استرداد الموازنة من الحكومة الجديدة؟ حين ناقض رئيس مجلس النواب نفسه


2020-01-27    |   

استرداد الموازنة من الحكومة الجديدة؟ حين ناقض رئيس مجلس النواب نفسه

أطلق رئيس مجلس النواب كالمعتاد جملة من الآراء الدستورية حول حكومة تصريف الأعمال وإقرار الموازنة قبل نيل الحكومة الجديدة الثقة. ومن بين المواضيع الإشكالية التي طرحها مسألة استرداد الموازنة التي أرسلتها الحكومة السابقة إلى مجلس النواب معتبرا أن مشروع موازنة 2020 "مذ أحيل إلى المجلس أضحى تحت ولايته، بدءاً من اللجان وصولاً إلى الهيئة العامة"1. بغض النظر عن مسألة جواز التشريع في ظل حكومة مستقيلة لا بد لنا من معالجة مسألة جواز استرداد الموازنة بالمطلق ومقارنة موقف رئيس مجلس النواب الحالي مع مواقفه السابقة من أجل تحديد مدى تماسك الممارسة الدستورية وانتظامها وفقا لقواعد مستقرة وشفافة بعد 1992.

تصدر الموازنة بقانون لكنها تختلف عن سائر القوانين العادية كون اقرارها يخضع لشروط محددة هي أكثر دقة وصرامة من القوانين العادية. ولعل أهم اختلاف بين الموازنة والقوانين العادية يكمن في كون الموازنة لا تدخل في ضمن أحكام المادة 18 من الدستور التي تنص على التالي: "لمجلس النواب ومجلس الوزراء حق اقتراح القوانين". فللنائب الحرية المطلقة بتقديم اقتراحات قوانين وله أيضا في حال قررت الحكومة استرداد مشروع قانون كانت قد تقدمت به أمام مجلس النواب أن يبادر شخصيا ويتقدم باقتراح قانون مشابه بكل الوجوه لمشروع الحكومة التي استردته.

لا تسري هذه القاعدة على الموازنة كون المادة 83 من الدستور تستثتي مشروع الموازنة وتخرجه من الطبيعة المطلقة للمادة 18 إذ تنص صراحة على التالي: " كل سنة في بدء عقد تشرين الأول تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة لنفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة ويقترع على الموازنة بنداً بنداً"·أي أن مشروع الموازنة لناحية الإعداد هو صلاحية حصرية للسلطة التنفيذية التي يحق لها وحدها إرسال مشروع الموازنة إلى مجلس النواب بغية مناقشته وإقراره. وهذا أمر منطقي كون الحكومة هي التي تتولى تقدير النفقات وإيرادات الدولة، وهي التي تقوم بتنفيذ المشاريع المختلفة وفقا لاعتمادادت تطالب بفتحها في الموازنة السنوية. لذك يحصر الدستور صلاحية اقتراح مشروع الموازنة بمجلس الوزراء لا بل أن المادة 84 من الدستور تحد من صلاحيات مجلس النواب الذي يفقد قدرته على تعديل مشروع القانون الموازنة إذ لا يجوز له "خلال المناقشة بالميزانية وبمشاريع الاعتمادات الإضافية أو الاستثنائية أن يزيد الاعتمادات المقترحة عليه في مشروع الموازنة أو في بقية المشاريع المذكورة سواء كان ذلك بصورة تعديل يدخله عليها أو بطريقة الاقتراح". فصلاحيات مجلس النواب بتعديل مشاريع القوانين العادية التي ترسلها الحكومة لا تنسحب على الموازنة.

أكثر من ذلك، تعتبر المادة 65 من الدستور أن رد البرلمان للموازنة برمتها بقصد شل يد الحكومة عن العمل هو سبب يجيز لرئيس الجمهورية الطلب من مجلس الوزراء حل مجلس النواب. وبالتالي يصبح جليا أن قانون الموازنة الذي يحتوي على أهم السياسات العامة للدولة لا يمكن إلا أن تتقدم به الحكومة كي يعكس توجهاتها الاقتصادية والمالية وبالتالي يصبح استرداد مشروع الموازنة مسألة مشروعة لا سيما إذ كانت الحكومة التي أرسلته قد استقالت وحلت محلها حكومة جديدة.

وبالفعل، طُرح هذا الموضوع من قبل في لبنان بعد الانتخابات النيابية التي أسفرت عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة رفيق الحريري في 26 تشرين الأول 2000 خلفا لحكومة الرئيس سليم الحص المستقيلة. لكن وزارة المال في حكومة الرئيس الحص كانت قد أعدت مشروع موازنة سنة 2001 فوافق عليها مجلس الوزراء وأحالها على مجلس النواب في مطلع تشرين الأول من سنة 2000. وقد أثار هذا التصرف انتقادات وجهت لحكومة الرئيس الحص باعتبار أن حكومته ستصبح مستقيلة قريبا مع بدء ولاية مجلس النواب وبالتالي سيتم تشكيل حكومة جديدة ولا يمكن للحكومة السابقة أن تلزم الحكومة المزمع تشكليها بموازنة لم توافق عليها. وقد ردت حينها رئاسة مجلس الوزراء على هذا الانتقادات في بيان أعلنت فيه أن المادة 83 من الدستور توجب على الحكومة صراحة أن تقدم لمجلس النواب مشروع الموازنة في بدء عقد تشرين الأول من كل سنة ما يعني أن إرسال مشروع الموازنة هو مجرد تطبيق للنص الدستوري. ومن ثم أضاف البيان أن التذرّع بكون الحكومة المقبلة قد يكون لها رأي مغاير لما يتضمنه مشروع الموازنة هو في غير محله، إذ أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تجري التعديلات التي ترغب بها على مشروع الموازنة خلال "مناقشته في لجنة المال النيابية، وتستطيع إذا اقتضى الأمر استرداد المشروع لإعادة النظر فيه ولكن هذا يجب أن لا يحول دون قيام الحكومة الحالية بواجبها الدستوري".

وبالفعل عند تشكيل الحكومة الجديدة أعلن الرئيس رفيق الحريري في جلسة 2 تشرين الثاني 2000 المخصصة لمناقشة البيان الوزاري التالي: "إن المطلوب وبشكل عاجل تغيير مناخ الركود والتشاؤم وليس بالوسع الوصول لذلك إلا بإطلاق كل قنوات ومسارب العمل المالي والإعماري والاقتصادي، وإطلاق عمليات التطوير والتحديث. وستقوم الحكومة بطلب استرداد الموازنة العامة لتتقدم من المجلس الكريم بموازنة تعكس هذا التوجه".

وفي جلسة تشريعية بتاريخ 19 كانون الأول 2000 مخصصة للتصويت على قانون معجل يجيز للحكومة الإنفاق على القاعدة الإثنتي عشرية لغاية صدور موازنة 2001 أثيرت مسألة مدى الاستعجال وهل هي ضرورية فما كان من رئيس مجلس النواب نبيه بري إلا وأن أعلن صراحة التالي: "أعتقد أن صفة الاستعجال متوفرة لأن هناك استرجاعاً للموازنة"2. أي أن رئيس المجلس اعتبر أن استرداد الموازنة وإخراجها من "ولاية" مجلس النواب هو أمر جائز لا بل أن الرئيس الحريري عندما أعلن رغبة الحكومة باسترداد الموازنة التي أعدتها حكومة الرئيس الحص لم يكن قد حاز بعد على ثقة المجلس وبالتالي لا شيء يمنع اعلان حكومة الرئيس حسان دياب رغبتها في البيان الوزاري من استرداد موازنة 2020 التي أرسلتها حكومة الرئيس سعد الدين الحريري.

في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن استرداد الموازنة يمنع الحكومة من ممارسة صلاحياتها المحفوظة لها في المادة 86 من الدستور والتي تجيز إصدار الموازنة بمرسوم في حال لم يقر مجلس النواب مشروع الموازنة قبل نهاية شهر كانون الثاني على أن يكون مشروع الموازنة قد طرح على المجلس قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل علما أن هذا الأمر غير مطروح اليوم كون مشروع موازنة 2020 أحيل في 21 تشرين الأول 2019 أي خارج المهلة التي تجيز إصدار الموازنة بمرسوم خلافا لما أعلنه أيضا رئيس مجلس النواب باعتبار عدم إقرار الموازنة قيل نهاية شهر كانون الثاني " يضع هذه مجدداً بين يدي مجلس الوزراء، ومن ثم إصدار رئيس الجمهورية مرسوماً يجعل الموازنة نافذة وفق الصيغة التي أحيلت بها إلى مجلس النواب في المرة الأولى. وهو أمر يسيء إلى المجلس ويُظهر كأنه تلكؤ في واجبه الدستوري".

أن مواقف رئيس مجلس النواب المتضاربة واجتهاداته الدستورية التي تتكيف مع التوازنات السلطوية يجب أن تذكرنا دائما بأن المبادئ الدستورية موجودة لتأمين العمل المنتظم والشفاف لمؤسسات الدولة وليست مجرد وسيلة من أجل تحقيق أهداف سياسية وتحويل مجلس النواب إلى أداة سلطوية للتفاوض ضمن المنظومة التوافقية المسيطرة على مختلف أجهزة الدولة.

 

 

1 https://al-akhbar.com/Lebanon/283119/بر-ي-مثول-الحكومة-قبل-الثقة-تلزمه-المادة-6

2 وبالفعل تم استرداد الموازنة والتصويت على موازنة مختلفة في نهاية أيار 2001.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني