اعتصام الكامور: نصف انتصار وبعض هزيمة


2021-03-05    |   

اعتصام الكامور: نصف انتصار وبعض هزيمة
رسم عثمان سلمي

يندر أن نجد حراكاً اجتماعياً يحظى بمثل الاهتمام الإعلامي والمكانة في النقاش العامّ الذي حظي به حراك “الكامور” في أشكاله المتعدّدة ومراحله المختلفة. وبالمثل، يندر أن نجد حراكاً بمثل طول نفس و”نجاعة” حراك الكامور. ولعلّ نجاح تنسيقيّة الحراك في فرض جزء كبير من مطالبها وتوقيعها اتّفاقاً مع الحكومة في هذا الصدد بتاريخ 06 نوفمبر 2020، أبرز دليل على ذلك. والمُلاحَظ أنّ أكثر الكلام عن الحراك، ثمّ انتصاره، انحصر في ثنائيّة الشيطنة والتهليل من دون جهد وسعي جدّيَّيْن لفهم الخلفيّات التاريخية والاقتصادية للاعتصام. وطبعاً هذا التقصير، المقصود أو غير المقصود، في الفهم والتحليل سينجرّ عنه تقييم منقوص وغير موضوعي للاتّفاق الموقَّع مؤخّراً مع الحكومة ومخارجه وتداعياته. للأمانة، من الصعب الإلمام بكلّ أبعاد حراك الكامور. أوّلاً، بحكم طبيعته بحيث تنوّعت أشكاله النضالية وتعدّدت مراحله واختلفت تكتيكاته؛ وثانياً، لنقص المعلومات عنه على الرغم من “التغطية” الإعلامية الكبيرة. لكن هذا لا يمنع أن نحاول فهم وتحليل بعض جوانبه البارزة.

كلّ الطرق تؤدّي إلى الكامور

لم يأتِ “اعتصام الكامور” من فراغ ولم يكن “هوجة” شباب كسول يريد ليّ ذراع الدولة حتّى يغنم وظائف وقروضاً مُيسَّرة، بل هو النتيجة الطبيعية لتاريخ طويل من السياسات الظالمة والفاشلة التي غبنت حقّ الرقعة الجغرافية التي تُسمّى اليوم ولاية تطاوين.

  • جوهرة في يد فحّام

تطاوين، الواقعة في منطقة الجنوب الشرقي التونسي، على مشارف الصحراء، هي أكبر ولاية من حيث الحجم (قرابة ربع مساحة البلاد) وأقلّها كثافة سكانية حيث يتركّز فيها نحو 1%[1] فقط من سكان البلاد. وهي أيضاً من أصغرها “سنّاً” حسب التقسيم الإداري التونسي (أصبحت ولاية سنة 1981) لكن تاريخها ضارب في القدم. وهي ليست أفقر المناطق التونسية إذا ما اعتمدنا الإحصائيات الرسمية[2] التي تقول إنّ نسبة الفقر في تطاوين تبلغ 18%. لكن لو اعتمدنا مؤشّر الفقر متعدّد الأبعاد، الذي يشمل جودة الحياة والتعليم والصحّة والمسكن وتوفّر الكهرباء والماء الصالح للشراب ومعايير أخرى، ترتفع النسبة لتصبح 32% وتضع الولاية في دائرة المناطق الأكثر فقراً في تونس. أمّا بالنسبة للبطالة فتتصدّر تطاوين الترتيب منذ سنوات بنسبة تتجاوز 30%. هذه النسب المُخجِلة تسجّلها ولاية كان يُفترَض أن تكون من أغنى المناطق في تونس. فضلاً عن الثروات المكنوزة تحت الأرض، إذ تتركّز فيها أكبر حقول النفط والغاز ويتوفّر فيها مخزون هائل من الجبس والمياه الجوفية، ويعجّ ما فوق الأرض بالثروات الطبيعة والثقافية والتاريخية. واحات تطاوين الجميلة وعيونها وصحراؤها وقصورها البربرية الفريدة وثراء المخزون الثقافي بحكم التعايش الأمازيغي-العربي، وآثار وجود بشري يعود لآلاف السنين قبل الميلاد والدلائل على مرور الديناصورات بالمنطقة، كلّها ثروات كان يمكن أن تُستغَلّ بطريقة أفضل ألف مرّة، وتجعل من الولاية قطباً سياحياً وبحثياً/علمياً وحتّى فنّياً (استديوهات سينما) تُحسب فيه نسب الفقر والبطالة بالأرقام الفردية أو الكسور.

  • تاريخ طويل من الوصم و”الحقرة”[3]

“فطايرية”[4].. “كناطرية”[5].. “خوانجية”[6].. “زمقرية”[7].. “تابعين لليبيا”، هذه أبرز التمثّلات التي نجدها عند كثير من التونسيين عن سكّان تطاوين. وهي تمثّلات ترسّخت في أذهان التونسيين نتيجة تاريخ طويل من التشويه والإقصاء للمنطقة، منذ زمن الاستعمار الفرنسي وبعد الاستقلال وتحت الديكتاتورية وفي عهد “الديمقراطية”.

لا يسعنا المقام هنا استعراضَ ودراسة تاريخ منطقة تطاوين الضارب في القدم، لذلك نكتفي بالتاريخ الحديث. لم يسعَ الاستعمار الفرنسي إلى تطوير تطاوين اقتصادياً، وتحديداً المناطق الأكثر قرباً للصحراء، بل اعتبرها “تراباً عسكرياً” حاول إخضاع قبائله المنتمية إلى “كونفدرالية ورغمة” (حلف قبلي عربي-أمازيغي) وجعله مركزاً حدودياً متقدّماً. ساهمت القوانين العسكرية واحتقار السكّان وضرب المصالح الاقتصادية التقليدية لعروش المنطقة في تغذية كراهيّة الأهالي للمُستعمِر وانخراطهم باكراً في الحركة الوطنية بشقّيها السياسي والمسلّح. ويبدو أنّ الجهة تمسّكت بالمقاومة والسلاح “أكثر من اللازم” فحُسِبَتْ على اليوسفيين بعد توقيع الاستقلال الداخلي وشهدت مطاردات “للمتمرّدين” على قرار الشقّ الأقوى في الحزب الدستوري. وكان نتيجة ذلك إقصاء جماعي وجفاء من قِبل السلطة الجديدة التي حكمت دولة الاستقلال. طال الجفاء عقوداً ونتج عنه غيابٌ للتنمية وتهميشٌ اقتصادي أجبر عدداً كبيراً من أبناء تطاوين على النزوح والهجرة أو الاسترزاق من تهريب البضائع من القطر الليبي. وكأغلب التونسيين، استبشر أبناء الولاية بانتفاضة 17 ديسمبر 2010 واعتقدوا أنّ زمن الظلم والغبن قد ولّى وأنّ التنمية آتية لا ريب. لكن خيبتهم كانت مزدوجة. فلم يقتصر الأمر على عدم تحقيق “أهداف الثورة” وتطلّعات الفقراء، على الرغم من ذهاب أغلب أصوات الولاية إلى الحزب الفائز في جلّ الانتخابات (حركة النهضة)، بل زادت الأمور سوءاً بعد تفشّي الإرهاب المنظَّم في تونس خلال السنوات التي تلت “سقوط الديكتاتورية” وكذلك اندلاع الحرب في ليبيا. أصبحت المخاطر الأمنية عالية في المناطق القريبة من الصحراء التي صارت تعيش نشاطاً عسكرياً واستخباراتياً غير مسبوق. ستؤثّر هذه المخاطر على النشاط السياحي الصحراوي بحكم تخوّف السيّاح، من جهة، وعلى حركيّة التهريب والتجارة بحكم التواجد الأمني المكثَّف، من جهة أخرى. ببساطة، حتّى “الثقوب” التي يتنفّس منها أهالي المنطقة سُدّت بشكل جزئي أو كلّي. وبالتالي، فإنّ تدهور الوضع الاقتصادي وتنامي نسب الفقر والبطالة على الرغم من ثروات وإمكانات الولاية هو الطريق الذي سيوصل إلى مسلك “الكامور”.

كرّ وفرّ…

قبل استعادة أبرز المحطّات السابقة لاتّفاق نوفمبر 2020 سيكون من المفيد أن نوضح نقطتين:

أوّلاً، عبارة “اعتصام الكامور” هي اختزال لحراك اجتماعي واسع حظي بدعم كبير من مواطني ولاية تطاوين بأكملها.

ثانياً، لا يمكن أن نحصر هذا الحراك بمحطّتَيْ اعتصام 2017 واعتصام 2020 والاتّفاقين اللذين أعقباهما، فقد كانت هناك تظاهرات ومسيرات ومواجهات مع قوّات الأمن ومفاوضات. لحظات مدّ وجزر.

انطلقت التحرّكات الاجتماعية في تطاوين في أواسط شهر مارس 2017 باحتجاجات صغيرة هنا وهناك ثم تطوّر الأمر ليصبح حراكاً جهوياً أواخر الشهر نفسه، أهمّ مطالبه التشغيل والتنمية. وكان هذا الحراك ليلحق ببقيّة التحرّكات الاجتماعية “الفاشلة”، وهي تُعدّ بالمئات والآلاف، لو بقي محافظاً على أشكال الاحتجاج “الكلاسيكية” من تظاهرات ووقفات أمام المقرّات الحكومية وإضرابات قطاعية وعامّة. ما هو تأثير بعض العجلات المحترقة والطرق الفرعية المقطوعة والإدارات المحلية المغلقة في ولاية مهمّشة وشبه ميتة اقتصادياً وتنموياً؟

ويبدو أنّ المحتجين وعوا هذا الأمر بعد الإضراب العامّ في 11 أفريل 2017 فغيّروا التكتيك بعد مدّة قصيرة تفادياً لإضاعة الوقت والجهد وقرّروا الاعتصام في منطقة الكامور. وكانت تلك أوّل “ضربة معلم”. فعِوَضَ التوسّل أمام مقرّات الدولة قرّروا عضّ أصابعها. مسلك “الكامور” الصحراوي هو الممرّ الوحيد الذي يؤمّن حركة العربات من وإلى حقول استخراج المحروقات ومقرّات الشركات العاملة في المجال ومحطّات الضخّ. وبنصبهم لخيامهم وإغلاقهم الممرّ، حاز المعتصمون على انتباه الإعلام والطبقة السياسية وبالطبع الحكومة التي سيتنقل رئيسها آنذاك، يوسف الشاهد، إلى الولاية يوم 27 أفريل فيستقبله سكّانها بإضراب عامّ ثانٍ على الرغم من الإجراءات الـ62 التي وعد بإنجازها لفائدة تطاوين.

حاولت الدولة استعمال أساليبها القديمة لإنهاء الاعتصام، مُراوِحَةً بين المناورة والمماطلة والتلويح بالعنف، معوّلةً على عامل الزمن والسياق والمناخ لإضعاف عزيمة المعتصمين. لكن صمد هؤلاء ونظّموا أمورهم بشكل مثير للإعجاب رغم كلّ الظروف ولم يتأثّروا بخطاب رئيس الجمهورية آنذاك، الباجي قايد السبسي، في 10 ماي، الذي كان مشحوناً عنفاً وتحريضاً وتهديداً. استمرّ الاعتصام في شكله الأوّل حتى 16 ماي حيث بدأت بعض “الانقسامات” تظهر بين صفوف المعتصمين، جزء ينادي بالقبول باقتراحات الحكومة وآخر يطالب بالتصعيد. ويبدو أنّ الخيار الأخير كان الرّاجح. فقد قرّرت مجموعة من الشباب نقل الاعتصام إلى نطاق شركة “ترابسا” التي تتولّى عمليّة تخزين البترول المُستخرَج وضخّه في الأنابيب، مهدّدين بغلق المضخّات.

ونظراً لعدم استجابة الحكومة لمطالبهم واستمرار التحريض عليهم في وسائل الإعلام والخطاب الرسمي، نفّذ المعتصمون تهديدهم وأغلقوا “الفانة” (المضخّة) في 20 ماي. عند هذا الحدّ، لم تعد الدولة تطيق صبراً وحرّكت قوّات أمنية نحو مكان الاعتصام لفضّه وتحرير “الفانة”. جاء التدخّل الأمني عنيفاً فأُحرِقَتْ خيام المعتصمين وضُربوا بالغاز المسيّل للدموع والخرطوش، وكانت حصيلة المواجهات مقتل المعتصم أنور السكرافي. ويبدو أنّ الحكومة خشيت من تطوّر الأوضاع إلى مواجهات عنيفة قد تُعقّد الأمور أكثر فسحبت قوّات الأمن، ما سمح للشباب المعتصمين بإعادة إغلاق المضخّات والسيطرة عليها.

بقيت الأمور تراوح مكانها إلى حين دخول الاتّحاد العامّ التونسي للشغل على الخطّ كوسيط. أثمرت الوساطة اتّفاقاً بين المعتصمين والحكومة، وُقِّع يوم 17 جوان 2017 ونصّ على إحداث 4500 موطن شغل (في الشركات البترولية و”شركات البستنة”) ما بين 2017 و2019، مع تخصيص مبلغ 80 مليون دينار سنوياً لدعم التنمية في الجهة.

كانت الأمور لتنتهي عند هذا الحدّ لو نفّذت الدولة بنود الاتّفاق حسب الجدول الزمني المُعلَن، لكن سرعان ما بانت نواياها في المماطلة والتملّص من التزاماتها. وبعد أشهر طويلة من الانتظار، بدأ صبر تنسيقيّة اعتصام الكامور ينفذ وبدأت بالتحرّك للضغط على الدولة وتفعيل الاتّفاق، وتواصلت مع الرئاسات الثلاث بهدف تحريك الأمور لكن من دون جدوى. وبما أنّ أجواء الانتخابات الرئاسية والتشريعية طغت على النصف الثاني من سنة 2019، في حين طغت إجراءات الحجر الصحّي على النصف الأوّل من سنة 2020، بدا وكأنّ اعتصام الكامور أصبح مجرّد ذكرى وأنّ حماسة القائمين عليه والمشاركين فيه قد خفت وضعفت عزائمهم. لكن بخلاف ما ظهر آنذاك، ما إن تراجع التحسّب الوبائي في تونس أواخر الربيع/بداية الصيف حتّى نظّم “الكاموريون” اعتصاماً جديداً في جوان 2020 حاولت قوّات الأمن فضّه بالقوّة فتطوّرت الأمور كما في الاعتصام الأوّل. سيطر المعتصمون مرّة أخرى على “الفانة” يوم 17 جويلية وأغلقوها. وبما أنّ تلك الخطوة قد تزامنت مع فصل الصيف وجاءت في فترة فراغ حكومي، لم تحظَ بتفاعل إعلامي وسياسي كبيرين. حتّى أنّ أوّل الخطوات “الجدّية” لحلحلة الأوضاع لم تأتِ إلّا في أواخر سبتمبر مع إعلان الحكومة نيّتها تشغيل 500 مُواطن من الجهة. لم تكن تلك الخطوة المتأخّرة كافية، فواصل المعتصمون تعطيل ضخّ البترول وأيقنت الحكومة ضرورة التفاوض الجدّي، فتوصّل الطرفان إلى توقيع اتّفاق جديد في بداية نوفمبر 2020 (أنظر الكادر). ويبدو أنّ تطبيق بنوده قد بدأ بالفعل، وربّما تكون خاتمة حراك دام أكثر من ثلاث سنوات ونصف.

لماذا انتصر الكاموريون حيث أخفق سواهم؟

لا توجد إجابة واحدة أو قطعية للسؤال أعلاه، لكن عوامل عدّة اجتمعت لينجح اعتصام الكامور في حين فشلت تحرّكات/حركات أخرى أو لم تحقّق إلّا القليل من مطالبها.

عامل النجاح الأوّل هو بلا شكّ كيفيّة إدارة الحراك، من حيث اختيار الأشكال النضالية و”تكتيكات” المناورة والتفاوض وطريقة التنسيق بين المعتصمين. كانت بداية الاعتصام تقليدية لكنّها تطوّرت بشكل سريع وذكيّ ومبتكر. اختار المعتصمون أن يُفاوضوا الدولة بما يمكن أن يوجعها حقيقة لا باحتجاجات عقيمة. وحتّى عندما أشهرت الدولة عصاها الغليظة، صعّد “الكاموريون” بدل أن يتنازلوا، رافعين شعار “الرخّ لا” (لا مجال للاستسلام). فانتقلوا من إيقاف حركة عربات الشركات إلى وقف ضخّ المحروقات (غلق “الفانة”) أي تعطيل الإنتاج. وهو ليس أيّ إنتاج، بل الذهب الأسود الذي يذهب جزء كبير من ريعه إلى شركات أجنبية مرتبطة بدول وإمبراطوريات اقتصادية لها تأثيرها الكبير على المؤسّسات المالية ومراكز صنع القرار السياسي في العالم. ببساطة، قد يكون لغضب تلك الشركات ومَن وراءها نتائج وخيمة على الطبقة الحاكمة ورؤوس الأموال المحلّية. ما كان هذا التدرّج والتنويع في التكتيكات والصمود ليكون لولا وجود قيادة وتنسيقيّة للحراك ومتحدّثين باسمه. قيادة من قلب الاعتصام غير مُسقَطة عليه.

العامل الثاني “ديموغرافي”/”أنثروبولوجي” يتعلّق بطبيعة العلاقة بين المعتصمين. لم يستند “الكاموريون” إلى خلفية سياسية/أيديولوجية مشتركة أو انتماء نقابي/جمعياتي بل جمعهم الانتماء المناطقي والقبلي والعائلي. ما يعني من جهة، لُحمة أقوى وتفاهماً أكبر و”خيانات” أقلّ، ومن جهة أخرى، دعماً كبيراً من أهالي المنطقة و”حزام أمان” واسعاً.

أمّا العامل الثالث فهو وضوح الرؤية والمطالب. لم يرفع المعتصمون شعارات فضفاضة مثل تنمية الجهة والعدالة الاجتماعية بل قدّموا جملة من المطالب العمليّة مع رفع سقف المفاوضات أكثر ما يمكن. ولم يقبلوا بالوعود و”النوايا الحسنة” بل أصرّوا على توقيع اتّفاق يوضح التزامات الدولة وتاريخ تنفيذها.

ويمكن أن نضيف عاملاً رابعاً، ليس ثانوياً البتّة، وهو ثبات وصمود المعتصمين المثير للإعجاب والاحترام مهما كان الموقف من حراكهم ومطالبهم. من كان ليراهن على نجاح اعتصام وسط الصحراء مع درجات حرارة لا تُطاق نهاراً وليلاً خلال شهر رمضان؟ من كان ليعتقد أنّ حراكاً اجتماعياً انطلق في “هوامش” البلاد سيصبح قضيّة وطنية (وحتّى دولية نظراً إلى جنسيّات الشركات البترولية) ويستمرّ، تحت أشكال ومسمّيات متعدّدة، أكثر من ثلاث سنوات ونصف؟ لم تكن الظروف الطبيعية والزمن والإعياء والسياسات الحكومية والعصا الأمنية والخطابات السياسية العنيفة هي التحدّيات الوحيدة أمام المعتصمين، فلقد سُلِّطت عليهم حملة تشويه وتخوين وتحقير غير مسبوقة في وسائل الإعلام التقليدي وشبكات التواصل الاجتماعي.

بالتأكيد، هناك عوامل أخرى مثل حسن اختيار “أرض المعركة” (وهذا أساسي في “فنّ الحرب”) وعدم الدخول في “معارك جانبية” والقدرة على “ضبط النفس” وعدم الانسياق إلى مربّع العنف رغم كل الاستفزازات. لكنّنا نعتقد أنّ العوامل الأربعة التي ذكرناها هي التي حسمت المعركة لصالح الكاموريين، نسبياً، وربّما إلى حين.

الانتصار المزعج

انتصار “الكاموريين” أسعد البعض لكنّه أزعج بل وأغضب الكثيرين. السعداء هم أساساً المنتفعون من الاتّفاق وقلّة من النشطاء والمناضلين الذين تعبوا من تراكم الخيبات وانحسار المدّ “الثوري” في البلاد، وهم مستعدّون لأن يباركوا أيّ تحرّك اجتماعي بشكل مبدئي، أحياناً بلا أيّ حسّ نقدي، وأن يمجّدوا أيّ انتصار، مهما كان حجمه، على الدولة ورأس المال والطبقات المهيمنة.

أمّا المنزعجون/الغاضبون فيمكن، بشيء من التبسيط، أن نصنّفهم ضمن فئتين. الأولى هي فئة المعادين آليّاً لأيّ تحرّك اجتماعي من أجل حقوق وكرامة البشر. نتحدّث هنا أساساً عن القوى السياسية اليمينية، المحافِظة منها والدينية والليبرالية، في قلب السلطة أو ضواحيها، وأصحاب الأعمال والطبقات المهيمِنة على الاقتصاد والمجتمع. هؤلاء كلّما سمعوا كلمات مثل “احتجاج” أو “إضراب” أو “اعتصام” تحسّسوا “أسلحتهم” الغليظة “الأمنية” وأرادوا استعمالها مباشرة وبقوّة. لكن، بما أنّ الزمن قد تغيّر والبلد يعيش “انتقالاً ديمقراطياً أبهر العالم” تجدهم يتريّثون قليلاً ويختارون أسلحة أكثر “نعومة”، وأهمّها السلاح الاتّصالي/الإعلامي. وهنا قد تختلف التكتيكات “الحربية” وقد تتظافر. تتحاشى الخطابات الحكومية تجريم الحراك الاجتماعي وفاعليه بشكل مباشر، بل قد تُبدي تفهّمها وحتّى تعلن عن إرادتها “القويّة والصادقة” في إيجاد حلول للمحتجّين، لكنّها في الوقت نفسه تحذّر من الفوضى ومن “الأطراف الخفيّة” التي قد تستغلّ التحرّك لبثّ الفوضى. كما أنّها “تصارح” المحتجّين والشعب أنّ تلبية المطالب تستوجب اقتراضاً من الخارج وتقشّفاً في الداخل. فهل ترضاه لحكومتك وبلدك؟ وبالتزامن مع ذلك تشنّ بقيّة الأطراف، المتضرّرة مصالحها من الحراك الاجتماعي، الحرب بتكتيكات أقلّ تحفّظاً وأكثر حدّة فترسل جنودها من “خبراء” اقتصاديين و”إعلاميين” و”محلّلين سياسيين” ومثقّفين “وطنيين” إلى الجبهات الإعلامية ليشنّوا هجومات مركّزة: تحريض صريح على المحتجّين وحتّى على المناطق التي ينتمون إليها. عويل ونحيب على ضياع هيبة الدولة والقانون وأجهزة “حفظ الأمن”، تحذير من الخراب والإرهاب، تهويل من الخسائر الاقتصادية مع أطنان من الأرقام والتقديرات والمعطيات المشكوك في صحتها ومنهجيّتها، إلخ. هذه التكتيكات والأسلحة “الناعمة” يراد بها أوّلاً، تأليب الرأي العامّ على هذه الاحتجاجات، وثانياً، إحراج القوى السياسية الداعمة لها أو التي قد تتعاطف معها ووضعها في الزاوية، وثالثاً تهيئة الناس “نفسياً” لقبول الخطوة التالية: القمع العنيف للحركة الاحتجاجية.

أمّا الصنف الثاني من المنزعجين/الغاضبين، فهم الذوات والمجموعات السياسية التي لا تعادي الحركات الاجتماعية في حدّ ذاتها، بل قد تكون ساندة وداعمة لها، لكنّها في مسألة اعتصام الكامور تحفّظت، وحتى سخطت على أجواء الاعتصام وشكل التفاوض ومخرجات الاتّفاق. ومآخذها على ما حدث ليست بالضرورة نابعة من “برجوازيتها” و”جهويتها” واستعلائها على الفقراء، بل فيها ما هو متأثّر بالدعاية التي تحدّثنا عنها، وبعضها ناتج عن سوء فهم ما حدث في تطاوين، وبعضها الآخر نقد عقلاني ووجيه. أوّل المآخذ يتعلّق بالطابع القبلي/الجهوي الذي ظهر جلياً في أجواء الاعتصام وخطابات منسّقيه والمشاركين فيه، الذي وإن شكّل نقطة قوّة للمعتصمين في صراعهم مع السلطة فإنّه مثّل نقطة ضعفه في علاقته بالرأي العامّ. كما أنّه كان من الواضح أنّ منظّمي الاعتصام كانوا رافضين لأيّ دور للأحزاب السياسية. بعض المطالب فُهمت وكأنّها تضمر نوايا “فدرلة” (Federalization) للبلاد، مثل المطالبة باستقطاع نسبة من مداخيل المحروقات تذهب للولاية بشكل مباشر لا عبر الموازنة العامّة ومؤسّسات الدولة المركزية. حتّى أجواء التفاوض حول الاتّفاق الأخير أثارت حفيظة الكثيرين: وفود حكومية رسمية تنتقل إلى تطاوين، ثم ينتقل ممثّلو الاعتصام إلى العاصمة لجولة مفاوضات جديدة، وصور للاجتماعات توحي بمفاوضات بين ممثّلي دولتين، خصوصاً وأنّ ممثّلي المعتصمين كانوا يرتدون “الشاش” الجنوبي في مقابل وفد البدلات الرسمية. ويتخوّف كثيرون من أن يكون اتّفاق الكامور مقدِّمة مرحلة جديدة من تفكّك الدولة “الواهنة” غير القادرة على بسط سلطتها على كامل تراب البلاد. كما يرى البعض أنّ اتّفاق الكامور يكرّس ثقافتَيْ الغنيمة والريع، فضلاً عن كونه يضرب مبدأ المساواة بين المواطنين. فجزء كبير من مَواطن الشغل التي وافقت الدولة على منحها للمعتصمين هي إمّا في ما يُسمّى بـ”شركات البستنة” أو في مصانع ومؤسّسات عمومية سيتمّ إنشاؤها قريباً. لماذا لم تُخلق مواطن الشغل هذه سابقاً إن كانت الدولة بحاجة إليها؟ وهل تنوي تعميم التجربة في مناطق أخرى؟ وما هي معايير الانتداب؟

هل هي خاتمة الأحزان؟

اتّفاق نوفمبر 2020 هو الثاني الذي توقّعه الدولة، ولو نفّذت هذه الأخيرة الاتّفاق الأوّل قبل ثلاث سنوات لما كانت هناك حاجة لاتّفاق جديد. وحتّى إذا ما افترضنا أنّ الدولة ستلتزم بتنفيذ كلّ التزاماتها، فهل يعني ذلك أنّ مشاكل تطاوين قد حُلَّت وأنّ “قطار التنمية” تحرّك أخيراً؟ أليس الاتّفاق ضرباً من “الرشوة” وشراء السلم الاجتماعي؟ قد يكون من المُبكِر الحكم على مآلات الاتّفاق وانعكاساته على الأرض. لكن ماذا عن بقيّة المناطق التي لا تقلّ أوضاعها سوءاً عن تطاوين؟ هل ستُعمَّم “التجربة” وتُوقَّع اتّفاقات مشابهة؟ هناك مناطق ليس لديها تقريباً ما تُوقِف إنتاجه وتفاوض به الدولة، ماذا عنها؟ حتّى لو تكرّر اتّفاق الكامور في ولايات أخرى – وهذا ضرب من الخيال – ألا يمكن اعتبار الأمر التفافاً على واجب وضع سياسات تنمية حقيقية وتوزيع الثروات الوطنية بشكل عادل ومُعقلَن؟ وفي ظلّ هذه الاتّفاقات، ما الحاجة إلى “الديمقراطية التشاركية” وانتخابات المجالس المحلية والجهوية؟ الكثير من الأسئلة التي سيتوجّب على الدولة والطبقة السياسية الحاكمة أن تجيب عنها يوماً ما.

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

***

بنود الاتّفاق النهائي لملفّ الكامور الذي أعلن رسمياً عن تفاصيله في 08 نوفمبر 2020:

  • في ما يتعلّق بشركة البيئة والغراسة والبستنة

1/ تصنيف شركة البيئة والغراسة والبستنة بتطاوين شركةً ذات مُساهَمة عمومية تحت إشراف وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري وتخضع لزيادات القطاع العامّ.

2/ الإذن في التسريع بخلاص أجور إطارات وأعوان الشركة.

3/ الإذن بانتداب 1000 عون وإطار.

4/ تكليف اللجان المحلّية للتشغيل بملفّ الانتدابات مع ضمان تمثيلية الوفد الجهوي الذي له كامل الصلاحيّات في اختيار ممثّليه.

5/ إقرار مبدأ الزيادات العامّة لأجور أعوان وإطارات الشركة تُصرَف بداية من شهر أكتوبر2020 (القسط الثاني والثالث من المنحة الخصوصية وزيادة سنوات2017-2018-2019) على أن يقع صرف المفعول الرجعي للزيادات بداية من شهر جانفي 2021.

6/ الإذن بانطلاق دراسة مخطّط الأعمال المُعَدّ من طرف الشركة.

  • في ما يتعلّق بشركة الجنوب للخدمات

1/ الإذن بإجراء تدقيق في مجال التصرّف المالي والإداري وتحديد المسؤوليّات.

2/ الإذن بالترفيع في رأس مال الشركة على ضوء مخطّط أعمال يُقدَّم لهياكل الشركة للمصادقة عليه في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر.

3/ الإذن بتمديد وإمضاء عقود مع الشركات البترولية وإعطاء الأولوية للشركة في العقود الجديدة وذلك لمدّة خمس سنوات قابلة للتجديد.

  • في ما يتعلّق بصندوق الاستثمار والتنمية بتطاوين

الإذن برصد مبلغ 80 مليون دينار عبر خطّ تمويل لدى المجلس الجهوي تُصرَف في مجال التنمية والاستثمار. ويتمّ رصد المبلغ قبل نهاية سنة 2020 مع تعهّد الدولة تعبئة موارد الصندوق في حدود هذا المبلغ موفى كلّ سنة مع الاستعداد لرصد موارد إضافية في حالة استهلاك هذه الاعتمادات. واعتباراً لأنّ المسؤوليّة المجتمعية مرتبطة بتواصل النشاط في مواقع الإنتاج بالجهة، أكّد رئيس الحكومة

على تلازم وارتباط تنفيذ كامل البرنامج بتواصل الإنتاج.

  • في ما يتعلّق بالتشغيل في الشركات البترولية والشركات العاملة بالصحراء

1/ لدعم النسيج الاقتصادي في الجهة، الإذن بانطلاق دراسات لإحداث شركات ذات مساهمة عمومية قادرة على خلق مواطن شغل في مجالات متعدّدة مرتبطة أساساً بالخدمات البترولية والموادّ الأوّلية والثروات التي تتوفّر بالجهة (الشركة الوطنية لاستغلال وتصنيع الجبس بتطاوين، الشركة الوطنية للإعاشة والإقامات بتطاوين، الشركة الوطنية للأشغال العامّة والخدمات البترولية والطاقية بتطاوين، الشركة الوطنية لنقل الأشخاص والمعدّات والمواد بتطاوين، الشركة الوطنية للفلاحة واستصلاحها وتطويرها بتطاوين) مع إعطاء الأولوية لها في إمضاء وتمديد العقود مع الشركات البترولية وإعطاء الأولويّة للشركة في العقود الجديدة وذلك لمدّة خمس سنوات قابلة للتجديد.

2/ تكليف لجنة يترأّسها المتفقّد الجهوي للشغل تتولّى متابعة ومراقبة مدى التزام الشركات العاملة بالجهة بمجلّة الشغل ومدى احترامها للقوانين والاتّفاقيات المتعلّقة بأنشطتها.

3/ الإذن بتمكين 1000 منتفع بقروض لإحداث مواطن شغل.

4/ التشغيل الفوري لـ215 موطن شغل قارّ بالصحراء قبل نهاية سنة 2020 .

5/ الإذن بتقديم الانتدابات القارّة المُبرمَجة بالصحراء لسنوات 2021 و2022 و2023 إلى الثلاثي الأوّل لسنة 2021 وهي 70 انتداباً. مع الإذن للمؤسّسة التونسية للأنشطة البترولية بإعداد برنامج تكوين في الغرض.

  • في ما يتعلّق بآليّات تنفيذ الاتّفاق

1/ تكليف المجلس الجهوي بمتابعة وضعيّة عائلات فقيدي وجرحى هذا الحراك وتوفير الرعاية الاجتماعية والمادّية لعائلاتهم.

2/ الإذن للسيّد المكلَّف العامّ بنزاعات الدولة بتقديم كتائب إسقاط في حقّها في التتبّع لجميع القضايا المتعلّقة بحراك اعتصام الكامور من سنة 2017 إلى حين صدور هذا البلاغ.

3/ الإذن بالانطلاق في الإعداد لمجلس جهوي ممتاز ينعقد في أجل أقصاه الثلاثي الأوّل لسنة 2021.

4/ الإذن بتكوين “لجنة متابعة” تسهر على حسن تطبيق هذا الاتفاق وتتكوّن من ممثّلي الوفد الحكومي وممثّلي وفد الجهة وتقوم “لجنة المتابعة” باجتماع تقييمي على الأقلّ 6 مرات في السنة وكلّما دعت الضّرورة إلى ذلك.
***

  1. المعهد الوطني للإحصاء.
  2. المعهد الوطني للإحصاء – المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2015.
  3. مصطلح بالعامّية التونسية للدلالة على احتقار الشيء أو الشخص.
  4. صانعو الفطائر – اشتهر أهالي تطاوين بصنع الفطائر لكنّ المصطلح تحوّل من دلالة على ميزة إلى نعت هدفه التحقير.
  5. مهرّبون.
  6. إسلاميون؛ مصطلح يستعمله التونسيون للإشارة إلى الإسلاميين والأخوان المسلمين.
  7. مصطلح عامّي يُستعمَل للإشارة إلى المواطنين التونسيين المقيمين في الخارج.
انشر المقال

متوفر من خلال:

اقتصاد وصناعة وزراعة ، مساواة ، مجلة تونس ، عمل ونقابات ، مجلة ، سياسات عامة ، فئات مهمشة ، تونس ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني