أهالي ضحايا 4 آب يروون قصصهم ويرسمون خريطة طريق للنوّاب لمساندتهم


2022-06-06    |   

أهالي ضحايا 4 آب يروون قصصهم ويرسمون خريطة طريق للنوّاب لمساندتهم
الأهالي وقد لوّنوا أياديهم باللون الأحمر

عند الساعة السادسة و7 دقائق من مساء 4 آب 2020 انقلبت حياة ميراي خوري رأساً على عقب، لتتحول من أسعد أم في الدنيا إلى “أتعس إنسانة على الكرة الأرضية”. كيف لا وميراي هي والدة الياس الذي قضى في تفجير مرفأ بيروت، فيما لا تزال شقيقته نور تخضع لعمليات جراحية لمعالجة جروح  إصابتها في التفجير نفسه، ربما ستحملها طوال حياتها. الياس خوري هو نفسه ذلك المراهق صاحب الابتسامة الجميلة التي ملأت صورته الساحات ووسائل التواصل الاجتماعي، الصورة التي تحتضنها ميراي وتضمّها إلى قلبها حيث لا تغيب عن أي تحرك لتطالب بالعدالة لصغيرها.  

“بلحظة وحدة وعيت ولقيت بيتي مهبّط على رؤوسنا، فكرت صار زلزال، فكرت إنها آخر الدني، ما كنت أعرف شو صار”، تقول ميراي في لقاء نظّمه أهالي الضحايا الجمعة في 3 حزيران 2022، في باحة كنيسة سيدة النجاة في المدور/ الكرنتينا ليعيدوا رواية قصصهم على مسامع النوّاب والنائبات الجدد. 

“خرجت من غرفتي لأجد ابني الياس ممدداً على الأرض، مغطّى بالدماء وعيناه مقفلتان. التفتّ تجاه نور فرأيتها مغطاة بالدماء أيضاً، نظرت إلى نفسي فلم أر سوى الدماء على جسدي”.

ميراي وولداها الياس ونور أصيبوا بجراح خطيرة استدعت دخولهم إلى المستشفى. أصيبت ميراي في ظهرها ونور في يدها بينما دخل الياس في كوما وبقي يصارع لمدة أسبوعين، تقول ميراي: “لكنه رحل في اليوم نفسه الذي غادرتُ فيه المستشفى . بعد  13 يوماً خرجت من المستشفى، كنت سعيدة سأحتضنه وأضمّه إلى قلبي،  لكنه تركني وترك هالدني”.

تدرك ميراي خوري الآثار البالغة التي ستعاني منها كل حياتها إثر رحيل الياس، كما وتدرك أنّها إذا أرادت أن تتحدث عن الياس  وتميّزه فالعمر كله لن يكفيها، كما تقول. لتسأل “عن مسؤولية من سكت عن تخزين مواد متفجرة لمدة 7 سنوات في المرفأ، عن المسؤولين الذين عرفوا بوجود تلك المواد، وحتى في آخر 20 دقيقة عندما اشتعلت النيران وتركوها تنفجر بنا وبالمدينة بأكملها”.

فيّي أكّدلكن إنّي أتعس إنسانة ع وج الكرة الأرضية

هيلين عطا جعارة، شقيقة الضحية عبدو عطا والجريح عصام الذي يُعتبر من أبرز الناجين حيث بقي تحت الركام لأكثر من 17 ساعة تسببت له بإعاقة دائمة في قدمه، تستعيد ذلك اليوم الأليم: “عبدو عطا الشاب الحلو المهذب الكريم والمثقف وشادي أبو شقرا الشاب الأبكم والأصم الذي قصد صديقه عبدو نهار الثلاثاء في 4 آب نفسه. شادي لا يسمع  ولكنه ربما يومها قد سمع أول وآخر صوت في حياته، صوت الانفجار”. وتضيف: “عبدو رحل إلى مكان آخر ويمكن بعده عم يستقبل أصحابه بالضحكة ذاتها ونكته التي كانت حاضرة دوماً، لكني سأخبركم عن أخي عصام الذي قرر أن يترك أميركا لأن طقسها مغمّ وعاد ليتدفا بشمس لبنان، بقي 17 ساعة تحت الردم يتنفس دم وتراب، اليوم عصام اضطر يرجع ع أميركا البلد المغمّ، كي يتعالج من العطب في رجله، لأن بلد الشمس الذي قتل شقيقه وكاد أن يقتله لم يقتل عزيمته وإصراره على معرفة الحقيقة فور عودته إلى لبنان”.

تجزم هيلين أنّ هذه الجريمة ما كانت لتحصل لولا الانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه المؤسسات العامة والقضاء في البلد. وتقول: “ما حصل هو مجزرة بكلّ ما للكلمة من معنى، مجزرة دموية جسدية ونفسية تعرض لها آلاف اللبنانيين. وبحسب الدراسات فإن شخصين من ثلاثة أشخاص  ما زالوا يعانون من مشاعر الغضب ونوبات الهلع والنسيان وعدم التركيز ويصابون بالرعب لدى سماعهم أي صوت”. وتسأل هيلين عمن ينصف هؤلاء الأشخاص المتروكين لكوابيسهم”. وتشير إلى ازدياد الحاجة إلى استشارات نفسية، عدا عن السكان الذين فقدوا منازلهم وفقدوا المأوى.

“تفجير مرفأ بيروت للعدالة والتاريخ”

انفجار بيروت قصص تروى ولا تنسى عن الضحايا والجرحى والمتضررين، وهو كذلك وثائق وتقارير ارتأى الأهالي أن يتوجّهوا بها إلى الرأي العام اللبناني والدولي في كتيّب تحت عنوان: “تفجير مرفأ بيروت للعدالة والتاريخ”. أرادوا من خلاله حفظ مسار تحركاتهم وتأريخها  وتوثيقها، بدءاً من لحظة الانفجار في 4 آب 2020 مروراً بعرقلة التحقيق والضغوط والتعطيل لمسار كشف الحقيقة ومحاكمة المسؤولين وتحقيق العدالة. 

ورغم أنّ الأهالي اعتادوا خلال وقفاتهم الشهرية وتحرّكاتهم المطلبية، رفض مشاركة أي من الطبقة السياسية والنواب في المجلس القديم، إلا أنّهم وبعد انتخاب مجلس النواب الجديد دخلوا مرحلة جديدة، فدعوا جميع الكتل النيابية، باستثناء النائبين المدعى عليهما علي حسن خليل وعلي زعيتر لعدم مثولهما أمام قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار، للمشاركة في إطلاق الكتيب وذلك في باحة كنيسة سيدة النجاة في المدور/ الكرنتينا. 

ولم تخصص مقاعد أمامية للنوّاب الحاضرين في اللقاء، وتوزّعوا بين الحضور، وبقي كرسيّان كتب عليهما اسما النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر وقد شُطبا وكتب إلى جانب الاسمين: “ملغاة”، في إشارة إلى الأوراق التي حملت عبارات “العدالة لضحايا تفجير مرفأ بيروت” واعتبرها رئيس مجلس النواب نبيه بري خلال انتخاب رئيس جديد للمجلس “ملغاة”. 

كرسيّان فارغان لعلي حسن خليل وغازي زعيتر

خطة طريق للنوّاب

“علينا وعليكم دين لشعبكم وهو إيصال العدالة للضحايا”، تقول المحامية سيسيل، شقيقة الضحية جوزيف روكز، وعلى مسمع النواب تعرض مسار التحقيق وتقول: “في 4 آب انفجرت المدينة، وحصدت أكثر من 232 ضحية، لملمنا أشلاء ضحايانا بين الجثث والمصابين، بين الدم والركام ولم نجد إلّا أجزاء صغيرة”. وتضيف: “هي جريمة ضد حقوق الإنسان، أخذت الضحايا من أماكن عملهم ومن بيوتهم الآمنة ودمرت المدينة بثوان. جريمة بهذه الضخامة أخافت السلطة التي حاولت بداية أن تحتوي غضب الشعب كلّه وحوّلت ملف التحقيق إلى المجلس العدلي”. وتضيف سيسيل: “اعتقدنا أن جريمة بهذه الضخامة لن يقف في وجه كشف حقيقتها أي شيء، إلّا أنّه تبيّن لنا أنّ ملف هذه القضية يتضمن جريمتين: الأولى هي الانفجار والضحايا والمتضررين والدمار، ولن نتحدث عنها اليوم، كونه في ظل عدم صدور القرار الظني يبقى التحقيق سرياً ولدى المحقق كل المعطيات، إنّما  سأتحدث عن الجريمة الثانية، وهي تعطيل سير العدالة من خلال العوائق والأساليب المبتكرة لعرقلة المسار القضائي”.

وتشرح روكز “في البداية عُيّن المحقق العدلي فادي صوان ولم يعجبهم “قبعوه” تحت حجة أن بيته متضرر في الأشرفية ولن يكون موضوعياً. ثم تمّ تعيين محقق عدلي آخر تابع من حيث انتهى سَلَفَه، ادعى على سياسيين فعرقلوا التحقيق وأوقفوا الملف، احتموا خلف طوائفهم في حين أن الضحايا هم من كل الطوائف والأحزاب والملل، جربوا نقل الملف من المجلس العدلي إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وهذا تسييس بحد ذاته. وعندما اعترض الأهالي واعتصموا في عين التينة (مقر الرئاسة الثانية) ضُربوا”. وتُكمل سيسيل “تقدّم المطلوبون السياسيون مداورة ومن دون توقّف بطلبات رد ونقل ملف للارتياب المشروع ومخاصمة دولة، ليصل عدد الدعاوى إلى أكثر من 30، ومعظمها تعسّفي ولا يهدف إلّا لعرقلة التحقيق. سخّروا القوى الأمنية لمنعها من تنفيذ مذكرات صادرة عن القضاء هم ملزمون بتنفيذها. ضغطوا لعدم إعطاء الأذونات لملاحقة المدير العام للأمن العام والمدير العام لأمن الدولة”.

سيسيل ترسم خريطة طريق لما يريده الأهالي من النواب لمساندة الضحايا، وعلى رأسها إقرار قانون استقلالية القضاء ورفع الحصانات لكل المطلوبين الى العدالة، وعدم الضغط على القوى الأمنية لمنعها من تنفيذ مذكرات التوقيف وتعديل القانون لمنع التعسّف باستعمال حق رد القضاة والطعن فيهم. وتضيف: “أما مقولة عفا الله عما مضى التي سادت منذ زمن تحت حجة الخوف على السلم الأهلي فيجب وضع حد لها”.

بدوره دعا ويليام نون، شقيق الضحية جو، النواب الى مقاطعة زملائهم المطلوبين “ممنوع تسلموا عليهم في برقبتهم دم”، في انتقاد ضمني للنائب ملحم رياشي الذي صافح علي حسن خليل في المجلس النيابي.

ممنوع تسلموا عليهم في برقبتهم دم

نوّاب: استقلالية القضاء أولوية

النائب ميشال دويهي يؤكد في حديث لـ “المفكرة القانونية” أنّ “مسؤوليتنا بناء المؤسسات وبناء دولة، وهذا يبدأ بفصل السلطات وتحرير السلطة القضائية من يد السلطة السياسية، لأن ذلك له علاقة بانتظام المؤسسات واستعادة الدولة ومؤسساتها وهذا الشيء له علاقة مباشرة بالتحقيقات في انفجار المرفأ”. ويرى أنه لا يمكن بناء مجتمعات من دون عدالة ومحاسبة وإلّا فإن المجتمع سيصبح شريعة غاب. 

ويشدد الدويهي على أنّ القضاء والعدالة والمحاسبة هي شروط أساسية للناس كي يعيشوا بسلام مع بعضهم البعض. هذا موضوع إنساني له علاقة بالناس التي تريد أن تعيش مع بعضها وأيضاً له علاقة بكيفية حصول هذا الانفجار الذي دمّر المدينة وحصد الضحايا ودمّر نفسية الناس وفجر بيوتهم. ويشير الدويهي إلى أنه “لا يمكن التنازل في هذا الموضوع ولا يمكن غضّ النظر فيه، لذا علينا الذهاب به إلى الآخر”. 

ويرى أنه أولاً يجب “سحب اقتراح قانون استقلالية القضاء من الجارور وإرساله إلى الهيئة العامة للتصويت ليعرف اللبنانيون من يصوّت مع ومن يصوّت من ضد”.

النائب رازي الحاج يلفت في حديث لـ “المفكرة” إلى أنّ مسار العدالة تأخّر. ويرى “أنّ انفجار 4 آب ليس جريمة عادية بل هي جريمة العصر. كل اللبنانيين كانوا ضحيته وما زالت عذاباتهم مستمرة من جرّائه”.

لذا يشدد الحاج على أن استقلالية القضاء أولوية وسنكون جديين وملتزمين بهذا الاتجاه. ويرى أن طريقة التعاطي يجب أن تكون استثنائية، ما يتطلّب تشريعات استثنائية. ويقول: “نحن حاضرون لنأخذ أي خيار يطلبه الأهالي منا، ويمكنه أن يسرّع موضوع العدالة، إن كان من خلال رفع الحصانات أو من خلال قضايا ثانية، لمنع استعمال طلبات الرد وكل ما يمكن فعله لتأخير العدالة”. 

بدوره النائب ملحم خلف يقول لـ “المفكرة”: “علينا ألّا نكون أمام فراغ في السلطة القضائية . كلّ المواثيق الدولية والقوانين تمنع بشكل واضح وجود هذا الفراغ. وعلى الدولة موجب أن يكون هناك قاض ولا يمكن التغاضي عن ذلك. وعلى الأمور أن تذهب في هذا الاتجاه”. ويرى أن العرقلة في ملف التحقيق واضحة، من خلال إدخال الملف في تجاذبات عدة. علينا العودة إلى فكرة العدالة وهذا البلد لا يقوم إلا بالقضاء. نحن كلنا تحت سقف العدالة والقضاء”.

من جهته  يؤكد النائب إبراهيم منيمنة لـ “المفكرة” على أهمية هذه القضية وأولويتها لأنّها “ركن أساسي اليوم بمعركتنا مع السلطة وهي تؤسّس لعدالة جذرية في البلد، يمكن من خلالها الاعتماد على مؤسسة القضاء”. ويوضح منيمنة أن “قضية انفجار المرفأ التي هزت الشعب اللبناني ككل وهزت أيضاً الوجدان العالمي لا يمكن أن نتراجع أو نتخاذل فيها لأن عمق الجرح مما حصل وتعامل السلطة معه يدفعنا لنكون بالصف الأول في المواجهة مع السلطة”. ويشدد منيمنة على أولوية العمل على استقلالية القضاء واتخاذ موقف من التعاطي مع النواب الذين بحقهم  مذكرات توقيف. ويؤكد أنّ على مجلس النواب أن يمثّل وجع الناس ويتعامل مع هذه القضية بعدالة من دون أي مواربة. 

والدة الضحية أحمد قعدان

“الدم برقبتكم يا مجرمين”

ويوم السبت في 4 حزيران، التاريخ الشهري لوقوع تفجير المرفأ، وفيما لا يزال التحقيق في الجريمة معطّلاً نتيجة تجاوز وزير المالية يوسف خليل لصلاحياته ورفضه التوقيع على التشكيلات القضائية التي تعيد النصاب المفقود إلى الهيئة العامة لمحكمة التمييز، نفذ ذوو الضحايا وقفتهم الشهرية المعتادة منذ 22 شهراً قبالة إهراءات مرفأ بيروت. وكان مطلبهم الأساسي توقيع خليل مرسوم تعيين قضاة محاكم التمييز لاستئناف التحقيق في انفجار 4 اب. وكان خليل أعلن قبل الوقفة، عن حلّ يسمح بتوقيع المرسوم قريباً، إلّا أنّ الأهالي لم يصدّقوا إعلانه فتوجّهوا من المرفأ إلى أمام المبنى الذي يقطنه في الروشة ورفعوا صور ضحاياهم على مدخل المبنى، ولوّنوا أياديهم بالأحمر كدلالة على الدم الذي سال من أبنائهم. كما ترك الأهالي عبارات على درج المبنى “هنا يسكن الوزير المعطّل”، و”الدم برقبتكم يا مجرمين”، و”بدنا العدالة”.
وكان شادي دوغان، شقيق الضحية محمد دوغان، قد أوضح في بيان أنّ “مراجعاتنا المتكرّرة لوزير المالية بالإسراع بتوقيع التشكيلات القضائية لم تلق آذانا صاغية، فالتقينا رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي بحضور وزير الإعلام، لمعرفة السبب الجوهري لتعطيل التحقيق وعدم ممارسة صلاحياتهم في المجلس، فعلمنا أنّ الرئيس نبيه بري منع وزير المالية من التوقيع على المرسوم. وعند سؤالنا عن السبب، أجاب: شو وين عايشين إنتو؟ انتو بلبنان. هذه العبارة استفزت مشاعر الحاضرين”.

 وسأل دوغان وزير المالية: “ما هو الثمن لتُعرقل التحقيق وهل يوجد في الدنيا ما يجعلك ترقص فوق دماء الضحايا وتدوس دون رحمة على أوجاع الأمهات والأيتام؟ نسألك يا يوسف خليل، عندما تذهب للنوم، هل ضميرك مرتاح؟ هل تنام وهناك مئات المظلومين يدعون عليك؟ هل أولادك وزوجتك راضون عنك وعن حمايتك لمن قتل أهلنا؟ هل يرضون بظلمك؟ أين الضمير الحي وأين الإنسانية؟ هل فكرت أنّه كان يمكن لأولادك أن يكونوا بين ضحايانا؟ ماذا كان سيكون موقفك؟ هل كنت سترضى بما تفعله معنا اليوم؟ هل كنت ستقبل أن يتراقصوا بنعش فارغ من فلذة كبدك وقطعة من قلبك؟”.


عبارات كتبت على درج مبنى وزير المالية

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الوصول إلى المعلومات ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني