إن هول الكارثة التي ضربت لبنان في 4 آب 2020 يحتاج إلى اتخاذ تدابير قانونية استثنائية لمواجهتها. وقد أعلن مجلس الوزراء حالة طوارئ جزئية في مدينة بيروت بتاريخ 5/8/2020. لذلك كان لا بد من شرح ما هو الفهم القانوني الصحيح لحالة الطوارئ وما هي التداعيات التي تنجم عن إعلانها في ظل التشريعات اللبنانية النافذة.
حالة الطوارئ نظام قانونيّ تضعهُ السّلطات العامة موضع التنفيذ من أجل مواجهة ظروف استثنائيّة والسماح لها باتخاذ تدابير لا يمكن تطبيقها عادة ضمن الإطار القانوني العادي. وهي تدابير تظلّ خاضعة للرقابة القضائية، لا سيما رقابة مجلس شورى الدولة الذي يعود له تقدير في كل حالة مدى توافق تلك الإجراءات مع القوانين النافذة والضرورة الناجمة عن الظرف الإستثنائي. وهذا ما ذهب إليه مجلس شورى الدولة إذ اعتبر التالي: “وحيث أنه لكي تتوفر الظروف الاستثنائية يجب أولا أن تكون هذه الظروف استثنائية حقا، وللقاضي في هذا الصدد حق التقدير الواسع، وقد اعتبر الاجتهاد الفرنسي ظروفا استثنائية التعبئة العامة، الحرب، التهديد باضراب عام في المرافق العامة، الثورة الداخلية، وثانيا أن تكون المصلحة العامة أملت اتخاذ التدبير المشكو منه ويتوفر هذا العنصر متى كانت الغاية من التدبير صيانة الأمن العام، وأخيرا أن تكون الادارة مضطرة لاتخاذ هذا التدبير توصلا للهدف المقصود” (قرار رقم 1227 تاريخ 1/8/1963). إلا أن غياب قضاء العجلة في مجلس شورى الدولة اللبناني يحول دون اتخاذ قرارات سريعة ضد القرارات التي ترشح عن تعسف معين.
عرف لبنان منذ الإنتداب وحتى اليوم مجموعة من التشريعات التي تنظم حالة الطوارئ كان أولها القرار رقم 4/S الصادر في 10 كانون الثاني 1925 ومن ثم القرار رقم 34 الصادر في 8 شباط 1936. وقد نصت هذه القرارات على نقل صلاحيات السلطات المحلية إلى المفوض السامي الفرنسي كي يمارسها مباشرة في حالة تعرض أمن البلاد للخطر.
بعد الإستقلال، صدر المرسوم الاشتراعي رقم 27 تاريخ 16 شباط 1953 والذي ألغى التشريعات السابقة واستعاض عنها بأحكام جديدة ترعى إعلان حالة الطوارئ واضعا الأسس القانونية التي ما زالت قائمة حتى اليوم، بحيث بات إعلان حالة الطوارئ يتم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. وعقب اندلاع حرب حزيران بين اسرائيل والدول العربية، صدر في 5 آب 1967 المرسوم الإشتراعي رقم 52 الذي أعاد تنظيم الأحكام التي ترعى اعلان حالة الطوارئ وهو التشريع الذي لا يزال نافذا في لبنان، علما أن التعديلات التي أدخلت على الدستور سنة 1990 جعلت اعلان حالة الطوارئ من المواضيع الأساسية التي تحتاج وفقا لما تنص عليه الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء.
الطوارئ توسيع لصلاحيات قيادة الجيش
حددت المادة الأولى من المرسوم الإشتراعي 52 الأسباب التي تؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية وذلك “عند تعرض البلاد لخطر مداهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مسلحة أو أعمال أو اضطرابات تهدد النظام العام والأمن أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة” بينما نصت المادة الثالثة على النتائج المترتبة فور إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية بحيث “تتولى السلطة العسكرية العليا صلاحية المحافظة على الأمن وتوضع تحت تصرفها جميع القوى المسلحة ويفهم بذلك قوى الأمن الداخلي والأمن العام والجمارك ورجال القوى المسلحة في الموانيء والمطارات ومخافر الأحراج وفي وحدات الحراسة المسلحة ومفارزها بما فيهم رجال الإطفاء وتقوم هذه القوى بواجباتها الأساسية وفقا لقوانينها الخاصة وتحت أمرة القيادة العسكرية العليا”.
وقد أكد مجلس شورى الدولة أن اعلان حالة الطوارئ “تقضي بوضع كافة القوى المسلحة بأمرة وزارة الدفاع الوطني-قيادة الجيش (التي) تمارس في هذه الحالة نوعا من الوصاية توحيدا للجهود العسكرية في الظروف الإستثنائية” علما أن ذلك “لا يعفي وزارة الداخلية من مسؤوليتها عن الأمن الداخلي والسلامة العامة” (قرار رقم 302 تاريخ 12/2/1998).
تؤدي حالة الطوارئ إلى توسيع صلاحيات السلطات العسكرية بشكل كبير التي يحق لها اتخاذ جملة من التدابير من بينها: تحري المنازل ليلا أو نهارا، فرض الاقامة الجبرية، منع الاجتماعات المخلة بالامن، إعطاء الأوامر في إقفال قاعات السينما والمسارح والملاهي ومختلف أماكن التجمع بصورة مؤقتة، منع تجول الأشخاص والسيارات في الأماكن وفي الأوقات التي تحدد بموجب قرار، منع النشرات المخلة بالأمن واتخاذ التدابير اللازمة لفرض الرقابة على مختلف وسائل الاعلام.
يتبين لنا من خلال دراسة النظام القانوني الذي ينشأ عن إعلان حالة الطوارئ أن التشريع اللبناني لم يأخذ بالتمييز الموجود في فرنسا بين حالة الحصار (état de siège) وحالة الطوارئ (état d’urgence) لا بل ان المرسوم الإشتراعي رقم 52 يطلق تسمية “حالة الطوارئ” بينما النظام القانوني الذي ينتج عنه هو بالحقيقة شبيه بحالة الحصار أكثر من حالة الطوارئ. فحالة الحصار في فرنسا تم تنظيمها وفقا لأحكام القانون الصادر في التاسع من آب 1849 والمعدل بالقانون الصادر في 3 نيسان 1878، وقد نصت المادة السابعة من قانون 1849 على التالي:
« Aussitôt l’état de siège déclaré, les pouvoirs dont l’autorité civile était revêtue pour le maintien de l’ordre et la police passent tout entiers à l’autorité militaire. L’autorité civile continue néanmoins à exercer ceux de ces pouvoirs dont l’autorité militaire ne l’a pas dessaisie ».
فحالة الحصار هي نظام قانوني عسكري بحيث تنتقل صلاحيات السلطات المدنية في الزمن العادي إلى السلطات العسكرية، بينما حالة الطوارئ في فرنسا، التي استحدثت بموجب قانون 3 نيسان 1955، هي نظام قانوني استثنائي يؤدّي الى توسيع صلاحيات السلطات الإدارية كوزير الداخلية والمحافظين لكنها تظل نظاما مدنيا لا دور للجيش فيه. وهكذا يتبين لنا أن حالة الطوارئ في لبنان هي في حقيقة الأمر مماثلة لحالة الحصار في فرنسا كون السلطات المدنية تنتقل إلى السلطة العسكرية العليا المتمثلة بالجيش.
وهكذا يعتبر المرسوم الاشتراعي 52 استمرارية للقرارين 5/ S لسنة 1925 و34 لسنة 1936 كون المادة الثالثة من كلاهما أعلنتا التالي: “للمفوض السامي أن يقلد السلطة العسكرية في كامل أراضي الدول المشمولة بالانتداب أو في جزء منها سلطات الضابطة والقضاء التي تقوم بها عادة السلطة المدنية أذا حدثت اضطرابات خطيرة أو إذا أحوجت الظروف إلى ذلك”.
مدة حالة الطوارئ المعلنة
نظرا لخطورة حالة الحصار وتداعياتها على حريات المواطنين، فرضت القوانين في فرنسا ضرورة الحصول على موافقة مجلس النواب الذي يحق له الإبقاء على حالة الحصار أو رفعها. وقد تكرس هذا الأمر في المادة 36 من الدستور الفرنسي الحالي التي تنص صراحة أن إعلان حالة الحصار يتمّ بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء ولا يمكن تمديدها أكثر من 12 يوما إلا بعد الحصول على موافقة البرلمان.
وقد تبنى لبنان منذ 1953 هذه الآلية وأكّدتها المادة الثانية من المرسوم الإشتراعي رقم 52 التي نصّت صراحة على التالي: ” تعلن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء على أن يجتمع مجلس النواب للنظر بهذا التدبير في مهلة ثمانية أيام وإن لم يكن في دور الإنعقاد”.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: هل النظر في اعلان حالة الطوارئ يعني قدرة مجلس النواب على الموافقة عليها أو الغائها. إن النص الفرنسي صريح لجهة لاشتراطه موافقة البرلمان بينما النص اللبناني يتكلم فقط عن النظر في هذا التدبير. الأرجح هو اعتبار موافقة مجلس النواب ضرورية وهذا ما حصل بالفعل عندما تم إعلان حالة الطوارئ بموجب المرسوم رقم 13925 تاريخ 31 تشرين الأول 1956. فقد اجتمع مجلس النواب في النهار نفسه ووافق بالاجماع على المرسوم المذكور علما أن رئيس مجلس الوزراء قال قبل تصويت النواب ” أن القانون يحتم على الحكومة تقديم مرسوم إعلان الطوارئ إلى المجلس ليأخذ علما به”. لا شك أن هذا التصريح يكتنفه الغموض فهو يقول فقط بضرورة إعلام مجلس النواب بحالة الطوارئ بينما لم يكتفِ النواب بأخذ العلم بل صوتوا عليه بالإجماع.
وفي 5 حزيران 1967 صدر المرسوم رقم 7508 معلنا حالة الطوارئ في كل لبنان واجتمع مجلس النواب في النهار نفسه. محضر الجلسة جاء خاليا من أي اشارة تتعلق بالموافقة على إعلان حال الطوارئ بل يوجد مجرد تصريح لرئيس مجلس الوزراء يعلن التالي: ” إن مرسوم حالة الطوارىء صدر هذا الصباح عن مجلس الوزراء وأرسل إلى المجلس علماً به، وفقاً للدستور وللأحكام النافذة”. وفي ختام الجلسة يعلن رئيس مجلس النواب “أن مرسوم إعلان حالة الطوارىء في البلاد الذي صدر عن مجلس الوزراء هذا الصباح، أخذ المجلس علماً به وفقاً للدستور والأحكام النافذة”.
وفي سنة 1969 عقب الأحداث الأمنية التي جرت بسبب الوجود الفلسطيني المسلح صدر المرسوم رقم 12362 (23 نسان 1969) الذي نص في مادته الأولى على التالي: ” تعلن حالة الطوارىء في جميع أراضي الجمهورية اللبنانية اعتبارا من تاريخ 23 نيسان 1969 ولغاية يوم الاحد الواقع في 27 نيسان سنة 1969″. وبما أن حالة الطوارئ أعلنت لفترة أقل من ثمانية أيام لم يتم إرسال المرسوم إلى مجلس النواب كي يتخذ القرار المناسب بشأنه.
وعقب الإعتداء الإسرائيلي في الأحداث الشهيرة التي حصلت في سنة 1972، أعلنت حالة الطوارئ (مرسوم رقم 3991 تاريخ 16 أيلول 1972) واجتمع مجلس النواب أيضا في النهار نفسه وبالفعل تلي المرسوم خلال الجلسة لكن لم يتم التصويت عليه صراحة بل اكتفى المجلس بالموافقة على قرار يدين الإعتداء الإسرائيلي ويشيد بالجيش اللبناني. أما آخر إعلان رسمي لحالة الطوارئ فقد حصل في سنة 1973 وتم بموجب المرسوم رقم 5513 ( 7 أيار 1973). ويغيب هذا المرسوم كليا عن مجلس النواب الذي لم تتمّ الموافقة عليه أو تلاوته أو حتى أخذ العلم به.
ولما كان اعلان الطوارئ قد تم لمدة أسبوعين قابلة للتجديد فإن ذلك يفرض ضرورة اجتماع مجلس النواب للنظر في هذه التدابير لا سيما وأن المجلس قد دعي إلى عقد استثنائي بموجب المرسوم 6442 تاريخ 4 حزيران 2020 تستمر حتى 19 تشرين الأول 2020، علما أن وجود المجلس خارج دورات الإنعقاد لا يمنع من اجتماعه لأن النظر في التدبير لا يتم بوصفه السلطة التشريعية التي تمارس اختصاصاتها وفقا للدستور، بل انطلاقا من المرسوم الاشتراعي رقم 52 الذي يقول أن مجلس النواب بوصفه هيئة تقريرية عادية يجتمع للنظر في التدبير. لكن بالطبع هذا ينطلق من مسلمة أن مجلس النواب هو حريص على حماية الحريات العامة وحقوق المواطنين، الأمر الذي يصبح موضع تشكيك كبير عندما تكون البلاد تمر في أزمة سياسية غير مسبوقة حيث تكون شرعية السلطة السياسية برمتها على المحك.
فرض الإقامة الجبرية
من الملاحظ أيضا أن قرار مجلس الوزراء الذي تضمن إعلان حالة الطوارئ في مدينة بيروت “طلب من السلطة العسكرية العليا فرض الإقامة الجبرية على كل من أدار شؤون تخزين نيترات الأمونيوم (2750 طن) وحراستها ومحّص ملفها أياً كان منذ حزيران 2014 حتى تاريخ الانفجار في 4/8/2020”. يطرح هذا “الطلب” في الحقيقة إشكالية قانونية أخرى كون إعلان الطوارئ محصور في بيروت فقط، فكيف يمكن فرض الإقامة الجبرية على الشخص المعني في حال كان خارج بيروت.
في النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن إعلان حالة الطوائ قد تكون، بغض النظر عن ضرورتها الحالية، وسيلة من أجل إحكام السيطرة على تحركات المواطنين السياسية عبر اتخاذ اجراءات قمعية بحجة مواجهة هذه الكارثة بينما الهدف الحقيقي هو منع الناس من المطالبة بمحاسبة النظام السياسي الذي أوصل لبنان إلى الإنهيار الكامل.