أوهام للعسكر في دولةٍ تجحد وظائفها


2021-03-11    |   

أوهام للعسكر في دولةٍ تجحد وظائفها

قدّم النائب علي حسن خليل اقتراح قانون معجل مكرر يرمي إلى إعطاء العاملين في مختلف الأجهزة الأمنية دفعة على غلاء المعيشة تساوي مليون ليرة لبنانية شهرياً لمدة ستة أشهر فقط. وقد منحت هذه الدفعة إلى العاملين في الجيش والأمن الداخلي وأمن الدولة والأمن العام والضابطة الجمركية العسكرية، فضلا عن العاملين في شرطة مجلس النواب التي يبقى تكوينها وعديدها بمثابة لغز. وقد تمّ الإعلان عن هذا الاقتراح بعد أقلّ من 24 ساعة من تصريحات قائد الجيش جوزف عون الأخيرة عن أوضاع العسكريين الصعبة نتيجة فقدان رواتبهم قدرتها الشرائية. كما تجدر الإشارة إلى تزامن هذا الإعلان مع تزايد الاستعدادات لرفع الدعم تبعا لتراجع احتياطات المصرف المركزي من العملات الصعبة. وينتظر أن يتم وضع هذا الاقتراح على جدول أعمال الهيئة العامة لمجلس النواب المزمع انعقادها غدا، وهي الجلسة التي دُعي إليها لغاية رئيسية قوامها إقرار اتفاقية قرض مع البنك الدولي لمساعدة العائلات الأكثر حاجة.

هذا الاقتراح يستدعي الملاحظات الآتية:

  

1- اعتراف أول بأزمة انهيار الرواتب في الوظيفة العامة:

قد يكون هذا الاقتراح أوّل اعتراف من قبل قوة سياسية وازنة بالأزمة الناتجة عن تدني القيمة الشرائية لرواتب الموظفين العامّين وضرورة العمل لتصحيح هذه الرواتب، وإن تمّ حصر هذا الاعتراف بفئة واحدة منهم. وندرك أهمية هذا الاعتراف، عند مقارنته بما ذهبت إليه مسودة مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2021 الذي قدّمه وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني والذي ينتمي للفريق السياسي نفسه. وكانت هذه المسودة التي سبق لنا التعليق عليها، اتجهت على العكس من ذلك تماما في اتجاه ضرب الوظيفة العامة وتهشيل موظفيها عبر الاقتطاع من العديد من التقديمات الاجتماعية التي كان يحصل عليها هؤلاء إضافة لعدد من الإجراءات الأخرى. وقد ذكّرنا في تعليقنا المذكور أن الموظفين الأكثر تضررا من هذه الأزمة والذين يخشى تركهم لوظائفهم هم الموظفون الذين يعولون على رواتبهم ويرفضون تلقّي أي رشى، وهم حكما الموظفون الأكثر نزاهة.     

هذا التناقض الحاصل بين هذا المقترح ومسودة الموازنة العامة واللذين يصدران عن القوة السياسية نفسها، إنما يؤكد على التخبط والعشوائية التي تعيشها السلطة السياسية ككل في محاولاتها البائسة للتخفيف من تداعيات الانهيار من دون أي سعي لمعالجة مسبباته أو استشراف سبل الخروج منه. 

 

2- اعتراف بمعاناة العسكر على حساب سائر الموظفين العامين:

ثاني الملاحظات الهامة هو أن هذا الاعتراف أتى مجتزأً حيث حُصر بالأجهزة العسكرية والأمنية كما سبق بيانه. وقد برر النائب خليل هذا الاجتزاء ب “أهمية الدور الاستثنائي الذي تقوم به” هذه الأجهزة حسبما أورد في تغريدته. ويؤشر هذا الاجتزاء وبخاصة عند النظر إلى تبريره ب “الدور الاستثنائي” أن واضع الاقتراح قد غلّب ضمنا الوظيفة الأمنية والعسكرية على سائر الوظائف العامة، بحيث اعتبر أن ثمة واجبا بمعالجة تدني القيمة الشرائية لهؤلاء دون سواهم. فكأنما يُراد إعلاء شأن هذه الوظيفة وإعلان تمايزها من دون أي اكتراث إزاء معاناة العاملين في مجمل الوظائف الحيوية الأخرى وفي مقدمتهم العاملين في القطاعات الصحية (وهي القطاعات التي تنخرط بشكل خاص في الحرب ضد الوباء) والتعليمية والقضاء … إلخ. وما يزيد من قابلية هذه المفاضلة للانتقاد هو أنها تؤدي ليس فقط إلى تغيلب هذه الفئة على سائر الموظفين العامين، بل إلى تنفيع هذه الفئة على حساب سائر هؤلاء بل على حساب مجمل الذين يتقاضون رواتبهم أو مداخيلهم بالعملة اللبنانية. وهذا ما يتحصل من التمويل المرتقب لهذه الزيادة من خلال زيادة الكتلة النقدية بالعملة الوطنية مما سيسبب لها مزيدا من الانهيار. 

وقد تلقى هذه المفاضلة غير المبررة تفسيرها الوحيد في تعويل القوى السياسية الحاكمة على الأجهزة الأمنية للمحافظة على استقرار حكمها، وبخاصة في هذه الفترة حيث تقلّ إمكاناتها وتتزايد حاجات الناس واحتجاجاتهم وقد لا تجد تاليا إلا العنف كوسيلة للتعامل مع هذه الاحتجاجات. ومن هذه الزاوية، أمكن القول أن هذا الاقتراح يشكّل في حال إقراره دليلا آخر على تغليب السلطة الحاكمة لأدواتها على وظائفها. 

وأبعد من دلالات هذا الاقتراح على صعيد أولويات القوى السياسية، فإنه يرتقب أن يؤدي في حال إقراره إلى مزيد من الشعور بالغبن لدى سائر الموظفين العامين، مع ما قد يستتبعه من غضب أو إحباط. ففي حين امتنعوا عن القيام باحتجاجات واسعة حتى الآن استشعارا منهم لتعثّر مالية الدولة منذ حصول الانهيار، فإن من شأن هذه الإضافة أن تدفع العديد من القطاعات المعنية وبخاصة القطاعات الأكثر انخراطا في مكافحة الوباء للتعبير عن رفضهم لهذا الواقع.    

وهذا بالفعل ما سارعت إليه رابطة موظفي الإدارة العامة من خلال الإعلان عن الإضراب يوم الغد تزامنًا مع انعقاد جلسة مجلس النواب، مطالبةً بمنح جميع الموظفين العامين دفعة غلاء معيشة لا تقلّ عن المبلغ المقترح منحه للأجهزة العسكرية، وذلك ريثما يتم تصحيح الأجور بشكل شامل. كما هدّدت بإمكانية إعلان الإضراب العام المفتوح ابتداءً من الإثنين، على ضوء نتائج الجلسة. كما صدرت توصية عن الهيئة الإدارية لرابطة أساتذة التعليم الثانوي بالإضراب المفتوح إذا ما أُقِرّ قانون بإعطاء دفعة غلاء المعيشة من دون أن يشمل أعضاءها.

 

3-  منحة غالبها وهمي 

من الجدير أن نلحظ ثالثا أن منح هذه الزيادة لا يتم وفق اقتراح القانون بمجرد إصداره، بل يستدعي فضلا عن ذلك إصدار مرسوم متّخذ في مجلس الوزراء بفتح الاعتمادات اللازمة لتطبيقه. وقد يؤدي هذا الأمر إلى تجريد القانون من أي مفعول خلال الفترة المنظورة بفعل شلل حكومة تصريف الأعمال والعجز البيّن عن تشكيل حكومة جديدة. كما قد يؤدي إلى تحويله إلى مادة في بازار تقاذف المسؤوليات حيال تردي أوضاع العاملين في الأجهزة العسكرية، تقاذف قد يمتدّ لأسابيع أو أشهر ولا ينتهي إلا بعد تحول هذه الزيادة إلى دفعة زهيدة من حيث قدرتها الشرائية. 

والطابع الوهمي لهذه الزيادة لا يتأتى فقط عن عدم نفاذها إلا بقرار حكومي، إنما أيضا عن استمرار تراجع القدرة الشرائية لليرة بفعل الانهيار الاقتصادي والمالي، وضمنا بفعل الأثر السلبي لزيادة الكتلة المالية بالعملة الوطنية الحاصلة بهدف تمويلها. كما سيزيد من طابعها الوهمي رفع الدّعم أو انحساره أو ترشيده والذي يرتقب حصوله من لحظة إلى أخرى. وعليه، من المرجح في حال نفاذ هذه الزيادة، أن تقلّ القدرة الشرائية لرواتبهم بالإضافة إلى هذه الزيادة بعد رفع الدعم عن القدرة الشرائية لرواتبهم الحالية الآن.  

بقي أن ننبّه أيضا إلى أن هذه الزيادة التي ستستمرّ وفق الاقتراح لستّة أشهر فقط لا تدخل ضمن أساس الراتب ولا تعتبر جزءا منه ولا تحتسب لاحقا ضمن تعويضات نهاية الخدمة للعسكريين التي تراجعت قيمتها أصلًا. أي أنّها دفعة مؤقتة غالبها وهمي دون إكساب المستفيدين منها أي حقوق. 

 

4- مخالفة لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات:

أخيرا، يلحظ أن الاقتراح الذي أرفقه النائب خليل بتغريدته جاء خاليا من أي أسباب موجبة، وذلك بمخالفة لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات الذي يفرض نشر الأسباب الموجبة للقانون عند نشره في الجريدة الرسمية (م. 6 من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات). من الخطأ أن نعدّ هذه المخالفة شكلية محض، حيث أن تبيان الأسباب الموجبة يشكّل ضمانة لشفافية التشريع ومانعا دون تحوّله إلى أداة اعتباطية وغير مبررة كما هو حال هذا الاقتراح.  

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، سياسات عامة ، أجهزة أمنية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، إقتراح قانون ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني