“إصلاحات” النظام السوري تعزيز للاختفاء القسري


2013-12-05    |   

“إصلاحات” النظام السوري تعزيز للاختفاء القسري

تعرضَ ولا يزال عشرات الآلاف من السوريين للاختفاء القسري سواء كان ذلك منذ بداية الحراك الشعبي في مطلع عام 2011 أو حتى قبله، وخاصة في سنوات الثمانينات. قبل أن أتطرق في هذه المقالة إلى مختلف التشريعات القانونيةالمتعلقة بالاختفاء القسري والمكرسة له، وخاصة منها المراسيم الرئاسية الصادرة بعد عام 2011، سأتوقف عند بعض النقاط القانونية والحقوقية المتعلقة بهذا الانتهاك الخطير من تحديد مدلولاته وذكر آثاره.
 
الاختفاء القسري كجريمة ضد الانسانية
يُقصد بالاختفاء القسري حسب المصطلح الإعلامي المتعارف عليه والمتداول: احتجاز شخص وعدم الكشف عن مصيره، مهما كانت الجهة المسؤولة، سواء كانت مستقلة أو تابعة للسلطات الحكومية. فالخطف من طرف عصابة مسلحة بغية الحصول على فدية مالية يمكن أن يطلق عليه وصف الخطف أو الاختفاء القسري بحسب المصطلح الإعلامي، بينما وبحسب المصطلح الحقوقي أو على الأقل وفق القانون الدولي أن تكون الجهة المسؤولة حكومية أو تابعة للحكومة. فيُعرّف ”الاختفاء القسري“ بحسب الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري[1]، ب "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون".

تبرز جسامة الانتهاك المتعلق بالاختفاء القسري من خلال ترافقه مع انتهاكات أخرى كالاعتقال التعسفي وذلك نظراً لحرمان الشخص المعني من كافة إجراءات التقاضي بما فيها المحاكمة العادلة أو تقديم شكوى ضدّ منتهكي حقوقه الأساسية. كما يمكن أن يتعرض المختفي قسرياً للتعذيب الجسدي والمعاملة اللاانسانية وحتى القتل خارج إطار القضاء نظراً لغياب كافة الضمانات الحقوقية المختلفة في ظلّ من مناخ الإفلات من العقاب، فضلاً عن التعذيب النفسي الذي يرافق الضحية والناجم عن الاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي وانقطاع أخبار المقربين وأيضاً الجهل بالمصير. كما أنّ جريمة الاختفاء القسري ذات طابع زمني دائم، فيستمر الانتهاك اعتباراً من تاريخ القبض على الضحية وطوال فترة اخفائه.

لا تقتصر المعاناة على الضحايا فقط، بل تشمل عائلاتهم أيضاً الذين يعانون بشدة على الصعيد النفسي والاجتماعي والاقتصادي
والأمني[2]والقانوني، كعدم إمكانية الحصول على شهادة وفاة وبالتالي إمكانية التصرف بأملاك المفقود وتقسيم الميراث أو حتى إمكانية قرين المفقود الزواج مرة ثانية، إلخ. وقد ترقى هذه المعاناة لمستوى التعذيب، الأمر الذي تطرّق إليه العديد من الخبراء في هيئات الأمم المتحدة لاعتبار معاناة أهالي المفقودين كصنف من أصناف التعذيب[3]. فعدم معرفة الأهالي لمصائر أقاربهم وفيما اذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة وغيرها من المعلومات المتعلقة بتفاصيل وملابسات وظروف الانتهاك، تسبّب أيضاً كثيرا من الأسى الدائم.

على ضوء ما سبق يمكن أن يرقى الاختفاء القسري لمستوى جريمة ضد الانسانية، حيث تعتبر المادة الخامسة من اتفاقية الاختفاء القسري أنّ الممارسة العامة أو المنهجية لهذا الانتهاك يشكل جريمة ضد الإنسانية كما تمَ تعريفها في القانون الدولي. هذا وتُدرج المادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الاختفاء القسري للأشخاص بوصفه عنصراً مكوناً لهذه الجريمة "متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم"، وهو ما ينطبق تماماً على الوضع الراهن في سورية. وقد جاء في تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة: "تستخدم القوات الحكومية والقوات الموالية للحكومة الإخفاء القسري كاستراتيجية حرب من أجل قمع المعارضين وبث الرعب في المجتمع. وتُرتكب هذه الأفعال كجزء من هجمات واسعة النطاق ضد سكان مدنيين وهي تشكّل بالتالي جريمة ضد الإنسانية"[4].
 
الاختفاء القسري في التشريعات السورية
 
صحيح أنّ التشريعات السورية لا تنصّ بشكل صريح على تجريم الاختفاء القسري، لكن تتعدد البنود القانونية أو الضمانات الحقوقية لمكافحة هذه الجريمة. فينصّقانونأصولالمحاكماتالجزائية على ضرورة إبراز مذكرة التوقيف والأسباب الواجبة لصدورها[5]. ولا يجوز أن يتأخر التحقيق مع الموقوف أو عرضه على النيابة العامة أكثر من 24 ساعة[6]، وإلا اعتبر المسؤول عن ذلك مذنباً بمقتضى قانون العقوبات السوري[7].كما أنّ المادة 72 من قانون أصول المحاكمات تُجيز للموقوف الاتصال بمحاميه في أي وقت وحتى لو قرر قاضي التحقيق منع ذلك. أمّا المادتين 242 و252، فتتعلقان بعدم جواز حجز الأفراد في غير الأماكن المخصصة لذلك وواجب المواطنين بالإعلام عن ذلك.كما يتضمن كل من دستور عام 1973 وكذلك الدستور السوري الحالي على ضمانات مختلفة ومنها أنّ "الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وآمنهم[8]".

ومع ذلك لم يتم التقيد على الإطلاق بهذه المواد القانونية والدستورية وخاصة في ظل تشريعات الطوارئ والإرهاب المناقضة والمعطلة لها، كما بيناه في المقالات السابقة. وكنّا قد رأينا بأنّ "إصلاحات النظام السوري“ في القطاع القضائي،ولاسيما إلغاء محكمة أمن الدولة،لم تحقق على الإطلاق استقلالية القضاء ووقف امتهان كرامة المواطنين السوريينوضمان شروط المحاكمة العادلة لهم وخاصة أمام محكمة مكافحة الإرهابالاستثنائية. وقد أدّى تهلهل السلطة القضائية إلى تعزيز انتشار حالات الاختفاء القسري بشكل ممنهج فقد عجزت هذه السلطة عن محاسبة مرتكبي هذه الجريمة من أجهزة الأمن والميليشيات التابعة لها بما يؤدي لوضع حدّ للإفلات من العقاب وما تكرّسه من حالات قتل خارج إطار القضاء واحتجاز تعسفي. وأهملت أيضاً السلطة القضائية مراقبة مراكز الاعتقال والاحتجاز بشكل يسمح بالكشف عن مصير آلاف الضحايا، ولم تواكب الإجراءات القانونية اللازمة بما في ذلك استصدار مذكرات التوقيف وعرض الموقوفين على القضاء بالسرعة اللازمة بشكل يسمح بالكشف عن مصائر الضحايا.
وكما سبق وذكرنا، فقد عمد النظام السوري بعد رفع حالة الطوارئ على استصدار مراسيم تشريعية لضمان استمرار عمل الأجهزة الأمنية دون رقيب. وكان لهذه المراسيم دور في تعزيز شرعنة الاختفاء القسري، وخاصة منها المراسيم المتعلقة "بالإرهاب"[9]والمرسوم رقم 55 الصادر في 21 نيسان/أبريل 2011. وقد شرعن هذا الأخير جريمة الاختفاء القسري عندما أضاف إلى المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية فقرة قانونية لتخويل "الضابطة العدلية أو المفوضون بمهامها باستقصاء الجرائم المنصوصعليهافي المواد من 260حتى 339 والمواد 221 و388 و392 و393 من قانون العقوبات وجمع أدلتها والاستماع إلى المشتبه بهم فيها على ألا تتجاوز مدة التحفظ عليهم سبعة أيام قابلة للتجديد من النائب العام وفقاً لمعطيات كل ملف على حدة وعلى ألا تزيد هذه المدة على ستين يوماً". فيعطيهذا المرسوم صلاحيات واسعة للضابطة العدلية ومن تفوضها وهم في الغالب أجهزة الأمن المختلفة، ولا يفصل سلطة الاتهام عن سلطة التحقيق بما يضمن حقوق الإنسان وحرياته. وتكمن خطورة هذا المرسوم بشكل أساسي من خلال إمكانية الأجهزة الأمنية التحفظ على المتهمين لمدة قد تصل الستينيوماً، لا تعترف خلالها بوجود المعتقلين لديها ويكونون غالباّ بمعزل عن العالم الخارجي وبالتالي في حالة من الاختفاء القسري.وتجدر الإشارة بأنّ حتى هذه المادة التي تكرّس جريمة الاختفاء القسري لا تتقيد بها أجهزة الأمن، فغالباً ما تزيد المدة عن الستين يوماً أو ينتهي المطاف بتصفية المعتقل تحت التعذيب أو بوفاته نظراً للأوضاع اللاانسانية في مقرات أجهزة الأمن، دون أن يتم إعلام ذويه بذلك[10]
 
تجدر الإشارة بأنّ ملف المفقودين في سوريا كان قد طال حتى غير السوريين من لبنانين وفلسطينيين وأردنيين ممن لم يُكشف عن مصيرهم حتى يومنا هذا[11]. ويقدّر عدد ضحايا ملف الاختفاء القسري لسنوات الثمانينات، الذي لم يتم تسويته حتى يومنا هذا، بعشرات الآلاف. وقد تفاقم هذا الانتهاك عقب أحداث صيدنايا عام 2008 التي ذهب ضحيتها العديد من القتلى من السجناء، قبل أن يتم منع الزيارات والكشف عن مصير المعتقلين والاعتراف بوجودهم وبالتالي كانوا قد تعرضوا للاختفاء القسري. ومنذ بداية الحراك الشعبي في سوريا، ازدادت بشكل واضح هذه الممارسة، فقدأعربمراراً الفريقالعاملالمعنيبحالاتالاختفاءالقسريأوغيرالطوعي عن بالغ قلقهإزاءارتفاع عددحالات هذا الانتهاك[12]. وقد تنامت هذه الظاهرة بشكل تصاعدي خلال السنتين الماضيتين ليذهب عشرات الآلاف من السوريين ضحية لها. حيث تمّ إلقاء القبض على الآلاف من السوريين قبل أن يتم تصفيتهم أو إلقائهم في مقرات أجهزة الأمن وغيرها من المعتقلات السرية، دون أن يتم لاحقاً الاعتراف بوجود المعتقلين أو حتى إبلاغ ذويهم بأية معلومات عنهم. وقد طالت هذه الجريمة كافة شرائح المجتمع السوري من الشبّان والأطفال والنساء والرجال المسنين، ومن بين هؤلاء من العاملين في الإغاثة ومن أصحاب الرأي المعارض للنظام أو حتى من أقاربهم للضغط عليهم لكي يسلموا أنفسهم[13]. ومما فاقم هذا الانتهاك خشية أهالي المفقودين الاستعلام عن مصير ذويهم نظراً لمخاوفهم من التعرض لأعمال انتقامية، وأيضاً بدء حالة الانفلات الأمني في البلاد وما رافقها من تفشي ظاهرة الخطف لأسباب مادية وحتى سياسية وطائفية. أضف إلى ذلك الانتهاكاتالتيترتكبهابعض الجماعاتالمعارضةالمسلحةالأخرى[14]، وأخيراً تكرّيس هذه الجريمة على الصعيد القانوني بعد إصدار المرسوم الرئاسي رقم 55 المذكور أعلاه.

ومن الجدير أيضاً التوقف عند المرسوم التشريعي رقم 20 الخاص بجريمة خطف الأشخاص والعقوبات المترتبة عليها والصادر بتاريخ الثالث من نيسان/أبريل 2013. فالمادة الأولى من هذا المرسوم تُعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة "كل من خطف شخصاً حارماً إيّاه من حريته، بقصد تحقيق مأرب سياسي أو مادي، أو بقصد الثأر أو الانتقام، أو لأسباب طائفية، أو بقصد طلب الفدية". ويتشابه هذا التعريف مع المقصود بالخطف أو الاختفاء القسريكما أشرنا إليه أعلاه.إلاّ أنه من الواضح بأنّ هذا المرسوم موجه ضدّ العصابات غير الحكومية التي تمارس الخطف، ولا يعني على الإطلاق الجهات الحكومية والتابعة لها ذات المسؤولية المباشرة عن آلاف من حالات المفقودين في سوريا. وعلى الرغم من أهمية مكافحة ظاهرة الخطف المتفشية في سوريا، يبقى التساؤل الأكبر لدى أهالي الضحايا عن الجهة المسؤولة عن الخطف، ولاسيما فيما اذا تمّ في ظروف غامضة، طالما أن أجهزة الأمن ومن يتبعها لا تتقيد غالباً بلباس يسمح بالتعرف على هويتها وترفض غالباً الاعتراف بوجود المقبوض عليه لديها أو حرمانه من حريته أو الكشف عن مصيره وإعلام أهله بعد اعتقاله.

بالتأكيد سيبقى ملف الاختفاء القسري من أبرز الأوليات في المرحلة القادمة، الأمر الذي سيتطلب تشكيل لجان حقوقية لتوثيق الأحداثوكشفالحقيقة ومحاسبة الجناة وتعويض الضحايا أو ذويهم على الصعيدين المادي والنفسي. ومن الواجب أن تتم معالجة هذه الظاهرة على الصعيد التشريعي، وهو ما سيتطلب إلغاء بعض التشريعات المكرسة لهذه الجريمة، من ناحية، واستصدار ما يضمن مكافحتها، ولاسيما في الدستور السوري المأمول تبنيه لاحقاً، من ناحية أخرى.
 



[1]تمّ اعتمادها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 61/177 المؤرخ في 20 كانون الأول/ديسمبر 2006. هذا ولم تنضم الحكومة السورية حتى يومنا هذا لهذه الاتفاقية.
[2]لمزيد من التفاصيل، أنظر رضوان ذيادة، سنوات الخوف: الحقيقة والعدالة في قضية المختفين قسرياً في سورية، مشروع العدالة الانتقالية في العالم العربي، ص 82 وما يليها.
[3]الكرامة، جرائم ضد الانسانية: تعذيب ممنهج وقمع للمعارضة الشعبية، تقرير مقدّم للجنة مناهضة التعذيب في إطار الاستعراض الخاص للجمهورية العربية السورية، 20 نيسان/أبريل 2012، ص 16.
[4]التقرير السادس للجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن الجمهورية العربية السورية،A/HRC/24/46،11أيلول/سبتمبر 2013، النقطة 74.
 [5]أنظر المادتين 108 و 109 .
 [6]أنظر المادتين 104 و 105 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
 [7]تنصّ المادة 358 من هذا القانون على ما يلي: ”إن مديري وحراس السجون أو المعاهد التأديبية أو الإصلاحيات وكل من اضطلع بصلاحياتهم من الموظفين إذا قبلوا شخصاً دون مذكرة قضائية أو قرار قضائي أو استبقوه إلى أبعد من الأجل المحدد يعاقبون بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات“.
[8]المادة 25 من دستور 1973 والمادة 38 من الدستور الحالي.
[9]أنظر المقالات السابقة المتعلة ب”بإصلاحات النظام السوري“ والمنشورة على موقع المدونة القانونية.
 [10]أنظرمنظمة العفو الدولية، مرجع مذكور سابقاً.
[11]أنظر الكرامة، حالةالطوارئفيسوريا: مناخملائمللتعذيب، تقريرمقدّمللجنةمناهضةالتعذيبفيإطاردراسةالتقرير الأوليلسوريا، نيسان/أبريل 2010، ص 27 وما يليها.
[12]للاطلاع على تقارير الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، أنظر الرابط التالي:
http://www.ohchr.org/EN/Issues/Disappearances/Pages/Annual.aspx
[13]هيومان رايتس ووتش، التقرير العالمي 2013: سوريا، أحداث عام 2012، متوفر على الرابطالتالي:
http://www.hrw.org/ar/world-report-%5Bscheduler-publish-yyyy%5D/2013-0

أنظر أيضا، منظمة العفو الدولية، حالات الاختفاء القسري في سورية، متوفر على الرابطالتالي: http://amnesty.org/en/node/34030

[14]أنظر تقريرلجنةالتحقيقالدوليةالمستقلةالمعنية بالجمهوريةالعربيةالسورية، مجلسحقوقالإنسانالدورةالتاسعةعشرة، A/HRC/19/69، 22 شباط/فبراير 2012، ص 27 وما بعدها. أنظر أيضاً، اللجنة السورية لحقوق الإنسان،سياسة خطف النشطاء في الأراضي السورية الخاضعة للمعارضة المسلحة، 16 آب/أغسطس 2013. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، سوريا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني