إخفاقات مهنيّة في التعامل مع مسرح جريمة انفجار المرفأ


2021-08-26    |   

إخفاقات مهنيّة في التعامل مع مسرح جريمة انفجار المرفأ

وقع انفجار ضخم في مرفأ بيروت يوم 4 آب 2020 في الساعة السادسة وثماني دقائق عصراً أدّى إلى قتل وجرح آلاف الأشخاص وأحدث دماراً واسع النطاق في المنطقة المجاورة للمرفأ وفي أنحاء أخرى من العاصمة ومحيطها. كان عصف الانفجار قويّاً جدّاً ونتجَتْ عنه سحابة دخانية ضخمة على شكل سحابة الفطر تبعتها انبعاثات دخانية كيميائية.

سبق الانفجار الكبير بنحو سبع دقائق أصوات انفجارات صغيرة بعد اندلاع حريق في العنبر رقم 12 الذي يقع في غرب المرفأ ويبعد نحو 400 متر عن قاعدة بيروت البحرية التابعة للجيش اللبناني.

تشير الأرقام (حتى كتابة هذه السطور) إلى مقتل 217 شخصاً،[1] وجرح أكثر من 6 آلاف، كما تشريد 300 ألف آخرين. ولا تزال الظروف التي أدّت إلى الانفجار غير واضحة. إلّا أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون أعلن أنّ سبب الانفجار هو 2750 طنّاً من نترات الأمونيوم كانت “مخزّنة في عنبر في مرفأ بيروت منذ أكثر من ستّة أعوام من دون احتياطات ملائمة للسلامة”[2].

بعد مرور نحو ساعة على وقوع الانفجار، باشر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة فادي عقيقي التحقيق، وذلك بحسب بيان صدر عنه في 6 آب[3]. ولم تُعرف أسباب هذا التأخير البسيط (قد تكون أسباباً لوجستية)، علماً أنّ المعايير المهنيّة للمباحث الجنائية تستدعي الإسراع في بدء التحقيق واستثمار مسرح الجريمة في أسرع وقت ممكن بهدف تجنّب احتمال تضرّر العيّنات والأدلّة الجنائية أو زوالها أو التلاعب بها.

وفي اليوم التالي لوقوع الانفجار (5 آب)، سطّر النائب العام التمييزي غسان عويدات استنابة قضائية إلى الأجهزة الأمنية كافّة كلّفها فيها “القيام بالاستقصاءات والتحرّيات وبإجراء التحقيقات الفورية لمعرفة كافّة المعلومات والملابسات المتعلّقة بالانفجار”[4]. ويفترض، بحسب القانون، أن يحافظ هؤلاء في مسرح الجريمة على “الآثار والمعالم والدلائل القابلة للزوال وعلى كلّ ما يساعد على جلاء الحقيقة”[5].

ولكن على الأرض الواقع، سادت بعد وقوع الانفجار فوضى عارمة. كما شاب تعامل المحققين مع مسرح الجريمة والمنطقة المحيطة به منذ انطلاق التحقيق إخفاقات مهنية وقانونية من حيث تحديد مسرح الجريمة وحمايته والكشف الحسّي عليه إضافة إلى تأخير الإنقاذ وعدم التنبّه إلى خطر الغاز.

تتناول هذه المقالة تلك الفوضى والإخفاقات التي أدّت إلى تهديد سلامة المحققين أنفسهم والعسكريين والمواطنين والمسعفين وعمّال الإغاثة والفضوليين في المنطقة المحيطة بمكان وقوع الانفجار. كما أدّت إلى تعذّر جمع كامل المعطيات والعيّنات من الإطار الجغرافي الكامل لمسرح الجريمة والمنطقة المحيطة به بشكل محترف وبحسب ما تقتضيه القوانين اللبنانية والمعايير المهنية الدولية. وساهمت أيضاً في تأخير وتعثر في عمليات نقل وإنقاذ الجرحى والبحث عن المفقودين في مسرح الجريمة والمنطقة المحيطة به وعدم التنبّه لخطر الانبعاثات الغازية.

إخفاق في تحديد مسرح الجريمة

أعلن القاضي عقيقي في 6 آب أنّ القاضي عويدات أبلغه أنّه سيتولّى التحقيق بنفسه[6]. وبالتالي، تقع المسؤولية الأساسية لإدارة وحماية مسرح الجريمة والإشراف على التحقيق على القاضي عويدات. لكن قبل إبلاغه قرار القاضي عويدات، كان القاضي عقيقي المسؤول عن اتخاذ التدابير لحماية التحقيقات، وفق المادة 31 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنصّ على وجوب انتقال النائب العام المختص إلى مكان وقوع الجناية “فور إبلاغه عنها”، والإشراف تالياً على عملية تحديد مساحة مسرح الجريمة. وقد أعلن القاضي عقيقي لاحقاً أنّ “مسرح الجريمة سيبقى مقفلاً حتى انتهاء التحقيق”[7]. لكن يبدو أنّ المنطقة التي عدّها القاضي عقيقي مسرحاً للجريمة وأمر بالتالي بإقفالها لم يتمّ تحديدُها بشكلٍ يتناسب مع المعايير القانونية والمهنية. فمسرح الجريمة، بحسب الدليل العملي لتقنيات التحقيق الجزائي،[8] هو “كلّ مكان شهد مرحلة واحدة أو أكثر من مراحل ارتكاب الجرم، ويتضمّن أشياء، وأدوات، وعناصر أخرى استُخدِمتْ في مسرح الجريمة والآثار الناجمة عنها، على اختلافها، في الإطار الجغرافي الذي يحدّده القائم بالتحقيق”[9]. ويعرّف الجيش مسرح الجريمة بـ”المكان الذي ارتكبت أو اكتشفت فيه الجريمة، أو مجموعة الأماكن التي تشهد مراحل تنفيذ الجريمة أو حدوث أحد فصولها. يحتوي هذا المكان على الآثار الناتجة والمتأتّية عن ارتكاب الجريمة”[10].

وفي الواقع أدّى عصف الانفجار إلى تطاير بعض الأشياء التي كانت في العنبر رقم 12 وفي محيطه في دائرة قطرها يزيد عن 800 متر كما لاحظ الكاتب إثر معاينته المكان. وبالتالي كان يفترض “البدء بتوسيع نطاق مسرح الجريمة ثم تضييقه شيئاً فشيئاً للوصول إلى تحديده بالضبط”[11]. يعني ذلك أنّه كان يفترض تحديد نطاق مسرح الجريمة في بداية التحقيق في قطر يبعد نحو كيلومتر عن العنبر رقم 12 وهو ما لم يحصل بل إنّ المساحة التي حُدِّدت وأقفلت شكلياً منذ لحظة بدء القاضي عقيقي تحقيقاته لا تزيد عن 400 متر عن مكان الانفجار. ولم تشمل المنطقة المغلقة جسر شارل حلو مثلاً الذي يبعد عن مكان الانفجار (العنبر رقم 12) نحو 450 متراً بل اقتصرت البقعة الجغرافية التي قام الجيش بإغلاقها مساء يوم 4 آب على حدود المرفأ بينما تابعت آليات المحققين والجيش وقوى الأمن والإسعاف والإغاثة والإعلام السير على الجسر حتى اليوم التالي. كما تكاثر عدد الأشخاص على الجسر من دون التنبّه لخطر احتمال انهياره حتى اليوم التالي. ففي 5 آب وبعد مرور أكثر من 15 ساعة على وقوع الانفجار، صدر بيان عن قوى الأمن الداخلي يعلن “إقفال جسر شارل حلو، ومنع المرور عليه، وذلك بهدف إجراء كشف فني من قِبل مهندسين مختصّين، للتأكّد من متانة بنيانه وعدم تضرّره جرّاء الانفجار”[12]. وصدر بيان ثانٍ لاحقاً في اليوم نفسه عن قوى الأمن يذكر أنّه “بعد الكشف من قبل المهندسين المختصّين على جسر شارل حلو، تبيّن أنّه لا يوجد أي تصدّع أو ضرر يشكّل خطراً على السلامة العامة” وأعيد فتحه للعموم[13]. يعني ذلك أنّه خلال الساعات الـ 15 التي تلت وقوع الانفجار، لم يكبّد القضاء المشرف على التحقيق نفسه عناء ضمان سلامة المحقّقين الخاضعين لتوجيهاته والمسعفين والعسكريين وعمّال الإغاثة والإعلاميين والمواطنين العاديين. ويشكّل ذلك تجاوزاً واضحاً للمعايير المهنية كان من شأنه أن يؤدّي إلى كارثة تضاف إلى كارثة انفجار المرفأ.

يضاف إلى ذلك أنّ المعايير المهنية والقانونية تقتضي قيام المحقّق بـ”معاينة المنطقة المحيطة” بنطاق مسرح الجريمة “أو المتاخمة له، والطرق المؤدّية إليه”[14]. لكن لا يوجد أيّ دليل يُشير إلى قيام القاضي المشرف على التحقيق، بعد انطلاق التحقيق مباشرة (بعد الساعة السابعة مساء يوم 4 آب)، بمعاينة ومسح المنطقة المتاخمة للمرفأ. وبالتالي فإنّ احتمال عدم قيام المحققين بجمع كامل معطيات والعيّنات من الإطار الجغرافي الكامل لمسرح الجريمة والمنطقة المحيطة به بشكل محترف، وبحسب ما تقتضيه القوانين اللبنانية والمعايير الدولية، قائم.

إخفاق في حماية مسرح الجريمة

يُفترض بموجب المعايير المهنيّة للتحقيق وضع “حواجز وإشارات وعلامات بصرية واضحة”[15] تُحدّد مسرح الجريمة وإحاطته “بالشريط الأصفر (الشريط العازل) المخصّص لهذه الغاية لتحديد المكان الذي يجب حمايته ومنع الدخول إليه”[16]. لكن لم تُشاهَد أيّة “علامات بصريّة واضحة” في المكان وبقي جزءٌ من المنطقة الملاصقة للمرفأ التي تقع فيها بعض المستودعات، غير مغلق وكان يمكن لأيّ كان الدخول إليه طوال اليوم الذي أعقب وقوع الانفجار. أما خلال الليل فلاحظ الكاتب خلال زيارته المكان يوم 5 آب ليلاً عدم استقدام السلطات اللبنانية مصابيح إنارة ومولّدات كهربائية لحراسة كامل مساحة مسرح الجريمة ومحيطها. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ غياب الإنارة ليلاً يدلّ على توقّف عمليات البحث عن المفقودين بعد غروب الشمس.

أما بالنسبة لمداخل ومخارج مسرح الجريمة الذي حدّده القاضي عقيقي، فلا دليل على “ضبط سجلّ بالداخلين إليه مع ذكر صفتهم وسبب دخولهم مع توقيت الدخول والخروج”[17]. ولم “يُحظر على أيّ كان، مهما كانت صفته، الدخول إلى مسرح الجريمة، باستثناء السلطات القضائية المختصّة، والضابط العدلي المعني والأشخاص الذين يحدّدونهم بموجب القوانين المرعية” كما تقتضي المعايير المهنية[18]. ولم يكدْ يمرّ يوم واحد على وقوع الانفجار حتى انتقل رئيس الجمهورية ميشال عون وقائد الجيش جوزف عون برفقة عدد كبير من الأشخاص فاق عددهم مئة مرافق ورجل أمن وعسكريّ، وعشرات الآليات الرسمية والعسكرية إلى المنطقة التي كان القاضي عقيقي قد أعلنها مقفلةً بسبب إجراء التحقيقات العلمية فيها وجمع الأدلّة الجنائية. وكان يفترض أن يتمّ تدوين أسماء جميع هؤلاء المرافقين والعسكريين في السجلّ. وكان يفترض قبل ذلك أن تتقدّم رئاسة الجمهورية بطلب رسمي من القاضي المشرف على التحقيق لزيارة مسرح الجريمة وانتظار جوابه وتوجيهاته بشأن تنظيم الزيارة، بحيث يقع على القاضي المشرف على التحقيق تنظيم ضوابط الزيارات في داخل المنطقة التي تخضع لسلطته ومسؤوليته القانونية. في المقابل، ليس لرئيس الجمهورية أيّ سلطة على التحقيقات القضائية بحسب القوانين اللبنانية بل إنّ وظيفتَهُ الأساسيّة، أي “السهر على احترام الدستور”[19]، تستدعي منه الحرص على أن يكون “القضاة مستقلّون في إجراء وظيفتهم” كما تنصّ حرفياً المادة 20 من الدستور؛ فلا تتمّ أي زيارة لمسرح جريمة أعلنه القاضي مغلقاً من دون موافقته. ومن البيّن أنّ “أي تلكّؤ أو إهمال في القيام بالإجراءات المطلوبة قد يؤدّي إلى فقدان السيطرة على مسرح الجريمة والعبث به والإضرار بالآثار التي قد تكون غاية في الأهمية في تحديد هوية الجاني ومتابعة التحقيقات”[20].

فوضى الكشف الحسّي على مسرح الجريمة

في 10 آب، في إثر إحالة الحكومة اللبنانية جريمة تفجير مرفأ بيروت إلى “المجلس العدلي”، أعلن النائب العام التمييزي القاضي عويدات أنّه ومفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالانتداب القاضي عقيقي اعتمدا في مقاربتهما للقضية “نمطاً ومنهجاً علمياً في التحقيق” تضمّن “دراسة ساحة الجريمة والتحاليل المرتبطة بها”[21]. وعليه، وفي حال صحّ ذلك، فإنّه كان يفترض وفق المعايير المهنية أن يكون قد أجري كشف حسّي دقيق في المنطقة الملاصقة للعنبر رقم 12 داخل حدود المرفأ وذلك للتأكّد من خلوّها من أيّ مواد قابلة للاشتعال أو الانفجار وأي مواد خطرة وذلك من أجل الحفاظ على سلامة المحققين وطواقم الإسعاف والإغاثة وبهدف حماية مسرح الجريمة من أيّ ضرر أو تلوّث.

لم يمرّ شهر على إعلان القاضي عويدات عن “النمط العلمي” حتى اندلع الحريق الأوّل في محيط مكان الانفجار داخل المرفأ يوم 8 أيلول تبعه حريقٌ ثانٍ أكثر ضرراً في منطقة السوق الحرّة في المرفأ يوم 10 أيلول. دلّ الحريقان، إضافة إلى ما أثاراه من هلع بين المواطنين والمواطنات وخوف من احتمال وقوع انفجار مدمّر ثانٍ في المرفأ، على نقص في تحمّل القضاء المشرف على التحقيق والقوى الأمنية والعسكرية أبسط المسؤوليات. فمسرح الجريمة يخضع لسلطتهم وكان يفترض أن يأمر القاضي المحققّين الاختصاصيين إجراء كشفٍ حسّي دقيق للمكان والمنطقة المحيطة به. كما تقتضي المعايير المهنية وضع تقارير مفصّلة بهذا الشأن تحذّر من المخاطر بما في ذلك خطر اندلاع حرائق. وكان يفترض أن يتّخذ القاضي المشرف على التحقيق الاحتياطات اللازمة لمنع نشوب الحرائق في مسرح الجريمة وذلك من خلال الإشراف الدقيق على كلّ أعمال التلحيم ونقل المخلفات والأشغال في المرفأ. وكان على القاضي فادي صوان الذي عيّن في 13 آب محققاً عدلياً في جريمة انفجار المرفأ، أن يراجع التقارير التي يفترض أن يكون المحقّقون والاختصاصيون قد وضعوها بعد إجرائهم كشفاً حسّياً على مسرح الجريمة، وأن يتّخذ الإجراءات اللازمة لمنع نشوب حرائق. لكن من البيّن أنّ كلّ ما كان يتوجّب أن يحصل لم يحصل.

ويُلحظ أنّ نقيب المحامين في بيروت المحامي ملحم خلف علّق يومها على نشوب حريقين في المرفأ قائلاً إنّه “مؤشّر مقلق”، واصفا ماً جرى بأنه “غير مقبول وغير مطمئن”. أضاف خلف أنّ “الحفاظ على مسرح الجريمة كان أوّل ما طلبناه”[22].

وصحيح أنّ محقّقين أجانب، بينهم نحو 50 من الشرطة الجنائية والدرك الفرنسيين و”مكتب التحقيقات الفيدرالي” الأميركي، قد شاركوا في التحقيقات المحلّية الجارية بطلب من السلطات اللبنانية، لكن مشاركتهم “لا تعالج العيوب الجوهرية في المقاربة الراهنة. ويبقى غير واضح دور هؤلاء الخبراء الأجانب وقدرتهم على التحدّث علناً عن النتائج التي توصّلوا إليها أو انتقاد محاولات تقويض عملهم”[23].

تأخير الإنقاذ وعدم التنبّه لخطر الغاز

أعلن القاضي عقيقي يوم 6 آب أنّ التحقيق “شمل كافّة الملابسات التي أدّت إلى حصول هذا الانفجار الهائل، وما نجم عنه من سقوط شهداء وجرحى أبرياء من العسكريين والمدنيين، ووقوع أضرار جسيمة جداً”[24].

لا تقتصر مسؤولية السلطة القضائية المشرفة على أيّ تحقيق جنائي على تحديد الجناة بل تشمل كذلك تحديد ضحايا الجرم والتعرّف إليهم والاستماع إلى إفاداتهم. وبالتالي كان على السلطة القضائية أن تسهّل قدر الإمكان عملية إسعاف الجرحى والبحث عن المفقودين ونقل جثث الضحايا وتحديد هويّاتهم. لكن بدا من خلال مراقبة مكان وقوع الانفجار ومحيطه خلال يومي 4 و5 آب أنّ السلطات اللبنانية لم تكن مسيطرة على المكان. ففي الساعات الأولى التي أعقبَتْ الانفجار، عجزتْ القوى العسكرية والأمنية عن تسهيل نقل الجرحى من خلال فتح الطرقات بشكل سريع. ولم تزوّد المستشفيات بشكل طارئ ببعض المستلزمات الطبيّة التي تحتاج إليها نظراً لعدد الجرحى الذي فاق قدرتها على علاجهم بالسرعة المطلوبة. ففي بعض المستشفيات، نفد مخزون البنج وأجريت بعض العمليات الجراحيّة من دونه.

وبدا أنّ أحد أسباب عجز السلطات اللبنانية عن تسهيل إسعاف الجرحى وتأخّر تحديد مكان المفقودين ونقل جثث الضحايا هو فقدان السيطرة من قبل القوى العسكرية والأمنية التي تخضع لسلطة القضاء المختص في مكان وقوع الجرم ومحيطه كما ذكرنا آنفاً، بالإضافة إلى غياب جهوزية أجهزة الدولة للاستجابة إلى كوارث بهذا الحجم. فلم يُعمل منذ الساعات الأولى التي تلت انفجار 4 آب على إنشاء غرفة عمليات وتحكّم قرب مسرح الجريمة بحسب ما تتطلّبه المعايير المهنية للسيطرة على مسرح الجريمة ومحيطه. ولم يتمّ إنارة مسرح الجريمة ومحيطه كما ذكرنا آنفاً. وقد وقعت عمليات سرقة عديدة في المكان كما أكدت لاحقاً المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي[25]. ففي بيان صدر عنها بعد أربعة أيام من وقوع الانفجار أي في 8 آب، أعلنت قوى الأمن توقيف 24 شخصاً “للاشتباه بهم بالقيام بعمليات سرقة في الأماكن المتضرّرة”[26]. وقد حصل عدد من هذه السرقات في المنطقة المتاخمة للمرفأ[27] والتي يفترض أن تكون جزء من مسرح الجريمة. يدلّ ذلك إلى أنّ إجراءات حماية هذه الأماكن وحراستها التي يفترض أن تكون جزءاً من مسرح الجريمة ومحيطه لم تكن متوفّرة بشكل كافٍ.

وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى عدم اتخاذ السلطات اللبنانية الاحتياطات اللازمة للحماية والوقاية من الانبعاثات الدخانية والغازية السامّة التي كانت تتصاعد من مكان الانفجار. فقد أشارت مجلة “ساينتيفيك أميركان” نقلاً عن خبراء إلى أنّه “بعد وقوع الانفجار، انبعثتْ من الحريق كميّات كبيرة من الغازات الملوّثة، وبشكل رئيسي غازات أكسيد النيتروجين”[28]. وكان يمكن أن تكون هناك غازات أخرى أكثر ضرراً على المُحقّقين والمُسعفين وعمّال الإغاثة في المكان لكن لم تتنبّه السلطات القضائية المشرفة على التحقيق إلى ذلك وهو ما يدلّ إلى عجز في تحمّل مسؤولية الأمن والسلامة في مسرح الجريمة ومحيطه.

  1. قصص ضحايا 4 آب في كتاب ورسائل شوق من أهاليهم على جدار المرفأ، نبيلة غصين، المفكرة القانونية، 9 حزيران 2021.
  2. Massive blast rips through Beirut, killing 78 and injuring thousands, Samia Nakhoul, Ellen Francis, Reuters, August 4, 2020.
  3. القاضي عقيقي للوطنية: 16 موقوفاً على ذمة التحقيق بانفجار المرفأ، الوكالة الوطنية للإعلام، 6 آب 2020.

  4. عويدات كلّف الأجهزة الأمنية إجراء التحقيقات الفورية حول انفجار المرفأ، الوكالة الوطنية للإعلام، 5 آب 2020.
  5. المادة 41 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
  6. “كشف مفوّض الحكومة بالإنابة القاضي فادي عقيقي في تصريح للوكالة الوطنية للإعلام في 6 آب 2020، أنّ “التحقيقات مستمرة لتشمل كل المشتبه بهم الآخرين، توصلا لجلاء كل الحقائق المتعلقة بهذه الكارثة، وستتابع من قبل النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات بناء للطلب، استكمالاً للإجراءات المتخذة من قبله”.
  7. المرجع السابق.
  8. الدليل العملي لتقنيات التحقيق الجزائي، النائب العام لدى محكمة التمييز (السابق) القاضي سعيد ميرزا والمدير العام لقوى الأمن الداخلي (السابق) اللواء أشرف ريفي، تشرين الثاني 2011.
  9. المرجع السابق، الصفحة 28.
  10. إجراءات الحفاظ على مسرح الجريمة، مجلة الجيش، العدد 308، شباط 2011
  11. “دليل أول الواصلين إلى مسرح الجريمة” الذي أعدّته المباحث العلمية عام 2009، وقد ضمّ الى الدليل العملي لتقنيات التحقيق الجزائي (مرجع مذكور أعلاه)، صفحة 34.
  12. منع المرور على جسر شارل حلو بسبب أعمال الكشف للتأكّد من سلامة بنيانه، الموقع الرسمي لقوى الأمن الداخلي، 5 آب 2020.
  13. الموقع الرسمي لقوى الأمن الداخلي، 5 آب 2020.
  14. “دليل أول الواصلين الى مسرح الجريمة”، مرجع مذكور أعلاه صفحة 34.
  15. الدليل العملي لتقنيات التحقيق الجزائي، صفحة 28.
  16. المادة 2 – 2 – ب من التعليمات رقم 374 تاريخ 12-12-2001 (المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي)
  17. “دليل أول الواصلين إلى مسرح الجريمة” المرجع السابق.
  18. الدليل العملي لتقنيات التحقيق الجزائي، صفحة 29.
  19. المادة 49 من الدستور اللبناني.
  20. “دليل أول الواصلين إلى مسرح الجريمة”.
  21. عويدات عرض نمط ومنهج التحقيق في انفجار المرفأ، الوكالة الوطنية للإعلام، 10 آب 2020.
  22. “خشية على مسرح الجريمة”، خلف: ما حصل غير مقبول وغير مطمئن!، موقع “لبنان 24″، 15 أيلول 2020.
  23. لبنان: تقصير في التحقيق المحلّي في انفجار المرفأ، هيومن رايتس ووتش، 22 تشرين الأوّل 2020.
  24. القاضي عقيقي للوطنية: 16 موقوفا على ذمة التحقيق بانفجار المرفأ، الوكالة الوطنية للإعلام، 6 آب 2020.
  25. قوى الأمن الداخلي توقف 24 شخصاً منذ تاريخ انفجار المرفأ، 12 منهم يوم أمس، للاشتباه بقيامهم بأعمال سرقة في المناطق المتضرّرة، الموقع الرسمي لقوى الأمن الداخلي، 8 آب 2020.
  26. المرجع نفسه.
  27. عمليات السرقة تزيد من مصائب اللبنانيين بعد انفجار مرفأ بيروت، ريتا جمال، العربي الجديد عدد 12 آب 2020.
  28. انفجار بيروت: رحلة الغازات السامة وآثارها الضارة على البيئة، مصطفى رعد، ساينتيفك اميريكان، 11 آب 2020.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أجهزة أمنية ، قرارات قضائية ، لبنان ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني