إصابة نحو 60 عاملاً وعاملة في القطاع الصحي بكوفيد 19.. عن الجنود المجهولين “المسافرين” إلى حرب كورونا في لبنان


2020-05-05    |   

إصابة نحو 60 عاملاً وعاملة في القطاع الصحي بكوفيد 19.. عن الجنود المجهولين “المسافرين” إلى حرب كورونا في لبنان

تختصر جملة طفلة الممرض في مستشفى الجامعة الأميركية أحمد طافش “ليش مسافر لحالك بابا”، وهو يحمل حقيبته ويغادر منزله إلى مركز عمله، التحدّي والتغيّرات التي فرضتها جائحة كورونا على حياة العاملين في أقسام كوفيد 19 سواء في العناية المركّزة مروراً بالمختبرات الفاحصة إلى العاملين في التنظيفات. اتخذ طافش قراره بالإنتقال إلى وحدة كورونا بعدما أرسلت إدارة المستشفى للعاملين تسأل عن راغبين في التطوّع للعمل في الوحدة. يقول طافش: “لم أتردد، حين جلست أفكر في خياري بيني وبين نفسي، أتت الأفكار إلى رأسي لتقلقني على عائلتي وطفلتي، صراحة فكرت في التّراجع”. يضيف: “لكن دعم زوجتي الشديد لخياري شجعني على المضي فيه”. ما يُحزن طافش هو أنه لا يرى عائلته منذ أن انتقل للعيش وحده في بيروت.

رأينا الطاقم الطبي العامل في أقسام كورونا في المستشفيات التي تستقبل حالات مشابهة في لبنان والبسمة على وجوههم وهم يروون تجاربهم في التصدّي لهذا الوباء. لكن وراء هذه الإبتسامات تفاصيل صغيرة عن حيواتهم التي تبدّلت وتغيّرت نتيجة انخراطهم في محاربة الجائحة التي أقفلت البلدان على نفسها وعن بعضها البعض وتسببت بأقصى أزمات صحية واقتصادية في طول الكرة الأرضية وعرضها.

ففي الوقت الذي شكّل فيه تحدّي مواجهة الفيروس مناسبة لرد الإعتبار لأهمية دور هؤلاء المتطوّعين لإنقاذ العالم، وخصوصاً الكادر التمريضي (كون الأطباء يحتفظون بمكانتهم تلقائياً) ولتقدير تضحياتهم، شكل انتشار صور تُظهر الإرهاق والتعب على بعض العاملين في أقسام كورونا في العالم، وخصوصاً أولئك الجالسين أرضاً ورؤوسهم بين أياديهم مؤشراً على كمّ التحدّيات والضغط اللذين يعانون منهما. وجاءت ذروة الأخبار السيئة مع إعلان انتحار الممرضة إيطالية في إحدى مستشفيات إقليم بومبارديا في إيطاليا دانيللا تريتزي في 25 آذار، والطبيبة الأميركية لورنا برين في 28 نبيسان الماضي في منهاتن في نيويورك لتدق ناقوس الخطر حول ضرورة إيلاء الوضع النفسي لهؤلاء الأهمية نفسها الممنوحة للحماية والعناية بالمصابين.

ويكتسب وضع العاملين في أقسام كورونا في لبنان أهمية أكبر كونهم يعانون مع بقية اللبنانيين من أزمة اقتصادية فادحة فيما عليهم خوض معارك في مواجهة الفيروس في ستّ مستشفيات حكومية وأربع خاصة مع تفاوت حجم العناية والإهتمام سواء الصحي- النفسي أو المادي، كرواتب وتقديمات. وفيما لم تسجّل إصابات بين العاملين في أقسام كرورنا حتى الآن، لم يرحم الفيروس العاملين في الأقسام الأخرى من طوارئ وغيرها  فأُصيب العشرات من بينهم.

يتحمّل هؤلاء الضغوط النفسية، واضطر كثرٌ لترك منازل عائلاتهم والسكن منفردين لحمايتها، وإن كانت الإجراءات الوقائية المتّخذة في وحدات الكورونا عالية الدقة، تاركين أمهات وآباء وزوجات وأبناء ينتظرونهم إلى حين العودة من “السفر”. ورأى آخرون أنّ إجراءات الوقاية كافية للبقاء إلى جانب العائلة، فيما يختار البعض يوماً كل مدة زمنية لزيارة العائلة.

وبرغم تأثرهم البالغ لدى تدهور الوضع الصحي للمصابين أحياناً، إلاّ أنهم يحتفلون حينما يتماثل آخرون إلى الشفاء. وإذ أنّهم لا يتمتعون بترف الخروج للتمويه عن أنفسهم، فيتشبثون بجرعات التفاؤل التي يقدمها الداعمون، من زملاء العمل وما تقدمه إدارة المستشفيات من الدعم المعنوي، إضافة إلى الإعلام والرأي العام الّلذين استفاقا فجأة على أهمية هذه الوظيفة المليئة بالمخاطر، فأصبحت مقدّرة. لكن على خط آخر يُعاني البعض من بينهم من التمييز فقط لأنهم يعملون في علاج مرضى كوفيد 19، حتى بات هناك من يتجنّب اللقاء بهم.

61 مصاباً في صفوف العاملين في الصحة بفيروس كورونا

حتى الساعة لا يوجد تعداد رسمي لبناني للعاملين في المستشفيات ممن أصيبوا بفيروس كورونا، وتؤكد نقيبة الممرضات والممرضين د. ميرنا أبي عبدالله ضومط لـ “المفكرة القانونية” بأن “العاملين في وحدات الكورونا هم بآمان من الإصابة بالفيروس بسبب فعّالية الإجراءات الوقائية”. ولكن حتى تاريخ 4 أيار، تشير منظمة الصحة العالمية – مكتب لبنان، إلى عدد الإصابات في صفوف العاملين في الصحة بفيروس كورونا وصل إلى 61 إصابة.

وتقول ضومط إن الخطر الأكبر يكمن على “من هم في الأقسام الأخرى، فهؤلاء معرّضون لخطر الإصابة في حال دخول مريض مصاب بالفيروس ولا يظهر  أيّة عوارض، لافتة إلى أنّ عدد المصابين في صفوف الممرضين والممرضات لامس الثلاثين إصابة”. من ناحيته يلفت نقيب الأطباء في بيروت البروفيسور شرف أبو شرف إلى أنّ بعض المستشفيات والمراكز الصحّية غير التي تستقبل مصابي كرورنا، “امتنعت عن تأمين مستلزمات الوقاية كالكمامات بوفرة، ممّا اضطر الأطباء إلى تحمّل تكلتفها من جيوبهم”.

كادر الطوارئ الأكثر عرضة

لا يمكن التنبؤ بما يعاني منه مريض الطوارئ وعلى طبيب هذا القسم أن يستنفر لإنقاذ القادمين من المرضى  وإعطاء أولوية لنجاتهم، مضطرّين إلى الاحتكاك بهم عن قُرب. قد يكون ذلك وراء إصابة الطبيب يوسف طوق، 65 عاماً، في طوارئ مستشفى بشرّي الحكومي. طوق لا يؤكد إصابته في الطوارئ إنما يُشدد على أنّ طبيب الطوارئ مهما اتخذ من إجراءات حماية فهو معرّض أكثر من غيره لخطر الإصابة. يروي طوق لـ “المفكرة القانونية” تفاصيل تجربته مع الإصابة بالفيروس، مبدياً توقه للانتهاء من الحجر الصحي والعودة إلى العمل مع زملائه في المستشفى. يقول: “في العادة تُصيبني حساسية موسمية في هذا الفصل من السنة، فلم آخذ بعين الاعتبار بعض السعال الذي شعرت به”. يُضيف: “بعد أيام خطر ببالي أن أُجري الفحص كتجربة عاديّة دون أن يكون في بالي أي شك أنني مُصاب، علماً أني لم أشعر بارتفاع الحرارة ولا أي من عوارض الإصابة”. ويعتبر أن الأمر “كان بمثابة إلهام لا أفهمه”. أجرى الطبيب فحص الـ PCR في 25 آذار، “وحين أتت النتيجة تفاجأت بأنها إيجابية”.

التعامل مع الإصابة بالنسبة للطبيب طوق أمر سهل فيصفه “بمرض ليس بخطير وفق وضعه الخاص”، لافتاً إلى أنّه، “ربما نحن في هذا البلد لدينا مناعة قوية، فالوضع اللبناني يُنبئ بالخير نسبة لعدد الوفيات القليل والعدد المُتدنّي من الحالات الحرجة”. ويجدر التذكير أنّ طوق يعيش معظم وقته في الطبيعة، هو الذي زرع آلاف أشجار الأرز في بشري وجبل المكمل ومنطقة الأرز وهو من أوائل البيئيين في لبنان ويحيى حياة بسيطة قريبة من الأرض والزرع والطبيعة. ويؤكد طوق أنّه يتمتع بصحة جيدة ويتبع نظاماً غذائياً متوازناً. وما ساعده على التأقلم مع الحجر المنزلي أنّه يعيش في بشري في منزل ريفي ويهوى زراعة شجر الأرز، وهناك يتمكن من اللجوء إلى الطبيعة والتمويه عن الذات، ويؤكد “في الأصل إنه نمط حياتي الطبيعي، فلم أشعر بأني مسجون بل أنا سعيد بوجودي بين أشجار الأرز”.  ويعتبر أنّ من “ليس لديه هذا الامتياز سيكون صعباً عليه الحجر في شقة بين أربع حيطان”. وأصيبت طبيبة أخرى في بشري إضافة إلى طوق بعد انتقال العدوى إليها من أطفال سبق ونقل والدهم العدوى إليهم.

بعد إصابة الطبيب طوق وإعلام المستشفى بإصابته، تم إقفال المستشفى لمدة أسبوع  وإجراء الفحوصات لطاقم الموظفين ليتبين أن عدد الإصابات لا يتعدّى 5 بينهم. لا يعرف طوق من أين بدأ انتشار الفيروس بين العاملين، لكن يؤكد “جميعنا بصحة جيدة اليوم”. لكن حين انتشر الخبر في وسائل الإعلام تم التداول بإسمه دون رحمة ووصفوه “بالطبيب الذي نقل العدوى إلى بشري بأكملها”. يُعلّق على هذا الأمر بقوله، “أنا لا أتابع الأخبار، ما عندي راديو ولا أقرأ الصحف، أصدقائي الذين اتصّلوا بي أعلموني بالأخبار المتداولة”. ويصف هذه الأخبار بأنها “ناتجة عن جهل وقلّة معرفة، وبعدما تم التحقق من أنّ العدوى انتشرت في بشري بسبب شخص نقل العدوى لعائلته، فإن بعض الأشخاص خجلوا من أنفسهم بسبب ما قالوه بحقي”. ويلفت إلى أّنه بعد إجراء الفحوصات للأشخاص الّذين التقى بهم طوق تبين أنه لم ينقل العدوى لأي شخص منهم.

ويؤكد الطبيب الذي يبعث التفائل من خلال تقبله لإصابته أنّهم في المستشفى يتخذون إجراءات الحماية اللازمة إنما، “هيك صار”. ويُشير إلى أنّه ينتظر بفارغ الصبر للعودة إلى زملائه في المستشفى قريباً لاستكمال عمله.

عنصرية ضد عاملة في وحدة كورونا

قد ينتهي فيروس كورونا يوماً إلّا أنّ ثمة تجارب عاشها من عمل في وحداتها ستترك بصمة إيجابية  أو سلبية.   تروي مساعدة ممرضة في وحدة الكورونا في مستشفى خاصة التمييز والعنصرية اللذين تعرضت لهما: “منذ مدة اضطررت لنقل أمي إلى مستشفى غير التي أعمل فيها، هناك حين علموا أنني أعمل في وحدة الكورونا عاملوني بطريقة لئيمة جداً، ثم طلبوا مني التوقف عن المجيء لزيارة أمي”. عندما استنكرت  المعاملة كان الجواب: “إذا ما عجبك فلّو”. آنذاك، “اضطررت لإخراج أمّي من المستشفى لتستكمل علاجها في المنزل”.

موظفو مستشفى الحريري أول المستجيبين

يتكبّد العاملون في مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت الحمل الأكبر في مواجهة انتشار فيروس كورونا. فهم منذ الإعلان عن أول حالة إصابة بالفيروس ليل 23 شباط كانوا على أتم الاستعداد لاستقبال المرضى والعناية بهم. وإن كانت المستشفيات الخاصة قد انضمت بعد نحو الشهر لمواجهة كوفيد 19، إلّا أن غالبية المصابين في لبنان الذين تخطى عددهم الـ 700 مصاب بينهم 192 متعافون، مكثوا في مستشفى الحريري الذي أُلقي عليه العبء وحده منذ البداية.

كانت الممرضة في مستشفى رفيق الحريري الحكومي نادين عطّار تنتظر بقلق استقبال أول مريض كوفيد 19 في 23 شباط 2020، “إنّها تجربة جديدة، لا بدّ من أن نشعر بشيء من الخوف، والقلق من أن أكون قد أخطأت أو نسيت شيئاً ما خلال اتخاذ الإجراءات الوقائية، فنكون في البداية مثل أيّ شخص يواجه هذا الفيروس الذي لا يعرف عنه إلّا القليل”. نادين أُم لطفلين: “في بادئ الأمر كنت حين أذهب إلى المنزل أخاف أن أنام إلى جانب أطفالي، لأننا كُنا لا نعرف الكثير عن طريقة انتقال العدوى”.

قلق نادين تلاشى حين أدركت أنه بامكانها تفادي الإصابة مع إجراءات الوقاية التي تتبعها مع زملائها في الوحدة: “العمل مع فيروس كورونا يشبه التعامل مع أنواع أخرى من الفيروسات التي نواجهها عادة، مثل السل”. وتضيف، “أنا سعيدة بأن الناس أصبحوا يعرفون اليوم ما هي إمكانيات المستشفى الحكومي، كنّا دائماً مهمشين، اليوم نحن نثبت قدراتنا”.

تصف هبة جوهر، زميلة نادين، الانتقال إلى وحدة كورونا وكأنه أمر اعتيادي انما “المختلف أننا نرتدي ثياباً واقية إضافية طيلة الوقت”. جوهر عملت في قسم العناية الفائقة لمدة 14 عاماً “يتعيّن على العامل مع كورونا أن يواجه ضغوطات ومخاطر بشكل طبيعي، ومع ذلك تقول  “لو لم أنتقل مع زملائي إلى وحدة الكورونا لكنت شعرت بالندم، واجهنا مآسي كثيرة في عملنا، حرب تموز، والطائرة الأثيوبية، فلنا أن نواجه هذه المعركة أيضاً”.

ومع ذلك لا مجال لتفادي التغيرات العاطفية التي يتعرض لها العامل في وحدة الكورونا، إذ تقول، “أشعر بحزن حين تتدهور حالة مريض”. والحال أن إمكانية التعامل مع التغيرات النفسية محدودة جداً لدى الممرضات، فتقول: “نحن نلتزم بتباعد إجتماعي أشدّ من الآخرين لأننا دائماً على حذر من أن نحمل الفيروس من دون أن نعرف، لذا نحن غير قادرين على التمويه عن ذاتنا كغيرنا لتخطي الضغوطات النفسية”. أمام هذه الضغوطات لم تلجأ جوهر إلى ترك عائلتها والسكن وحدها، بل فضّلت البقاء مع والديها للاعتناء بهما.  ولتخطي الصعوبات النفسية التي تواجه الموظفين في المستشفى يتحدث العاملون فيها عن مهارات العمل الجماعي الذي يتمتع به فريق مستشفى الحريري، إضافة إلى الدعم المعنوي من الإدارة والتواصل المباشر فيما بينهم ووضعهم في صورة التخطيط لأي إجراء واحترام مطالبهم.

قلق في البداية… ثم انطلقنا

تتحدث الطبيبة أميّة مشرفية المسؤولة عن قسم الكورونا في الجامعة الأميركية عن البداية “يأتي القلق أولاً نتيجة المعرفة القليلة عن الفيروس، ثم قلق من نقل العدوى لعائلتنا، واحتمال انقطاع المعدات الوقائية من لبنان، خاصة أننا سمعنا عن بلدان أوروبية انقطعت فيها الكمامات والملابس الواقية مما عرّض الأطباء والممرضين للخطر”. وثمة أمر آخر كان يؤثر على معنويات العاملين في الصحة، ومنه “التغير في المعايير لناحية الإصابة بالفيروس، فكان يتم تحديث المعلومات حول الفيروس وطرق انتقاله كل فترة”. إضافة لما ذكر، “فإن التجارب السابقة مع الفيروسات تُشعر الناس بالخوف، مثل إيبولا التي توفي فيها مئات الأطباء، عدا عن الحمى الاسبانية التي تعتبر أشهر جائحة عالمية  قتلت 50 مليون بشري”.

هذا واجبنا …

لا يجد الممرض في الجامعة الأميريكة محمد مبارك أي دافع للتراجع عن قراره في العمل في وحدة كورونا رغم التداعيات على حياته الشخصية واضطراره لترك منزل العائلة والسكن وحده، بقوله: “نحن مثل الجنود في الجيش اللبناني، أولئك يحاربون العدوان دون تردد، ونحن اليوم أمام حرب صحية والجنود هم العاملون في الصحة”.

الممرض سامر بنّي في المستشفى نفسها خاض تجربة في التعامل مع الوباء في السعودية عام 2014 حين انتشر نوع من فيروس كورونا في بعض المناطق هناك. يؤكد أنّ “تجربة السعودبة كانت بسيطة مقارنة مع ما نمر به اليوم كوننا أمام جائحة عالمية”. يقول بنّي: “إن اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة كافٍ للشعور بالآمان”.

بالنسبة لبنّي وغيره من العاملين في الصحة، فإن العمل في وحدة كورونا يعد أكثر آماناً من الأقسام الأخرى: “هنا نتوقع ما يحمله المريض إلينا ونتوقى بينما يختلف الأمر بالنسبة للأقسام الأخرى حيث يستقبل المستشفى في الأيام العادية حالات مختلفة ومنها حاملي جرثومة السل مثلاً، هناك الخطر شديد بسبب عدم وجود إجراءات حماية مثل تلك الموجودة في أقسام الكورونا”.

عاملو النظافة صمام أمان للجميع

يقع على عاتق العاملين في النظافة  تعقيم كل ما يلمسه أيّ زائر لوحدة كورونا، إن كان لإجراء الفحوصات، أو للدخول إلى العزل إذا ما ثبتت إصابته بالفيروس. يعمل هؤلاء الجنود المجهولون، بجهد لساعات طويلة، تُلقى على عاتقهم مهام التنظيف وراء المرضى والزائرين، ولهم الفضل الكبير في حماية المستشفى من انتشار الفيروس فيها.

 يداوم يوسف توسكا، في وحدة كورونا في مستشفى الجامعة الأميركية، 12 ساعة في كل يوم عمل في المختبر، ويأخذ 48 ساعة راحة أسبوعياً. صحيح أنّ الدوام اليومي طويل، إنما يرى توسكا أنّ “هذا الدوام لمصلحة العمل، وأفضل من الإكثار من عدد العاملين لعدم تشتت برنامج العمل، فأنا أكون على علم بكل إجراءات التعقيم التي اتخذت لنتفادى المشاكل التي تطرأ عند تغيير الموظَفين”. يشرح بأن “المسؤولية عالية في العمل في المختبر، أقوم باتباع خطوات كل زائر (حيث لا يعرف من هو مصاب ومن لا) لتعقيم كل مكان يلمسه، من قبضات الأبواب، المقاعد، الغرفة التي يدخل إليها وكافة الأسطح التي يلمسها”.

لعمله تداعيات على حياته الشخصية، فهو لم يترك البيت إنما قرر أن ينام في غرفة منفصلة ويختصر قدر الإمكان الاحتكاك مع زوجته، مخافة أن ينقل إليها أي عدوى في حال انتقلت إليه.

الصحة النفسية أساسية في هذه المعركة

 كثّفت مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت برنامج الصحة النفسية حيث بات الموظف في قسم كورونا يستفيد من جلسات دعم نفسي بشكل دوري. ويُلحظ تباين في ضمانة الصحة النفسية للعاملين في المستشفيات، إذ أكد بعض هؤلاء أنّ الدعم النفسي في المستشفيات التي يعملون فيها تم عبر جلسات بداية استقبال المرضى وفتح الباب لاستقبال الشكاوى وسماع الملاحظات، في حين أن مستشفيات أخرى لم تلحظ أية جلسات دعم بل اقتصرت على رفع المعنوبات من قبل الإدارة وسماع شكواهم.

ولكن الإرهاق والتعب النفسي اللذين يُصيبا العاملين في الصحة ليس مستحدثاً، بل دائماً ما يرتبطا ارتباطاً مباشراً بوظيفتهم، بحسب شرح الطبيبة في علم النفس العيادي في مستشفى الجامعة الأميركية د. دينا عيْنا.

وتوضح د. عينا أن توقعات العلماء اليوم تشير إلى أن “اكتشاف تأثيرات الكورونا على الصحة النفسية على العاملين ستظهر بشكل كبير بعد انتهاء الأزمة. ولتفادي المواقف السلبية يتعيّن على المؤسسات الصحية إدراج الصحة النفسية صمن الخطة السنوية وإدخالها بالميزانية مثل أي احتياجات أخرى لضمانة استمرارية وجودة الخدمات الصحية”. وتُرجع هذه الحاجة إلى دراسات تؤكد أنّ العاملين في الصحة هم “أكثر قابلية للإصابة بالإرهاق النفسي وفقدان الأمل في الحياة”.

لذا، فإن “المخاطر الناتجة عن الضغوطات النفسية يمكن تفاديها عبر الدعم النفسي خصوصاً خلال الأزمات”، بحسب عيْنا، ويتمثل ذلك على مستويات عدّة أبرزها، “مرونة العمل، أي أن تكون المؤسسة تنظر في احتياجات الموظف وتشاركه في الخيارات حيث أمكن مثلاً لناحية توزيع أوقات الدوام وتفهم أي تأخير قد يطرأ والعمل سويا لإيجاد حلول وسطى”. ثانياً، “تدابير السلامة التي تتخذها المؤسسة، لأنه في غياب الشعور بالأمان، لن يكون باستطاعة الموظف أن يساعد المريض بنفس الزخم والجودة”. وثالثاً، “تأمين الاحتياجات الأساسية كوجبات الطعام وأماكن الراحة خلال الدوام. “ولا يقل عن كل ذلك أهمية وجود مكان للدعم النفسي، القدرة على الاستشارة، إمكانية تبادل الموظفين المعلومات والتواصل بين بعضهم البعض” وفقاً لتعبيرها.

العمل في مجال الصحة ليس كغيره من الوظائف بحسب د. عينا، “فهؤلاء معرّضون للخطر وطبيعة عملهم تتطلب منهم مسؤولية عالية عادة ما تكون مصحوبة بنفوذ ضعيف وهما أمران يزيدان من احتمال الإصابة بالاحتراق الوظيفي والإجهاد النفسي”. تضيف، “بحسب عدّة أبحاث، فإن معدلات الانتحار بين الأطباء، على سبيل المثال، هي أعلى من غيرها من الوظائف، فهم من الباب الأول أقل توجهاً لطلب المساعدة، ومن ثم احتمال موتهم عند الإقدام على الانتحار أعلى كونهم أكثر خبرة بالوسائل القاتلة وأكثر قدرة على تحصيل الأدوية. وعادة تكون الأسباب هي مجموعة تراكمات انما تؤكد عيْنا أن “لكل شخص لديه قدرة احتمال مختلفة”.

تضيف: “ومن أكثر العوامل التي ترهق العاملين في القطاع الصحي هي المتعلقة بالهرمية داخل المستشفيات، ففي كل قسم يوجد طبيب مشرف ويكون هو صاحب القرار الذي يلزم فيه الأطباء الآخرين، بغض النظر عن الرأي الطبي للآخرين الذين قد يتوقعون النتائج السلبية المترتبة على ذلك”. لذا يتعيّن على المؤسسات أن “ترسي ثقافة لا يكون فيها تمييز ضد الأشخاص الذين يعترفون بالمشاكل حتى لا يترك الشخص يصارع وحده ويستنزف طاقته حتى آخر رمق وتتفاقم أمور يمكن تفاديها”.

أمّا على الصعيد الفردي، فتلفت عيْنا إلى عدة نشاطات من شأنها مساعدة العامل في الصحة على مواجهة الضغوط النفسية، “فعليه أن يرحم ذاته وأن يجد وسيلة للتمويه ضمن المساحة الموجودة. من الممكن البحث بصمت على طرق المساعدة الذاتية إما في كتب أو على الإنترنت كخطوة أولى. وبعض الأمثلة تتضمن الاسترخاء، والتعامل مع الأفكار والمخاوف، والتواصل مع القيم الذاتية، وإيجاد معنى للحياة. ومن ثم التواصل وطلب المساعدة من مختص تلزمه المهنة بالسرية واحترام الخصوصية كالطبيب والمعالج النفسي”.

رواتب العاملين في الصحة في مجرفة الأزمة الاقتصادية

الضغط النفسي الذي يعانيه موظفو المشتسفيات ليس قضيتهم الوحيدة، انما تقترن كل هذه الهموم مع وضع اقتصادي صعب وإجحاف بحقوقهم المادية وتعرّضهم للصرف من العمل بحجة الأوضاع الاقتصادية. فيُحرم موظفو مستشفى رفيق الحريري من حقوقهم المالية، وقد مرّت ثلاث سنوات  منذ إقرار القانون رقم 46 المتعلق بسلسلة الرتب والرواتب، فأتت كورونا لتكون فرصة أمام هؤلاء لرفع الصوت مجدداً للمطالبة بتنفيذ السلسلة. ووصل الصوت إلى مسامع الحكومة التي أقدمت على خطوة منقوصة. إذ أعلن رئيس الحكومة حسّان دياب في 27 آذار خلال زيارته للمستشفى على أنّه وقّع  كتاباً من وزير الصحة بشأن الفروقات على الرواتب بشأن العاملين في المستشفى، وبالفعل تقاضى جزء من الموظفين زيادة على رواتبهم في أواخر آذار، وهي زيادة لم تشمل عدد ساعات العمل الإضافية التي شغلها الموظفون قبل تغيير ساعات العمل من 44 ساعة أسبوعية إلى 35، عدا عن أن خطوة الحكومة لم تلحظ المفعول الرجعي. المشكلة أن الخطوة هذه أجحفت حقوق آخرين من الموظفين إذ نفذت الحكومة  المرسوم التطبيقي الخاص بمستشفى الحريري رقم 3375 الصادر في 20 تموز 2018، والذي يختلف في تحديد الجداول مع ما ينص عليه قانون سلسلة الرتب والرواتب، فحرم جزءاً من الموظفين من أي زيادة، علماً أن 82 منهم كانوا قد تقدموا بطعن بالمرسوم في 25 كانون الثاني 2019 أمام مجلس شورى الدولة، بدون طلب وقف تنفيذ، وحتى الساعة لم يجر أي تحرك إيجابي لناحية أجور هؤلاء. ومؤخراً، عاد الموظفون إلى التحرّك للمطالبة بتعديل المرسوم التطبيقي ليشمل كافة الموظفين.

ومن خلال الحديث مع العاملين في المستشفيات الخاصة التي تستقبل مصابين بفيروس كورونا لم نلحظ أيّة حوافز ماديّة حتى الساعة للموظفين. هؤلاء الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة اللبنانية فقدوا نسبة كبيرة من قيمة رواتبهم بفعل انخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار. ويتزامن هذا الانخفاض مع توجه عدّة مستشفيات عموماً إلى قضم رواتب موظفيها، أو إعطاؤهم إجازات غير مدفوعة، بحجة الأوضاع الاقتصادية، ونتيجة انخفاض نسبة استقبال المستشفيات للمرضى، حيث اقتصر حالات الدخول على الحالات الطارئة والتي لا تحتمل العلاج خارج المستشفى، فأقدمت عدّة مستشفيات على صرف جزء من موظفيها، ووصل الحال إلى أن تلجأ مستشفى سيّدة لبنان إلى إقفال أبوابها نهائياً في 14 نيسان 2020 وإنهاء عقود موظفيها تعسفياً.

 الإجراءات التعسفية التي تتخذها المستشفيات بحق عامليها تتحدث عنها نقيبة الممرضين والممرضات د. ميرنا أبي عبدالله ضومط لـ “المفكرة القانونية” فتشير إلى أنّ عدد من المستشفيات أعطت فرصاً مرضية غير مدفوعة لعاملين أُصيبوا بفيروس كورونا خلال عملهم. لذا، تفيد ضومط بأنه تم “إرسال إخبارات إلى نقابة أصحاب المستشفيات بشأن المخالفات التي تقوم بها المستشفيات الخاصة بما بتعلق بالمستحقات المالية للممرضين والممرضات، ولمسنا تجاوباً لناحية أن الفرص المرضية ليست على حساب الممرض”.

وكان مجلس النواب قد أقر قانون فتح اعتماد إضافي بقيمة 450 مليار ليرة لبنانية لتسديد جزء من مستحقات المستشفيات، والتي اعتبرتها النقابة “ستساعد المستشفيات للخروج من أزمتها المالية التي أدّت إلى حرمان عدد كبير من الممرضات والممرضين من تحصيل رواتبهم”. وبحسب ما أفادت وزيرة العمل لميا يمين في 27 نيسان فإن “المس بالمعاشات مخالف للقانون وأن هذه المستشفيات قد حصلت على مستحقاتها من الدولة”.

ولناحية الأطباء يُثير نقيب الأطباء في بيروت البروفيسور شرف أبو شرف “الأزمة التي يُعانيها الأطباء المتعاقدين مع المستشفيات فهؤلاء جزءا كبيراً منهم يعيش على ما يتقاضونه مقابل ساعات العمل في المستشفيات أمّا اليوم بعد إقفال عدّة أقسام في المستشفيات وانخفاض انتاجها، فإن هؤلاء خسروا مداخيلهم”.  ويلفت إلى أن “النقابة خصصت تعويضات مالية للأطباء الشهداء الذين يتوفون جراء الإصابة بكونرونا”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم ، حقوق العمال والنقابات ، جائحة كورونا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني