إصلاح نظام محكمة الجنايات في الجزائر


2018-02-25    |   

إصلاح نظام محكمة الجنايات في الجزائر

شهد قطاع العدالة في الجزائر منذ سنة 2015 جملة من الإصلاحات  تضمنت تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة عبر عدة مستويات منها استحداث نظام المثول الفوري كبديل عن إجراءات التلبس وحق الموقوف للنظر في الإتصال بمحاميه وتلقي زيارته. إلا أن أهم تعديل هو ذلك الذي تم بموجب القانون رقم 17 07 المعدل لقانون الإجراءات الجزائية والذي تضمن إنشاء درجة استئناف على مستوى الجنايات. جاء ذلك في سياق التعديل الدستوري الأخير الذي كرس صراحة مبدأ التقاضي على درجتين.

إطار الإصلاح: التعديل الدستوري الحاصل في 2016 والقانون الأساسي للقضاء

تعد محكمة الجنايات من أهم الهياكل التي تسهم في تحقيق العدالة الجزائية بتوقيع العقاب على المجرم وفقا للقواعد الواردة في قانون الإجراءات الجزائية، مع ضمان حقوق المتهم احتراما لمبدأ قرينة البراءة.

يعود نظام محكمة الجنايات في الجزائر إلى المحاكم الشعبية التي أنشئت مباشرة بعد الإستقلال سنة 1963. إلا أن تكريسها لم يتم بصورة شاملة إلا سنة 1975 بتقسيمها إلى قسمين: قسم عادي وقسم اقتصادي. واستمرت التعديلات في سنوات 1982، 1990 و1995 فيما يتعلق بإعداد القائمة السنوية للمحلفين وعدد المحلفين. إلا أن النظام الذي كان يحكمها من حيث التشكيلة وعدم تسبيب أحكامها وغياب الإستئناف في ما يصدر عنها من أحكام جعلها محل انتقادات من جانب الكثير من القانونيين أكادميين وممارسين، حيث اعتبروا أنها مخالفة للدستور وللإلتزامات الدولية التي ارتبطت بها الجزائر.

أكدت الإتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الجزائر على جملة من الضمانات التي يجب توفرها في الدعوى الجنائية. فقد نصّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 14 منه على حق الشخص المدان في اللجوء إلى محكمة أعلى لإعادة النظر في قرار إدانته، والذي يعرف في القانون الدولي لحقوق الإنسان بمبدأ التقاضي على درجتين. جاء التعديل الدستوري الأخير لسنة 2016 لإدماج هذه الضمانة حيث نص بأن يضمن القانون التقاضي على درجتين في المسائل الجزائية، معلنا عن دسترة المبدأ في سابقة تشير إلى عمق الإصلاحات التي تضمنها والتي جاءت في سياق مطالب كان قد عبر عنها كثير من القانونيين حول ضرورة إجراء إصلاح عميق على محكمة الجنايات بالنظر لأهميتها كهيكل في المنظومة العقابية، مما حقق مطابقة للمنظومة الداخلية مع القانون الدولي.

تتابعت تطبيقات التعديل الدستوري لتبرز بداية في القانون العضوي المتضمن التنظيم القضائي، حيث نص هذا التعديل على أنه توجد في مقر كل مجلس قضائي محكمة جنايات ابتدائية ومحكمة جنايات استئنافية، مما يوضح تغير الإطار المرجعي الذي يحكم نظام محكمة الجنايات، والذي ترجم بعد ذلك في النص الإجرائي.

محكمة الجنايات الإستئنافية

انعكس التعديل الدستوري على قانون الإجراءات الجزائية الذي نص منذ شهر مارس 2017 على إنشاء محكمة جنايات استئنافية إلى جانب محكمة الجنايات الإبتدائية، مما جعل استئناف الأحكام الفاصلة في الموضوع  يكرس لأول مرة في محكمة الجنايات، الإجراء الذي كان غائبا قبل التعديل الحاصل. فقد كان يسمح فقط باستئناف أوامر قاضي التحقيق وغرفة الإتهام دون الحكم الفاصل في الموضوع . لقد تم تبرير عدم الإستئناف في مواد الجنايات في السابق بعدة أسباب، منها العيوب التي تعتري قاعدة التقاضي على درجتين التي تؤدي إلى إطالة أمد النزاع وتزيد التكاليف. كما أن وجود درجتين للتحقيق في مواد الجنايات يعوض التقاضي على درجتين، بالإضافة إلى كون التشكيلة الشعبية لمحكمة الجنايات تجعل من الحكم لا يقبل أي طعن ولا مجال لتبريره.

لقد انتقد جل القانونيين عدم تطبيق الإستئناف في مواد الجنايات، منطلقين من كونه موجودا في الجنح والمخالفات التي هي جرائم أقل خطورة من الجنايات، وغائب في أخطر الجرائم تصنيفا التي هي الجنايات. وهو ما أدى بالمشرع إلى إعادة النظر في هذه القاعدة في إطار التعديل الأخير، متجها إلى إقرار الإستئناف في الجنايات، حيث أصبحت أحكام  محكمة الجنايات قابلة للإستئناف أمام محكمة الجنايات الإستئنافية. ولقد انعقدت أول دورة لمحكمة الجنايات الإستئنافية في شهر ديسمبر 2017.

كما أكد التعديل على أن للإستئناف أثر ناقل للدعوى، حيث يعاد طرح الدعوى أمام محكمة الجنايات الإستئنافية بنفس نطاقها الذي نظرت فيه محكمة الجنايات الإبتدائية، بما يحمله هذا النطاق من عناصر قانونية وواقعية. فكل ما تملكه محكمة الدرجة الأولى تستطيع كذلك محكمة الإستئناف التصدي له.

التشكيلة الجديدة لمحكمة الجنايات: نظام المحلفين بين التعزيز والإلغاء

تتميز محكمة الجنايات في العديد من الدول باعتماد نظام المحلفين الذي يؤدي إلى إضفاء الطابع الشعبي على هذه المحكمة، حيث يشترك إلى جانب القضاة المهنيين مساعدون للقضاة في جميع الإجراءات يتداولون معا بشأن الإدانة ثم العقوبة. ولقد تطورت تشكيلة محكمة الجنايات في الجزائر التي كانت تتشكل من ثلاثة قضاة محترفين وأربعة مساعدين محلفين سنة 1966. و قد أعاب عليها القانونيون عدم التوازن الذي كان أحد الأسباب التي أفضت إلى صعوبة في إصدار الأحكام. خفض التعديل الحاصل سنة 1995 عدد المحلفين ليصبح اثنين في مقابل ثلاثة قضاة، واستمرّ الجدل حول إشراك المحلّفين من عدمه في محكمة الجنايات التي تختص بأشدّ الجرائم خطورة وتحتاج بالتالي إلى قضاة متخصصين قادرين على الكشف عن الأدلة والفصل في الإدانة بطريقة موضوعية قائمة على اعتبارات قانونية، وهي المؤهلات التي تنتفي في المحلفين الذين لا يكون لهم دراية بالقانون في غالب الأحيان.

تضمن تعديل قانون الإجراءات الجزائية سنة 2017 إعادة النظر في تشكيلة محكمة الجنايات التي أصبحت تتكون من أربعة محلفين في مقابل ثلاثة قضاة، و هو ما يترجم عودة إلى النموذج الذي تم اعتماده من قبل المشرع الجزائري مباشرة بعد الإستقلال، مع كل العيوب والإنتقادات التي لاقاها بسبب عدم التوازن في التشكيلة الذي ينعكس على طريقة سير الإجراءات. أمام هذه العودة القوية للمحلفين، نشهد من جانب آخر تراجع لهم، حيث أن التشكيلة الخاصة لمحكمة الجنايات والتي تنعقد للنظر في الجنايات المتعلقة بالإرهاب والمخدرات والتهريب تتكون من قضاة فقط دون إشراك المحلفين. يظهر من هذا التعديل التذبذب الذي حصل بين الإبقاء على نظام المحلفين وبين إلغائه نهائيا كما قامت به بعض الدول، حيث حاول المشرع التوفيق بين مؤيدي الإبقاء على هذا النظام والمنادين بإلغائه. فهو من جهة برر رفع عدد المحلفين في التشكيلة العادية لمحكمة الجنايات سواء الإبتدائية أو الإستئنافية ليفوق عدد القضاة وبالتالي تكريس الطابع الشعبي لهذه المحكمة وضمان ممارسة رقابة على سير وإدارة العدالة. ومن جهة أخرى، ألغى المحلفين من التشكيلة الخاصة لمحكمة الجنايات التي تتشكل من قضاة فقط.

ومن بين المآخذ على نظام المحلفين هو ضعف المستوى التعليمي لهم و عدم درايتهم بالقانون، واحتكامهم للعاطفة مما ينتج عنه التسامح المبالغ فيه أو التشديد المفرط. وما يؤكد هذه الجوانب السلبية، هو عدم اشتراط المشرع لأية مؤهلات خاصة مثل المستوى العلمي حتى في التعديل الأخير لقانون الإجراءات الجزائية.

نشر في العدد 10 من مجلة المفكرة القانونية في تونس

قائمة المراجع:

زليخة التجاني، نظام الإجراءات أمام الجنايات، دراسة مقارنة، دار الهدى،   2015 .

رمضان غناي، دراسات في قانون الإجراءات المدنية و الإدارية و قانون الإجراءات الجزائية آخر تعديل الطبعة الأولى، 2017.

مختار سيدهم، من الإجتهاد القضائي للغرفة الجنائية للمحكمة العليا، محاضرات قرارات ، موفم للنشر، 2017.

الدستور الجزائري المؤرخ في 28 نوفمبر 1996 المعدل في: 10 04 2002 ثم في 15 11 2008 ثم في 6 3 2016.

قانون عضوي رقم 17 07 مؤرخ في 27 3 2017 بعدل القانون العضوي رقم 05 11 و المتعلق بالتنظيم القضائي.

أمر رقم 66 155 مؤرخ في 8 7 1966 يتضمن قانون الإجراءات المدنية، معدل و متمم لا سيما بالقانون رقم 17 07 المؤرخ في 27 3 2017.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، بلدان عربية أخرى ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني