إغتيال البراءة في ليبيا، جريمة تعكس واقعا أمنيا مريرا


2018-04-11    |   

إغتيال البراءة في ليبيا، جريمة تعكس واقعا أمنيا مريرا

ظاهرة سلبية جديدة في ليبيا انتشرت بعد ثورة فبراير 2011، ولم تكن معروفة أو معتادة في المجتمع الليبي، وهي ظاهرة الخطف من أجل الفدية وطلب المال، وذلك في ظل الانفلات الأمني الذي تعيشه ليبيا منذ سنوات والانقسام المؤسسي والصراع السياسي وتنامي المجوعات المسلحة. وقائع كثيرة ومتشابهة حدثت في عدة مدن ليبية وتمثلت في جرائم خطف بهدف دفع فدية. ويلحظ أن الضحايا هم غالبا من  المدنيين. وكانت أبرز الجرائم المؤثرة والبارزة في الفترة الماضية التي هزت الرأي العام الليبي هي جريمة خطف وقتل أطفال رجل الأعمال رياض الشرشاري الثلاثة، وهم محمد (8 سنوات) وذهب (12 سنة) وعبد الحميد (5 سنوات).

وتعكس تفاصيل عملية الخطف واقعا مؤلما للأمن في ليبيا. ففي  ساعات الصباح الباكر من أحد أيام شهر ديسمبر 2015، خرجت الأم كعادتها لترافق أطفالها الثلاثة، إلى المدرسة. لكن قبل عبورهم الطريق العام في مدينة صرمان غرب طرابلس، اعترضت سيارتان بزجاج داكن اللون ومن دون لوحات، طريق العائلة، وترجّل منهما ستة مسلحين ملثمين. وأمام عيون المارة أطلقوا النّار على السائق وأصابوه في قدمه، ثم أنزلوا الأطفال الثلاثة عنوة من السيارة، وسط صراخ الأم وذهول الموجودين. حاولت الأم بكل ما تملك من قوة الدفاع عن أطفالها، وتوسلت إلى الخاطفين لتركهم في حالهم، لكنهم لم يستجيبوا استغاثاتها، بل انتزعوا الأطفال بالقوة، ودفعوا الأم بشدة وألقوها أرضاً، مهددين الموجودين بقوة السلاح إذا تدخل أحدهم لإنقاذ العائلة. ثم اقتادوا الأطفال إلى جهة مجهولة ولاذوا بالفرار.

وبالطبع، أثارت هذه القضية التي باتت تعرف في ليبيا بقضية "أطفال الشرشاري"، اهتماما واسعا داخل ليبيا وخارجها خلال السنتين الماضيتين، وانتشرت أخبار عن تواصل والد الضحايا مع الخاطفين وطلبهم لفدية مالية كبيرة وتعثرت المفاوضات. لكن الصدمة الكبرى هو اكتشاف قتل الأطفال منذ أيام ودفنهم في غابة الكشافة بمدينة صرمان، وتنتهي هذه القضية بأسوأ سيناريو لها، وهو نهاية حياة هؤلاء الأطفال بجريمة مأساوية اغتالت براءتهم.

ورغم طول مدة احتجاز الأطفال، إلا أن خيوط الجريمة بدأت تتجمع من خلال عمل بعض الأجهزة الأمنية رغم ضعفها وانقسامها في عدة مدن حيث أعلنت مصادر أمنية في مدينة طبرق في ديسمبر الماضي، عن إلقاء أجهزة الأمن القبض على كل من «رامي طاهر خليفة بوصاع» و«إيهاب بوعجيلة امحمد دبوب» من مدينة الزاوية ويشتبه بأنهما على علاقة بقضية خطف أطفال الشرشاري..

وسبق أن أعلنت أجهزة الأمن في المنطقة الغربية في أبريل الماضي القبض على «عبد العزيز أبو كراع»، وقيل وقتها إنه أحد المتهمين في القضية ذاتها.

وكان الفيصل الرئيسي في الكشف عن تفاصيل هذه القضية هو قيام جهاز المباحث الجنائية بمداهمة وكر تتحصن به العصابة المعروفة بـ “النمري المحجوبي وأخوته” وذلك بناء على ذكرهم في عدة قضايا تم التحقيق بها كالقتل والخطف، وهي خطوة ليست بالسهلة نظرا لقوة تسليح هذه العصابة المسلحة والحماية الاجتماعية التي تتمتع بها في منطقتها. وأوضح جهاز المباحث الجنائية فرع الغربية إلى أن عملية المداهمة تمت بعد تلقيهم أوامر من مكتب النائب العام بضبط وإحضار المتهمين والقبض على عصابة “النمري وأخوته”. وقد احتاجت عملية المداهمة والقبض إلى التنسيق والتعاون مع جهات أمنية أخرى وهي جهاز الشرطة العسكرية والقوة المساندة الكتيبة (54) ورجال من قبيلة المحاجيب التي ينتمي لها أفراد العصابة وتم التخطيط ومحاصرة الهدف الذي تتحصن به العصابة. كما تم تبادل إطلاق نار نتج عنه مقتل أربعة أشخاص من العصابة المسلحة وجرح النمري المحجوبي قائد العصابة.

وكان القبض على المحجوبي من أبرز العوامل المهمة التي ساعدت في كشف تفاصيل هذه القضية ،حيث تبين من خلال الاستدلالات والتحقيقات المبدئية أن من أبرز القضايا التي ارتبطت عصابته بها هي عملية خطف ”أطفال الشرشاري”. وجاء ذلك خلال التحري والتحقيق مع "المحجوبي”، الذي أقر أن أولاد الشرشاري قتلوا، وتم التوجه إلى الموقع في عصابة بغابة بالقرب من مدينة صرمان بجوار منطقة البراعم، وتم ذلك بصحبة والدهم والطب الشرعي وبأذن النيابة العامة. ووجد القبر مردوما بخرسانة من الإسمنت الأبيض ووضعوا عددا من الأحجار فوقه لإخفاء جريمتهم وتم إخراج رفاتهم ونقلهم إلى مستشفى صرمان. وأظهر الكشف الأولى على رفات الأطفال وفاتهم منذ سنتين، لكن لم يتم التوصل حتى الآن عن كيفية وفاتهم.

وفي توضيح قضائي للاجراءات القانونية التي اتخذت، أفاد مدير مكتب التحقيقات بمكتب النائب العام أنه تم معرفة مكان رفات اطفال الشرشاري بعد استجواب المحجوبي. وأضاف أن عددا من المتهمين في هذه القضية قتلوا في حوادث مختلفة وبعضهم مقبوض عليه، وأن النيابة العامة أشرفت على اجراءات الكشف عن الجثث برفقة الطب الشرعي، والمصور الجنائي، وتمت إجراءات البحث عن مكان دفن الأطفال، وبعد العثور عليه، وبأمر من رئيس النيابة صرمان ببدء العمل بالحفر حيث تم العثور على جثث الأطفال.

في أول رد فعل على الحادثة صرح رياض الشرشاري والد الأطفال الثلاثة المغدورين أن المحجوبي تورط في قتل أطفاله، موجها انتقادات حادة إلى المفتي السابق الصادق الغرياني كونه لم يتدخل لمساعدته رغم وجود علاقته القوية مع أهالي الفاعلين. ولم نرَ بيانًا من دار الإفتاء أو مجلس الدولة ولم تتم مجاملتنا حتى باتصال هاتفي، وأضاف قبائل المجرمين التي تسترت عليهم وكانت تنفي وجود هؤلاء بينهم»، مشيداً بـ "حكمة رجال الأمن الذين قاموا بتحديد مكان المجرمين".

أما على المستوى الرسمي فقد عبر رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج عن تضامنه مع عائلة الضحايا مؤكداً إعطاء تعليمات لكل أجهزة الدولة كل فيما يخصه بمباشرة التحقيقات والتحريات للكشف عن كامل أبعاد الجريمة وتقديم الجناة للقضاء لينالوا الجزاء والعقاب العادل .

وتعكس هذه القضية حالة الانفلات الأمني وتعدد المجموعات المسلحة، التي حتى وإن ادّعت الشرعية وتبعيتها للدولة، فانها فعليا لا تتبعها وتنفذ أجندتها الخاصة وتبحث عن التمويل عبر الجريمة المنظمة، مما يؤكد أهمية فحص المؤسسات الليبية وفرز العناصر المنتمية لها ، والتي بعضها لها سوابق اجرامية وارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، وأحيانا تكون محمية من أطراف سياسية مما يوضح تعقد الملف الامني وصعوبة التعامل بالطرق التقليدية.

وحتى النصوص الملزمة الواردة في الاتفاق السياسي الليبي الموقع في 16 ديسمبر 2015، والتي تعنى بملف الترتيبات الأمنية لم تنفذ. ومن هذه النصوص، المادة (7) من الأحكام الإضافية التي نصّت على عدم السماح لمن أدينوا بارتكاب جرائم في حقّ الشعب الليبي بشغل مناصب في المؤسسات الأمنية، وأيضا  نصوص صريحة بتفكيك الكتائب المسلحة وإعادة تأهيل منتسيبيها وانسحابها من جميع المدن والتجمعات السكنية وإعادة انتشارها في مواقع محددة كما أوضحت المادتان (37) و(39) فصل الترتيبات الأمنية.فعلى نقيض ذلك، قام المجلس الرئاسي خلافا للتوقعات بإسناد مهمة الترتيبات الأمنية بدخول العاصمة لكتائب مسلحة مما يؤكد عمق الأزمة الأمنية وتعقيداتها التشريعية والعملية.

وختاما، أن حالة الغضب والتعاطف الشعبيين يجب أن تتجاوز مواقع التواصل الاجتماعي وأن تشكل حملات                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              مناصرة وضغوط على الجهات الرسمية في الدولة من قبل مؤسسات المجتمع المدني والنقابات واتحادات الطلبة، حتى يتم اتخاذ اجراءات أمنية وعملية وتشريعية حازمة لمواجهة ظاهرة انتهاكات المجموعات المسلحة وإلا ستسمر البلاد تصحو على جمر الأزمات وجحيمها، وتنام على فقد الأبرياء وانتهاك حرمات أرواح أطفال لا ذنب لهم ولا جريرة إلا وجودهم فى زمن ضعفت فيه الدولة واستفحلت فيه الجريمة وصار الانتهاك حدثا يوميا عابرا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، ليبيا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني