إِشكاليات ميراث المرأة المسيحية المصرية


2019-12-04    |   

إِشكاليات ميراث المرأة المسيحية المصرية

في 25-11-2019، قضت الدائرة السابعة بمحكمة وراثات حلوان[1] بتوزيع الميراث بالتساوي بين الإناث والذكور طبقاً للائحة الأقباط الأرثوذوكس، وكانت المحامية هدى نصر الله، قد تقدمت بطلب لذات المحكمة لتوزيع الميراث بينها وبين أخوتها بالتساوي وفقا لأحكام الشريعة المسيحية. ولكن رفضت محكمة حلوان الابتدائية في 21 يوليو الماضي[2] الطلب بتوزيع الميراث بالتساوي بين الإناث والذكور وفقاً للشريعة المسيحية، مقررة بذلك تطبيق الشريعة الإسلامية. وقد خالفت محكمة أول درجة بذلك المادة الثالثة من الدستور الحالي التي تعطي الحق لغير المسلمين في الاحتكام لشرائعهم/ن، في مسائل الأحوال الشخصية[3].

ما دفع المحامية هدى نصر الله لاستئناف الحكم ولكن تقرير نيابة الاستئناف أشار برفع دعوى لبطلان حكم الوراثة بدلا من استئناف الحكم السابق، وهو ما قامت به المحامية هدى نصر الله ورفعت دعوى بطلان لحكم الوراثة أمام ذات الدائرة السابعة وراثات حلوان، لتقضي هذه المرة بحق الورثة في توزيع الميراث بينهم بالتساوي وفقا للشريعة المسيحية.

ويعتبر هذا الحكم الهام هو الحكم الثاني الذي ينتصر لمبدأ حق غير المسلمين في الاحتكام لشرائعهم الخاصة بعد الحكم الصادر بذات المبدأ في عام 2016 والذي حمل رقم ‏11666 لسنة 133ق من الدائرة 158 (أحوال شخصية)‏.

وقد حظيت هذه الدعوى باهتمام مجتمعي وقانوني كبير لتفجيرها لإشكالية هامة يعاني منها المسيحيون المصريون وخاصة النساء منهم وهي تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالميراث عليهم. فبالرغم من أن المادة الثالثة من الدستور المصري تقر بحق غير المسلمين في الاحتكام لشرائعهم في الأحوال الشخصية الخاصة بهم، إلا أن المحاكم المصرية لا زالت تصدر “إعلامات” الوراثة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية على جميع المواطنين ولو كانوا غير مسلمين حسب قوانين الميراث القديمة والتي لا تزال سارية حتى الآن. وبجانب كون هذه المفارقة تعتبر تدخلا من الدولة في الأحوال الشخصية لغير المسلمين خاصة إذا كان هذا التشريع قائما بشكل رئيسي على أساس دين آخر، تعد النساء المسيحيات أكثر المتضررين من تطبيق القوانين المبنية على أساس ديني في تنظيم حقها في الميراث، مرة كمسيحيات يطبق على حقهن في الميراث أحكام شريعة مغايرة لمعتقداتهن، ومرة أخرى كنساء. ويرجع السبب في ذلك لأن كثيرا من الرجال المسيحيين يتمسكون بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية للحصول على أكبر نصيب ممكن من الميراث متحججين بأن تلك هي القوانين الحاكمة للدولة.

وهو ما أدى إلى إطلاق المبادرة المصرية للحقوق الشخصية لحملة “مسيحيات في البطاقة… مسلمات في الإرث” في يوليو 2019 بهدف التنبيه إلى معاناة آلاف النساء المسيحيات[4].

خلفية: الميراث وفقاً للقانون المصري

في البداية، يجب علينا توضيح التشريعات المصرية الحالية بخصوص الإرث. ففي 1883، صدق الخديوي توفيق على لائحة ترتيب واختصاصات مجلس الأقباط الأرثوذكسيين؛ والتي نظمت بعض الأمور التي تخصّ المسيحيين المصريين ولكن لم تعن بوضع قواعد لتقسيم الميراث، وأشارت فقط إلى أن “مسائل المواريث لا تنظر إلا باتفاق جميع أولي الشأن فيها”. وبقي الوضع هكذا حتى مايو 1939 حيث صدق المجلس الملي على لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذوكس والتي نظمت أحكام الميراث للمسيحيين المصريين الواجبة التطبيق والتي جرى العمل بها حتى صدور القانون رقم 77 لسنة 1943.

ويعتبر القانون رقم 77 لسنة 1943، الساري حالياً، هو القانون الرئيسي الذي ينظم حق الميراث والذي يبين تقسيمات الإرث بين الورثة. وقد سنت أحكام الميراث في هذا القانون بشكل رئيسي على أساس الدين الإسلامي. فبجانب التقسيمات الشرعية للإرث بين الورثة نلاحظ أن القانون تضمن بعض المسائل الفقهية مثل ما نصته المادة السادسة من أنه “لا توارث بين المسلم وغير المسلم”، حسب مبادئ الشريعة الإسلامية.

وبعد تطبيق أحكام هذا القانون تنبه المشرع لسهوه عن تنظيم أحكام الميراث لغير المسلمين فأصدر القانون رقم 25 لسنة 1944 وقرر في المادة الأولى منه ما نصه “قوانين الميراث والوصية وأحكام الشريعة الإسلامية فيها هي قانون البلد فيما يتعلق بالمواريث والوصايا على أنه إذا كان المورث غير مسلم جاز لورثته في حكم الشريعة الإسلامية وقوانين الميراث والوصية أن يتفقوا على أن يكون التوريث طبقا لشريعة المتوفى.” وبناءً على هذا النصّ، أصبح القانون رقم 77 لسنة 1943 المبني على أحكام الشريعة الإسلامية هو القانون المطبّق بشكل تلقائي في تنظيم حق الإرث على غير المسلمين فلا يتم استبعاد تطبيقه إلا في حال “اتفاق جميع الورثة” على تطبيق أحكام شريعتهم الخاصة في تقسيم الميراث.

واتساقاً مع هذا النهج نص القانون المدني رقم 131 لسنة 1948 في الفقرة الأولى من المادة رقم 875 على أن “تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم تسري في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأنها.” وتطبيقاً لهذا النص استقرت محكمة النقض المصرية على “أن الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأنها هي الواجبة التطبيق في مسائل المواريث المتعلقة بالمصريين المسلمين وغير المسلمين، داخلا في نطاقها تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال التركة إليهم وإذ كانت أحكام المواريث تستند إلى نصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة وبينها القرآن الكريم بيانا محكما وقد استمد منها قانون المواريث أحكامه، فإنها تعتبر بذلك متعلقة بالنظام العام لصلتها الوثيقة بالدعائم القانونية والاجتماعية المستقرة في ضمير المجتمع بما يمتنع معه التحايل عليها أو تبديلها مهما اختلف الزمان والمكان”[5].

مكتسبات المسيحيين بعد يناير 2011 رهن تطبيق القضاة

بعد ثورة 25 يناير 2011 هيمن حزب الحرية والعدالة-الذراع السياسي لجماعة الاخوان المسلمين- وحلفاؤه من الأحزاب ذات المرجعية الدينية الإسلامية على  أول برلمان مصري بعد الثورة، وهيمن بالتالي على الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور. وفيما بدا محاولة لطمأنة غير المسلمين على حقوقهم، حاولت الجمعية التأسيسية في دستور 2012 معالجة إشكالية تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على غير المسلمين في أحوالهم الشخصية، فنصت في المادة الثالثة من الدستور على أن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية.” وهو نفس النص الذي عمل به دستور 2014 في مادته الثالثة. ووفقاً لهذا النص، أصبح من حق غير المسلمين أن تطبق عليهم شرائعهم الخاصة في أحوالهم الشخصية. إلا أن المشرع الدستوري لم ينص صراحة على ضرورة إصدار قانون جديد لتطبيق هذه المادة. وبالتالي، لم يعنَ البرلمان المصري حتى الآن بوضع تشريع ينظم مسائل توزيع الميراث بين غير المسلمين، أو يقوم بتعديل مواد القانون رقم 77 لسنة 1943 السابق ذكرها. وهو الأمر الذي جعل كيفية تطبيق النص الدستوري متروكا للمحاكم، وحسب تفسير القضاة. وهو ما أدى إلى رفض أغلبية الدوائر القضائية لدعاوى المسيحيين المطالبة بتطبيق أحكام شريعتهم في الميراث، معللين الأمر بضرورة إصدار تشريع يوضح ضوابط وإجراءات تطبيق المادة الثالثة من الدستور.

وخالفت محكمة استئناف القاهرة، في وقت سابق، في أحد أحكامها هذا الرأي حيث قررت في الدعوى رقم 11666 لسنة 133ق من الدائرة 158 (أحوال شخصية) تطبيق مبادئ الشريعة المسيحية في توزيع الإرث بين الورثة المسيحيين، والمساواة بين نصيب الذكر والأنثى وفقًا للمادة الثالثة من الدستور ونصوص لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة 1938 وتعديلاتها.[6] وهو الأمر الذي يدلل على إمكانية تطبيق النص الدستوري بالرجوع إلى اللائحة المذكورة من دون الحاجة إلى إصدار تشريع جديد. الأمر الذي يترتب عليه اختلاف المراكز القانونية للمواطنين والمواطنات، حسب قضاة كل دائرة قضائية وفهمهم واجتهادهم مع النص الدستوري؛ وهو ما يؤدي إلى إهدار العدالة.

ومع رفض أغلبية الدوائر القضائية التطبيق المباشر للنص الدستوري واشتراطها إصدار تشريع جديد ينظم حق غير المسلمين في الاحتكام لشرائعهم، يجب على المشرع التدخل وإصدار تشريع واضح لتنظيم الإرث بين غير المسلمين، أو تعديل المواد السابق ذكرها خاصة تلك المتعلقة باعتبار أحكام الشريعة الإسلامية في هذا الأمر هي الأحكام المعمول بها.


[1] الدائرة السابعة.

[2]  الدعوى رقم 2793 لسنة 2018.

[3] تنص المادة الثالثة من الدستور الحالي على: “مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية”

[4] نقلا عن موقع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.

[5] محكمة النقض – مدني – الطعن رقم 36 – لسنة 61 قضائية – تاريخ الجلسة 25-12-1995 – مكتب فني 43 – رقم الجزء 2 – رقم الصفحة 1037

[6] نقلا عن الموقع الإلكتروني لجريدة صوت الأمة بتاريخ 17 مايو 2019

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني