإستثنائي (المحرر).

 

لئن مثل وباء كورونا تحديا مباشرا لمؤسسات الصحة العمومية ووزارة الصحة في العمل على التصدي لهذا الوباء إلا أنه مثل أيضا تحدّيا لوسائل الإعلام والمتدخلين في قطاع الإعلام للتصدي لتفشي الأخبار الزائفة على غرار ما وقع في قناة نسمة أو شائعة اكتشاف طبيب تونسي مقيم في ألمانيا علاجا لفيروس كورونا. وقد وضعت هذه الحرب إن صح التعبير المؤسسات التعديلية والرقابية أمام مسؤولياتها للتصدي لانتشار الأخبار الزائفة التي قد يكون لها تأثير سلبي على المتلقي على غرار ما حصل في إيران عندما لقي 480 شخصا حتفهم وأصيب 2850 آخرون بالتسمم نهاية الشهر الجاري، بعد تجرعهم الميثانول (كحول الميثيل) جراء إشاعات عن إمكانية الشفاء من الفيروس بهذه الطريقة. رهان استجابت له على الفور النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري عبر اتخاذ جملة من الإجراءات القانونية والخطوات العملية للحد من خطورة مثل هذه الممارسات.

 

مجهودات كبيرة من أجل إيقاف زحف الأخبار الزائفة

فداحة هذه الحادثة تفسّر صرامة لجنة أخلاقيات المهنية التابعة للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في بيانها بتاريخ 22 مارس 2020، حيث هددت أن "كل صحفي سيساهم في بث الإشاعات وإحداث الفوضى والبلبلة سيتم إحالة ملفه على المكتب التنفيذي الموسّع للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين لسحب انخراطه والتنسيق مع لجنة إسناد بطاقة الصحفي المحترف لسحب بطاقة احتراف مهنة الصحافة." موقف برّره نفس البيان بأن "هذه التصرّفات تسيء وتقلّل من أهمية الجهود الجبارة للزملاء الصحفيين منذ انطلاق أزمة الكورونا في إيصال المعلومة الصحيحة بكل نزاهة" وتهدف إلى خداع الجمهور. وفي هذا السياق، علّق سيف الدين العامري عضو لجنة أخلاقيات المهنة بنقابة الصحفيين، موضحا أن لجنة أخلاقيات المهنة الصحفية تعمل من أجل رصد المخالفين لأخلاقيات المهنة والمتجاوزين لها وبالفعل رصدنا عددا لا بأس به من التجاوزات في الآونة الأخيرة ومرد ذلك أساسا عدم التثبت من المعلومات قبل نشرها. ردود الأفعال تواصلت بدخول الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري على الخط، لتدعو في بلاغ لها يوم 25 مارس 2020 إلى التثبت من كل المعلومات والتدقيق فيها وتحيينها والتركيز على المعطيات الواردة من المصادر الرسمية. كما اتجهت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري إلى تفعيل منصة للتثبت من الأخبار، عبر توفير كل مؤسسة إعلامية صحفيا مهمته تصحيح الأخبار الزائفة المنتشرة وذلك قصد توفير المعلومة الصحيحة للمتلقي. وقد اعتبر رئيس الهيئة نوري اللجمي في تصريحه للمفكرة القانونية أن خطر انتشار الأخبار الزائفة يعادل خطر انتشار فيروس كورونا، لذلك نعمل بمعية جميع وسائل الإعلام للسيطرة على انتشار هذه الأخبار. واعتبر اللجمي أن الأخبار الزائفة كانت في البداية تُتداول في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل صفحات ممولة من لوبيات سياسية ومالية لكن سرعان ما أصبحت تنتشر على المؤسسات الإعلامية التقليدية، التي باتت تبث البلبلة في صفوف المواطنين وتهدد الأمن العام والاستقرار وحسن سير عمل المؤسسات الرسمية.

 

أخلاقيات المهنة الصحفية مبحث علمي مغيب

من بين المباحث الأساسية التي يتكون فيها الصحفي خلال فترة تكوينه الأكاديمي أو حتى خلال خطواته الأولى في مسيرته المهنية، هي احترام أخلاقيات المهنة. حيث أن إدراك هذا المبحث جيدا يجعل الصحفي مدركا لحدود مهمته وعارفا بالشروط التي ينبغي عليه الالتزام بها. ويعتبر الترويج للأخبار الزائفة، والتي شهدت رواجا غير مسبوق خلال الفترة الأخيرة، أحد أهم الخروقات لأخلاقيات المهنة. ظاهرة اعتبرها د. محمد الشلبي الباحث في علوم الإعلام والاتصال في تصريح للمفكرة القانونية، أمرا متوقعا نظرا لأن البلاد تعيش في ظل أزمة حقيقية، حيث اعتبر أن ارتفاع منسوب الأخبار الزائفة يسير بتواز مع ارتفاع حدة الأزمة وهو ما تثبته جميع التجارب الإنسانية خلال الأزمات على مدار التاريخ. ولعل أكثرها وضوحا ما وقع في الحرب العالمية الثانية من انتشار هائل للإشاعات. والآن، تعززت هذه الظاهرة القديمة مع وجود الميديا الجديدة التي تعتبر منصات سهلة لنشر الأخبار الزائفة.

لئن مثل ظهور وسائل الاتصال والتواصل فضاء جديدا لنشر الأخبار دون تثبت إلا أنه جعل من وسائل الاعلام الكلاسيكية تدخل في تبعية لها. فسرعة انتقال المعلومة، قلب الآية، حيث أصبحت وسائل الإعلام التقليدية تنتظر انتشار الخبر على مواقع "الميديا" الجديدة ليتمّ فيما بعد معالجتها إعلاميا بغضّ النظر عن مدى صحتها. وتبعا لذلك اعتبر محمد الشلبي في حديثه للمفكرة أن الوضعية المالية للمؤسسات الإعلامية تلعب دورا محوريا في تدهور جودة المواد الإخبارية التي تقدمها، حيث أن المؤسسات التي تعيش صعوبات مالية تلتجئ إلى أخذ المعلومات من مصادر غير دقيقة على غرار الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، مما يؤثر فيما بعد على مصداقيتها، ناهيك أن بعض الصحفيين غير متمرسين على تحري الوقائع مما يفتح الباب على مصراعيه أمام انتشار الأخبار الزائفة. في نفس السياق اعتبر النوري اللجمي رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري أن بعض وسائل الإعلام قد طبّعت مع الأسف مع الأخبار الزائفة تماما كما هي الحال بالنسبة لبعض الصحفيين غير الملتزمين بأبجديات أخلاقيات المهنة، والذين جعلوا من التلاعب بالمعلومات شغلهم الشاغل مهدّدين بذلك الأمن والاستقرار العام.

 

الأخبار الزائفة: أداة سياسية

لئن تحوّل فيروس كورونا إلى كارثة صحيّة تهدد العالم بأسره، بل ومؤشرا لإعادة تقسيم جيو-سياسي عالمي، فإن لانتشار الأخبار الزائفة تأثير مشابه تماما. فقد تحوّلت المعلومة إلى معطى محوري في الحرب الدولية ضد هذه الجائحة، وصارت الإشاعة بمثابة سلاح موجه يستخدمه كل طرف وفق مصالحه وحساباته.

في تونس، وخلال هذه الأزمة التي تتفاقم مع توسع انتشار الفيروس، فالوضعية مشابهة إلى حد ما. فقد صرح رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ وغيرهم خلال أكثر من مناسبة، أن البلاد الآن في حالة حرب ضد هذا الوباء مما يستدعي وجود إعلام متأهب لتوعية المشاهدين وتقديم المعلومة الصحيحة لما لها من تأثير جسيم على المتلقين. في هذا السياق اعتبر الدكتور والباحث في علم الاجتماع مهدي مبروك في تصريحه للمفكرة أن الإعلام يلعب دورا أساسيا خلال الأزمات في تهدئة الرأي العام أو بث الرعب فيه وإثارة حالة عامة من الهلع. واعتبر مهدي مبروك أن الأخبار المغلوطة تنتشر بشدة خلال الأزمات لاعتبارات متعددة أبرزها وجود مصانع متخصصة لصناعة الأخبار الكاذبة fake news industry وهي صناعات تزدهر في أوقات الأزمات لوجود لوبيات ترغب في إثارة البلبلة وغالبا ما تكون ذات طابع سياسي. واعتبر مبروك أن ما يميز المعركة ضد الكورونا أن الخصم في هذه الحال غير مرئي وهو ما يوّلد حالة من العجز الذي يجعل تصديق الأخبار الكاذبة أمرا مستساغا ويساهم في انتشارها بطريقة أسرع من الأخبار العادية لأنها غالبا ما تتوجه برسائل إعلامية ينتظرها المتلقي (اكتشاف لقاح للكورونا، وفاة نجم معين، ارتفاع عدد الإصابات إلى، تأليب الرأي العام على الحكومة ووزارة الصحة…).

مع استمرار غياب مؤشرات حاسمة على قرب انتهاء هذه الجائحة، ستجد الهيئات الرقابية والتعديلية نفسها أمام مهمة صعبة وطويلة للتصدي لحرب الإشاعات التي تزداد ضراوة بعد انتقالها من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى المؤسسات الإعلامية المحترفة.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني