إرهاب الطرقات في تونس: الموت على الإسفلت ليس قضاء وقدرا


2019-12-12    |   

إرهاب الطرقات في تونس: الموت على الإسفلت ليس قضاء وقدرا

أسبوع مضى منذ ذلك الأحد الذي لا يشبه غيره من نهايات الأسبوع الروتينية، حيث اهتزت تونس على الساعة الحادية عشرة صباحا تقريبا على خبر حادث راح ضحيته 29 شابا وشابة بحسب آخر الإحصائيات الرسمية إثر فقدان سائق حافلتهم السياحية السيطرة عليها وسقوطها من منحدر جبلي على مستوى منطقة “عين السنوسي” من معتمدية عمدون في محافظة باجة الواقعة بالشمال الغربي للجمهورية التونسية. هذه الرحلة الترفيهية التي يدأب الشباب التونسي على تنظيم مثيلاتها أسبوعيا، سرعان ما تحولت إلى فاجعة وطنية أعادت تسليط الضوء على الوضعية المتردية لشبكة الطرقات في تونس وتفاقم ما أطلق عليه رئيس الجمهورية التونسي قيس سعيد اسم “إرهاب الطرقات“.

من إجمالي 43 مسافرا كانوا على متن الحافلة، أودى هذا الحادث بحياة 29 شخصا فيما تسبب بإصابات متفاوتة الخطورة بالنسبة لـ 14 آخرين، تم نقلهم إلى المستشفى الجهوي في باجة ومستشفيات العاصمة لتلقي الإسعافات اللازمة. وتتمثل حيثيات هذه الفاجعة في سقوط حافلة سياحية تابعة لإحدى وكالات الأسفار الخاصة في مجرى واد بعد تجاوزها لحاجز حديدي على مستوى منطقة منعرج حاد، عندما كانت في طريقها إلى مدينة عين دراهم في الشمال الغربي لتونسي ضمن رحلة سياحية ترفيهية انطلقت من العاصمة.

رغم تتالي الحوادث، الدولة تصر على التنصل من مسؤوليتها

صور الجثث المتناثرة حول بقايا الحافلة، وهول عدد الضحايا إضافة إلى موجة الحزن والغضب التي اكتسحت مواقع التواصل الاجتماعي، دفعت المسؤولين إلى التحرك على عين المكان ومحاولة تفسير ما حدث للرأي العام. وإذ انتقل رئيس الجمهوريّة قيس سعيد الذي إلى مكان الحادثة رفقة رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد، فإنه اعتبر أنه يوجد عوامل متعددة لهذه الكارثة وسيتم إيجاد حل لمشكلة المنعطفات الخطيرة في أقرب الآجل. إلا أنه كان لوزير التجهيز نور الدين السالمي رأي آخر: فقد حمّل هذا الأخير سائق الحافلة ووكالة الأسفار المسؤولية باعتبار أن المعطيات الأولية تفيد بأن الإفراط في السرعة وحالة الحافلة المتقادمة هما المتسببتان في الفاجعة، وأكد على حدوث خلل على مستوى الفرامل، حيث لم تستجب لنظام الفرملة سوى عجلة واحدة من مجموع العجلات الأربع. كما أصدرت وزارة التجهيز بيانا جاء فيه أن الطريق في حالة جيّدة ومجهّزة بكافة تجهيزات السلامة والعلامات والإرشادات المرورية الضرورية لإعلام وتنبيه مستخدمي الطريق. تفسير يتناقض مع روايات أهالي المنطقة وشهود العيان على الحادثة الذين أكدوا أن هذا الطريق يعتبر كارثة على الركاب وخاصة السواق الذين لا يعرفون المنطقة جيدا، وأطلق أحد متساكني الجهة نداء إلى الحافلات السياحية بأن يتجنبوا المرور من هذا الطريق مطلقا عليه اسم خط الموت. فيما حمل متساكن آخر والي الجهة والمعتمد ووزارة التجهيز مسؤولية الحادثة نظرا لإهمال صيانة هذا الطريق، لا سيما أنه يعتبر بوابة المرور إلى عدة مناطق في الشمال الغربي للبلاد، ومسلك عبور السياح خاصة في الموسم الشتوي.

حالة الصدمة وتفاجؤ المسؤولين في مختلف مؤسسات الدولة مما حدث يومها في هذه المنطقة بدا غير منطقي خصوصا بالعودة إلى تاريخ هذا الطريق مع الحوادث المميتة. إذ لم تمض أيام قليلة حتى انقلبت شاحنة ثقيلة في نفس المنحدر تقريبا. كما شهد هذا المنحدر في 3 ديسمبر سنة 2017 حادثة انزلاق حافلة أسفرت عن إصابة 49 شخصاً بجروحٍ متفاوتة.

إرهاب الطرقات: نزيف الدم والمال

تحولت حوادث الطرقات إلى نزيف بشري ومادي حقيقي في تونس، حيث تم تسجيل 5134 حادثا سنة 2019 بحسب الإحصائيات التي نشرها المرصد التونسي لسلامة المرور، مخلفة 1041 قتيلا و7486 جريحا إلى حدود بداية شهر ديسمبر الجاري. ولم تكن فاجعة الحافلة السياحية الأولى من نوعها هذه السنة على صعيد ثقل الخسائر البشرية. فقد شهدت مدينة السبّالة من محافظة سيدي بوزيد وفاة 12 عاملة وعاملا في المجال الفلاحي وإصابة حوالي 20 آخرين في شهر أفريل الفارط، بسبب اصطدام عربة بالشاحنة التي كانت تقلهم.

الأرقام المهولة للأرواح التي أزهقت على طرقات تونس لم تقتصر على سنة 2019. فلم تكن سنة 2018 أقل فظاعة، حيث بلغ عدد الحوادث المرورية بحوالي 5884 حادث، وهو ما أسفر عن مقتل 1205 شخصا وإصابة 8876 آخرين. أرقام تكررت سنة 2017 وإن بحجم أكبر، مسجلة 6972 حادث مرور وبعدد وفيات بلغ 1364 شخصاً وجرح 10415 آخرين.

هذا النزيف لم يستثنِ منطقة دون غيرها، بل شمل كل جهات البلاد التونسية واحتلت العاصمة تونس الصدارة نظرا للكثافة السكانية وعدد العربات الموجودة بها بنسبة 19.75 % بينما احتلت محافظة نابل الصدارة في عدد الوفيات بـ 130 شخصاً لقوا حتفهم. كما الخسائر التي تتسبب بها حوادث المرور لم تقتصر على الأرواح البشرية، والتي بلغت خلال السنوات الخمس الأخيرة 6450 شخصا، فعلى الصعيد المادي، بلغت الخسائر خلال السنوات الخمس المنقضية 3000 مليون دينار بحسب المرصد الوطني للسلامة المرورية.

وزارة التجهيز: طرق مفتوحة للموت ولشبهات الفساد

رغم أن العديد من العوامل على غرار التهور والسرعة الزائدة وعدم احترام إشارات المرور تعتبر من ضمن الأسباب الرئيسية لحوادث المرور، إلا أن الحالة الرديئة للطرقات كانت وراء 23.46% من إجمالي مسببات حوادث الطرقات سنة 2019، بعدد إجمالي فاق 1040 حادثا. هذا الرقم هو نتيجة حتمية لما آلت إليه البنية التحتية في تونس، التي تعاني من التقادم والاهتراء في ظل غياب الصيانة ولا مبالاة وزارة التجهيز التي حملها تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2018 جزءا هاما من المسؤولية عن الوضع الراهن لشبكة الطرقات متهما إياها بشكل مباشر بالتقصير وكاشفا عن معطيات تندرج ضمن خانة شبهات الفساد.

فوفق التقرير المذكور، لم تحرص الوزارة المعنية على ضبط الطرقات المرقمة للدولة. فهي لا تملك إلى تاريخ صياغة التقرير (أي أواخر سنة 2017) سجلات خاصة بالملك العمومي للطرقات ولا يتوفر لديها إطار تنظيمي لترقيم الطرقات. كما لم تقم بإصدار قرار لترتيب الطرقات المحليّة ما نتج عنه عدم معرفة الجهة المكلفة قانونا بتعهدها وصيانة العديد منها، وهو ما أدى إلى تعطل تعبيد عدد كبير من الطرقات. أما بالنسبة إلى تلك التي تم تحديد مرجع النظر فيها، فما زالت تشكو من ضعف الرقابة، وهو ما أثر بحسب دائرة المحاسبات على أشغال الصيانة عن طريق الفروع التابعة للإدارة الجهوية للتجهيز، نتيجة عدم مسك وثائق المتابعة، وعدم تسجيل البيانات المتعلقة بالموارد والمعدات، إضافة إلى غياب دفاتر الأشغال وجذاذات تحديد المواد المستعملة. هذه النقائص فتحت المجال أمام التلاعب بالمواصفات الفنية للتغليف في عدة طرقات حيث تم الوقوف على 10 أمثلة لتدهور حالة الطريق مباشرة بعد القيام بأشغال الصيانة.

شبهات الفساد أو سوء التصرف لم تقتصر على الجانب التنظيمي للطرقات والخطوط المرورية، فقد أثار تقرير دائرة المحاسبات نقطة أخرى تتعلق بسوء التصرف عند الإعلان عن طلب العروض بالنسبة للمشاريع، حيث تم اعتماد شروط مجحفة في طلبات العروض المتعلقة بمجموع 14 صفقة على غرار شرط الخبرة الذي أدى إلى الحد من مشاركة العارضين وحرمان الإدارة من العروض الدنيا التي قدمتها عدد من شركات المقاولات، لتناهز الفوارق بين العروض الفائزة والعروض المقصاة بالنسبة لست حالات تم استعراضها، 488 مليون دينار. هذا وكشفت الهيئة الرقابية عن أن 4% من الاعتمادات المخصّصة للطرقات تصرف سنويا في نفقات لا علاقة لها بأشغال الصيانة.

أمّا بخصوص معدات وزارة التجهيز المخصصة للصيانة والتعبيد والأشغال فقد تبين أنّ 41% من أسطول الوزارة لا يمكن استغلاله وأنّ 48% من جملة الآلات الماسحة الموزعة بالجهات متوقفة بسبب عطب فيها. ونظرا لغياب عدد من المعدات اللازمة فإن الإدارات الجهوية تلتجئ للقيام بمخالفة بعض الترتيبات المتعارف عليها. فمثلا، تنص أدلة استعمال المعدات أنه يُحظر على الشاحنات الثقيلة الجولان في الطرقات مباشرة حفاظا عليها، إلا أنّ 58% من الإدارات الجهوية لا يتوفر لديها حاملات المعدات الثقيلة و12% من هذه الإدارات لديها حاملة غير صالحة للعمل أصلا، وهو ما نتج عنه تنقل المعدات الثقيلة مسافات بلغت أحيانا 90 كيلومترا دون توقف، أو اللجوء لاستئجار الناقلات من الشركات الخاصة، وهو ما كلف الدولة خسائر مالية كبيرة.

ومما يزيد خسائر وزارة التجهيز للمعدات هو شبهات الفساد التي تحوم حول تشغيل موظفين لا يملكون الأهلية العلمية أو المهنية المطلوبة. فقد رصد تقرير دائرة المحاسبات أنه تم تكليف 77 سائقا يفتقرون لرخص سياقة من الأصناف المطلوبة بقيادة معدات صيانة الطرقات. كما لا يملك 36% من جملة أعوان صيانة المعدات بالإدارة المركزية على الكفاءة المهنية لإنجاز مهامهم الموكلة.

وزارة النقل على خطى وزارة التجهيز

حالة الإهمال واللامبالاة إضافة إلى شبهات الفساد التي تحوم حول مختلف المصالح الحكومية، لم تقتصر على وزارة التجهيز، إذ تشارك وزارة النقل بدورها في تعميق مأساة قطاع النقل العمومي البري وخصوصا بالنسبة للحافلات. ففي سنة 2019 بلغت حوادث الطريق بالنسبة لهذا النوع من العربات، 123 حادثا تسبب في مقتل 58 شخصا وإصابة 301 آخرين، أما في سنة 2018، فقد تم تسجيل 118 حادثا، مما أدى إلى وفاة 27 شخصا وإصابة 282 آخرين.

أرقام مفزعة حول الحوادث التي تتعرض لها الحافلات التابعة لوزارة النقل. ولا تقتصر الأسباب على البنية التحتية المهترئة فحسب، بل تتحمل وزارة النقل مسؤولية كبيرة على مستوى صيانة أسطولها وملاءمته مع متطلبات السلامة المطلوبة. حقيقة أقرها وزير النقل الأسبق رضوان عيارة عندما اعترف بوجود شبهات فساد في الوزارة خلال جلسة مساءلة بمجلس نواب الشعب يوم 29 جوان 2018. وقد صرح هذا الأخير حينها أن التفقدية العامة لوزارة النقل قد تعهدت منذ أكتوبر 2017 بالتدقيق في عملية اقتناء حافلات مستعملة لفائدة الشركة الوطنية للنقل بين المدن.

واعتبر رضوان عيارة أنّ التوجه نحو اقتناء حافلات مستعملة هو نتيجة تردي وضعية الحافلات وتزايد الطلبات لفتح بعض الخطوط أو التمديد في عدد آخر مما زاد من الضغط على الشركة، حيث تراجع أسطول الحافلات المخصصة للنقل بين المدن من 160 حافلة بداية 2013 إلى 140 حافلة في موفى نفس السنة وإلى 106 حافلة في بداية 2017. وقد أدى تقادم أسطول الحافلات العمومية، إضافةً إلى شبهات الفساد التي تحوم حول صفقات اقتناء الحافلات المستعملة، في تعطل حركة النقل بسبب كثرة الأعطال والتسبب في العديد من الحوادث والأضرار المادية والبشرية.

الخسائر المادية لم تقتصر على الخسائر المباشرة الناجمة عن الحوادث أو ارتفاع كلفة الصيانة نظرا لتهالك أسطول النقل البري العمومي أو ارتفاع مستويات استهلاك الطاقة، بل يلعب الإهمال دورا كبيرا في هدر المال العمومي في وزارة النقل. فقد كشف تقرير آخر نشرته منظمة أنا يقظ تحت عنوان غياب التدقيق الطاقي يكبّد شركة نقل تونس خسارة بملايين الدنانير، بتاريخ 7 مارس 2017، إنّ الخسائر التي تكبدتها شركة نقل تونس بسبب غياب التدقيق الطاقي طيلة السنوات العشر الأخيرة بلغت مليوني دينار، حيث لم تشهد هذه المؤسسة العمومية منذ سنة 2007 أي عمل رقابي أو عمليات تشخيص للطاقة المستهلكة من قبل وسائل النقل العمومية التابعة لها.

وقد أشار هذا التقرير إلى أن غياب الرقابة على الاستهلاك الطاقي داخل مؤسسة نقل تونس قد أدى إلى تراكم الخسائر المادية وتوفير مناخ ملائم للفساد، حيث كشفت الأعمال الرقابية المندرجة في تقرير مراجع الحسابات عن شركة نقل تونس للسنوات الحسابية بين 2012 إلى 2015 أنه يوجد فوارق غير مبررة بين الكميات المدونة بدفاتر متابعة المخزون والكميات الملاحظة عند الجرد العيني لمخزون الوقود، فقد بلغت قيمة الفوارق 1.2 مليون دينار خلال تلك السنوات.

خطة الحكومة لوقف إرهاب الطرقات: كالعادة، مجلس ولجان

بالعودة إلى أسباب نزيف الإسفلت، وبالربط مع المعطيات المتاحة حول سوء التصرف في المال العام وشبهات الفساد التي تحوم حول وزارتي التجهيز والنقل يمكن الاستنتاج أن حوادث الطرقات في تونس ليست مجرد أخطاء بشرية أو قضاء وقدرا، بل هي أيضا نتيجة حتمية لتراكم سياسات الوزارات المعنية بقطاع النقل البري وتفشي الإهمال وهدر المال العمومي. فهذا الملف ظلّ خارج اهتمامات الحكومات المتعاقبة رغم تحذيرات الهيئات الرقابية العمومية، والوزارات لم يعنِها على ما يبدو أن تدرج على جدول أعمالها خطط عمل مشتركة للقضاء على ما أطلق عليه رئيس الجمهورية “إرهاب الطرقات”. وحتى رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد، لم يتحرك إلا بعدما فقد 29 شابا وشابة حياتهم، ليعلن عن انعقاد مجلس وزاري مضيق لاتخاذ مجموعة من القرارات التشريعية والتنفيذية العاجلة لإيجاد حلول ناجعة للحوادث المتكررة. خطوة مستنسخة عن قراره السابق بعد فاجعة وفاة الرضع في ربيع 2019 والتي سرعان ما انكشف زيفها عند نقل جرحى الحادث الأخير إلى المستشفيات القريبة من مكان الحادث ليكتشف الجميع أن مشاكل قطاع الصحة العمومية ما تزال تراوح مكانها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني