إدانة قضائية للطائفية العقارية

،
2021-07-24    |   

إدانة قضائية للطائفية العقارية

صدر بتاريخ 16 تموز 2021 قرار قضائي صحّ اعتباره أول إدانة قضائية للطائفية العقارية. هذا القرار صدر عن اللجنة المتخصّصة بالتدقيق بصحّة البيوعات الحاصلة في “المناطق المتضررة” والمنشأة بموجب القانون رقم 194/2020 الرامي إلى حماية “المناطق المتضرّرة” بنتيجة تفجير مرفأ بيروت. وتتكوّن هذه اللجنة من القضاة (سامر يونس رئيسًا ونتالي الهبر وندين مشموشي)، والخبيرين (فادي عيّاد وبطرس مناسا). 

للتّذكير، كان البرلمان أقرّ هذا القانون على عجل بعد رواج أخبار عن حصول بيوعات في هذه المناطق في ظروفٍ قد تسمح باستغلال حاجات الأشخاص المتضررين وإحداث تغيير ديموغرافي ذات طابع طائفي فيها. ودرءاً لهذه المخاطر، منع القانون التصرفات العقارية في “المناطق المتضررة” (والتي عرّفها بأنها تشمل المرفأ والصيفي والمدوّر والرميل) لمدّة سنتين ابتداء من تاريخ نشر القانون أي في 22/10/2020. كما أنشأ القانون في موازاة ذلك اللجنة المذكورة أعلاه للتأكّد من صحّة التصرّفات العقارية الواقعة في الفترة الممتدّة ما بين 5 آب 2020 وتاريخ نشر القانون، وتحديداً من خلوها من الغبن ومن عيوب الرضى وعدم تعرّضها للطّابع التراثي للمنطقة. 

وقد أصدرتْ اللجنة قرارها موضوع هذا التعليق بناء على استدعاء تقدّم به أحد مالكي الحيّ، طلب فيه من اللجنة السّماح له بالتصرف بعقاره رغم المنع القانوني، على أساس أن المبرر لهذا المنع هي حماية الهوية الطائفية للمناطق المتضررة من خلال منع التقرّغ عن العقارات لغير المسيحيين وأنه لا ينطبق تاليا في حال حصل البيع ل “مسيحيّ” بسبب وحدة الانتماء الديني والطائفي بين كل من البائع والمشتري، وهي حجة تنهل طبعا من خطاب العديد من القوى السياسية والتي عمدتْ إلى الرّبط بين تجميد البيوع في المنطقة والحفاظ على لونها الطائفي.

وفي حين كان للجنة أن تردّ الطلب المذكور على أساس أن المنع ورد في القانون بصورة مطلقة وأنه لا يجوز التمييز حيث لم يميّز القانون (وهي حجّة كافية)، فإنها أصرّت على إدانة هذا الخطاب وتقويضِه بصورة مبدئيّة حيث ورد حرفيا في إحدى حيثيّاتها أن القانون “ينبذ .. أي فرز أو تقسيم أو تجزئة أو تفريق بين اللبنانيين على أساس سياسي أو ديني أو طائفي أو مذهبي وهو ما يخالف أصلا طبيعة كلّ قانون وغاية كلّ تشريع يرمي إلى البناء لا إلى الهدم، الأمر الذي حرص الدستور اللبناني على تكريسه في مقدمته إذ تنص هذه الأخيرة في فقرتها “ج” على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل ولتكمل فقرتها “ط” بأن “أرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحقّ في الإقامة على أيّ جزء منها والتمتّع به في ظلّ سيادة القانون فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين”. وقد أدْلَت اللجنة بذلك بعدما ذكرت بأن الأسباب الموجبة المعلنة للقانون 194/2020 إنما شملت الحماية من الغبن والاستغلال كما ومن أيّ عيب قد يشوب الإرادة أو يعطّلها من جرّاء الانهيار النفسي والاقتصادي والوطني الذي أحدثه انفجار 4 آب 2020. 

هذا القرار يستدعي المُلاحظات الآتية:

تفسير القانون على أساس ما يجب أن يكون 

من البيّن أنّ اللجنة ردّت الاستدعاء بعدما أسهبَتْ في تفسير القانون. ولم تكتفِ في هذا الصّدد بالتّذكير بالأسباب المُوجبة المُعلنة للقانون 194/2020 وبأنها لا تولي أي اعتبار “للمحافظة على الهوية الطائفية للمنطقة” وحسب، بل تميّزت بتفسيره أيضا انطلاقاً ممّا يجب أنْ يكون عليه مضمون القانون أو الغاية منه أو بالأحْرى ممّا يجب أنْ لا يكون عليه. ولهذه الغاية، استخدمتْ اللجنة مفهوماً محورياً هو مفهوم “طبيعة كلّ قانون”، ومؤدّاه أنّه يتعيّن على اللجنة أن تُفسِّر مضمون القانون الذي تطبّقه والغاية منه على النّحو الذي يجعله موافقاً لما يفترض بأي قانون أن يكون أو يهدف إليه. وقد ذهبتْ اللجنة انطلاقا من ذلك إلى إبراز وجهيْن لما تفترضًه هذه الطبيعة: 

  • الأول، نبْذُ أيّ فرز أو تقسيم أو تجزئة أو تفرقة بين اللبنانيّين على أساس سياسيّ أو دينيّ أو طائفيّ، وهذا الوجه يتصل بالطابع العام للقانون وبِمبدأ المُساواة أمامه والذي لا يحتمل أي تمييز، 
  • والثاني، أن القانون يهدف إلى البناء وليس الهدم. وهذا الوجه يفترض أن الغاية من التشريع هي خدمة الصالح العام والخير العام بقدر ما يفترض أن أيا من أوجه التمييز الطائفي المعدّدة أعلاه يشكل هدما.    

وعليه، تكون اللجنة قد استخدمتْ صلاحيّتها في تطبيق هذا القانون من أجل عقلنتِه وتنزيهه من أيّ تمييز أو اعتبار فئوي على أساس أن الأصل أن يكون القانون طبيعيا. وهي تكون قوّضت ضمْناً أيّ ادعاء أو تفسير مخالف طالما أنّ الأخذ به يجعل القانون عبثيا وبمثابة غير الطبيعي. وتجدُر الإشارة هنا إلى أن أهمية قرار اللجنة في تحديد قواعد التفسير المعتمدة منها في هذه القضية لا يقتصر عليها أو على تفسير هذا القانون، إنّما يفتح الباب أمام سائر القضاة للاجتهاد في اتجاه عقلنة العديد من جوانب النظام القانوني وتنزيهها.    

فإذا انتهت اللجنة من عقلنة القانون على هذا الوجه، عادت من ثم لتعزّز موقفها بالتأكيد على توافقه مع المبادئ الدستورية وبخاصة المبدأين “ج” و”ط” الواردين في مقدمته والمذكورين أعلاه. 

إدانة للطائفية العقارية

البُعد الثاني بالغ الأهمية لهذا القرار هو أنه شكّل إدانة قضائية هي الأولى من نوعها لما أسمتْه “المفكرة القانونية” ب “الطائفية العقارية“. وتقضي هذه المُمارسة التي برزت بشكل خاص في منطقة الحدث بحصر حق السكن والتملك في بعض المناطق من دون السّماح لمواطنين من غير المُنتمين لهذه الطّوائف من التمتّع بهذه الحقوق الدستوريّة فيها. وفي حين يأتِي هذا القرار في اتجاهه متوافقاً مع رأيٍ قضائيّ صدر عن هيئة التشريع والاستشارات بتاريخ 10 شباط 2011 حول مبادرة تشريعية بمنع بيع العقارات بين أبناء الطوائف المختلفة، فإنه تميز عنه بحججه: فلم تكتفِ اللجنة بالاستناد إلى مبدأ المساواة بين المواطنين، إنما استندتْ أيضا إلى الفقرة “ط” من الدستور وبخاصة لجهة ما كرسته لجهة وحدة الأرض والشعب.   

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجزرة المرفأ ، قضاء ، بيئة ومدينة ، سلطات إدارية ، قرارات قضائية ، الحق في السكن ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني