أن تكوني إمرأةً في بلد منال


2016-08-01    |   

أن تكوني إمرأةً في بلد منال

الحكم على قاتل منال العاصي بالسجن لثلاث سنواتٍ و7 أشهر فعلية، مع احتساب مدة التوقيف حتى بحيث يخرج القاتل بعد 18 شهراً من يومنا هذا إلى الحريّة، رنّ في أذن كلّ إمرأةٍ تتلقى الضرب وطمحت لوهلةٍ بامتلاك إمكانيةٍ للخروج منه. “بقتلك، وبفوت فيكي سنتين ع الحبس”، سيقولون لنا. ولمَ لا؟ ففي قضيةٍ ملأت أخبارها البلد وصارت محطةً عامّة في سياق العنف الأسريّ، أتى هذا الحكم ليتفهّم العنف لا ليحمينا منه. كأنه يقول لنا: لا تغرّنكن السنوات القليلة الماضية التي علا حسّكن فيها، القانون ما زال قادراً على لجمكنّ.
هذا الحكم جاء ليسكِت تلك الحملة، في قضيةٍ نفر من إجرامها المجتمع. لو قيل لنا: “ولكن حيثيات هذه القضية..”، سنسمع: “وكلّ قضية”. هذا الحكم استسهل وضع حياتنا على المحكّ.

شرعة أقوى من القانون

الدولة لا تريد فعلياً أن تحمينا، نحن النساء. تلغي “جريمة الشرف” وتترك مدخلاً إلى براءة القاتل عبر استثناء “الغضب الشديد”. تقرّ تجريم العنف الأسري، وتسارع لتغليف قضية منال بكلمات الشرف والجنس بحيث صارت “خيانتها له” إعتداءً يستبق عنفه. لا الشرف ألغي فعلياً، ولا الحماية أقرّت فعلياً، وإنما هما تواريا ليظهرا عندما تستدعيهما الحاجة. والحاجة إلى إليهما كلاسيكيةٌ في سياق تعنيف النساء، وقد سادتا متن الحكم الصادر بحق هذا القاتل: ممارسات جنسٍ مفترضة يرويها عن الميتة مجموعة أحياءٍ يسعون جميعاً للخروج أبرياء من جريمة، فتكون منال هي التي قتلت نفسها برسائل جنسية بعثتها لرجلٍ يقولون إنها نامت معه. هل هي هنا لتخبرنا بما إذا كان ذلك كذباً أو حقيقةً؟ لا. وهل الجنس يبرّر القتل؟ وكيف كانت أصلاً حياتها معه؟ لكن، لماذا هذه الاسئلة؟ هي لا تهمّ. البطل الفعليّ في القصة هو القاتل: عصبيّ، لكنه “متديّن” ويهدأ بسرعة.
هو محور إهتمام الحكم، لا منال. هو الخلوق الذي يحبها، وهو الشرس المهاب العنيف في الحيّ كما في البيت. وهو الذي غضب لشرفه، وهو الذي تفاجأ، وهو المتزوج عليها لكنها “خانته” قبل زواجه الثاني، علماً أنه “عدل” بينهما (بحسب متن الحكم أيضاً). هو الذي لم يسمح بنقلها إلى المستشفى بسيارة إسعاف وإنما بسيارة الأجرة. وهو.. هو كلّ شيء. فهي انتهت منذ ثبّتوا عليها أنها “زانية”، رغم أنها أوحت للجميع بأنها “متديّنة”. السؤال عنها هي يكاد يقتصر عمّا إذا وقعت بنفسها في طنجرة الفاصوليا أم أنه هو من رماها بطنجرة الفاصوليا؟ مدهشٌ متن هذا الحكم.

يوم الجريمة، قالت أمّ منال للشرطة أن سبب وفاة إبنتها المحطّمة تماماً والتي تلقت ألوان التعذيب الدموية لما يزيد عن 3 ساعاتٍ متواصلة، هو وقوعها عن سلم المطبخ. أسباب الأم ليست عصيّةً على الفهم، فهي تخبرنا ما نعرفه عن تجذّر الرعب من الظلم السائد في حياتنا: بطشه، وصيتهنّ. شقيقتها وقتها انتفضت ورفضت التعتيم. وكلنا انتفضنا معها ورفضنا التسكيت. اجتهدنا وتابعنا وكتبنا وتظاهرنا، حتى دخل قاتلٌ إلى محكمة. وها هو اليوم يتجهّز للخروج منها “ليربّي بناته”.
أيّ مربٍّ هذا الذي يشرب من دمّ زوجته؟ هذا الكلام ليس مجازياً، وإنما هو وارد في متن الحكم: جرحٌ طوله 7 سنتيمترات فوق الشفة العليا. أحدثه بلكمةٍ، مصّ منه دمها، وبصقه في وجه أمها. في دماغها نزيفٌ حاد، الكدمات القاضية في كافة أنحاء جسمها. الأم تخاف منه، لسوابقه المستمرة. ببديهيةٍ، خافت من مجرم! وهي تعرف عميقاً، بعمق حبّها لابنتها، أن شرعه أقوى من القانون. وفعلاً.. القاضية بالعدل، تعرف ما نعرفه، ووجدت في حريّته خيراً لعائلته. هذا هو بالضبط جرم الذكورية متجسّداً: الذكورية تقبل القتل، التعذيب، الجريمة بشكلٍ عام، طالما سلطة الذكر الذكوريّ مستقرٌّةٌ في الأسرة المحافِظة. وأسرة الذكر هامّة، لأن عليها يقوم النظام. هي خليّته الأولى، منبع مريديه والمدافعين عنه (والقاتل ناشطٌ في أكثر من مواجهةٍ طائفية في البلد).

عند البحث عن مدخلٍ للإنتصار للمرأة، يتوجّب علينا أن نعيد تعريفها كإبنةٍ مثاليّةٍ للنظام، لا تخرج عن تعريفاته، لا تتحدّى أيّاً منها، مطيعةٌ كئيبة. هذا هو المدخل شبه الوحيد لإدانته. لو أرسلت “واتساب” أو قيل أنها فعلت، لو “خانت” أو قيل كذلك، لو كانت عصبيّةً، “متبرّجة”، لو طلبت الطلاق… أيّ حركةٍ خارج النصّ الجندريّ المتفق عليه بين الشرع والقانون والتقاليد، هو مبررٌ لضربها حتى قتلها. يتوجّب إذاً على المرأة أن تبرهن طاعتها لقانونٍ ما زال يتهرّب من الإعتراف بجرمٍ في الإعتداء عليها، لكي تستجدي منه عدالة.
أم منال طلبت منه في محاولة لإنقاذها أن يبقيها “صانعة للأولاد” (أي، خادمة). قاسيةٌ المساحة التي كانت متاحة لمنال كي تحيا فيها. عليها أن تحصر زيارتها للحياة بالتأرجح ما بين ضربةٍ من البيت وضربةٍ من المجتمع. ولما قتلت في نهاية المطاف بمشهديةٍ تجسّد كلّ هذا العنف، تقبّل القضاء موتها و”تفهّم” القاتل. هذه الأجساد التي نحيا فيها، ليست لنا. فما صادر من منال حياتها، هو تحديداً ما صادر منها (ومنا) العدالة بعد رحيلها: الشرف، والأسرة. مِلكيّةٌ، وخادمة. هذا هو الخيار الذي كان متاحاً أمامها، ورفض القاتل حتى منحه لها. ولا بد أن يجد كلّ قاتلٍ قاضياً وقاضيةً يتفهّمان دوافعه لو مثل أمام محكمة. ففي النهاية، القانون ترك الشبّاك مفتوحاً للقاتل كي يهرب من العقاب، شرط أن تكون المقتولة إمرأة، “إمرأته”.

الغضب، من أجل العدالة

منذ أكثر من سنتين، لما خرجنا بالقضية إلى العلن، هبّ رجالٌ إعلاميّون وسياسيّون ومؤثّرون يشاهدهم اللبنانيون /ات أسبوعياً على التلفزيون، وقالوا لنساءٍ معنّفاتٍ واقفاتٍ أمامهم: أنتن تخنّ الثقة وتخرجن بـ”حميم” الأسرة إلى العلن، أنتن تفضحنّ أطفالكنّ وتؤذينهم /ن أكثر بكثير من ضرب الأب لهم /نّ، ضرب الرجل لك. الوجود في العلن كان حقّاً مسلوباً، لكننا فرضنا سطوتنا عليه، وانتزعنا ملكيّةً لنا فيه. مشينا أكثر من خمسة آلافٍ في تظاهرةٍ تحمل صوراً وأسماء: منال العاصي، رلى يعقوب، سارة الأمين، لطيفة قصير..
أما رجال الدين فكانت لهم مهمّة التنكيل بالقضيّة برمّتها. وكلما ارتفع صراخ رجال الدين أكثر، اتسع هامش شركائهم النوّاب في لجم التشريع. فاهتاج الشيوخ وقالوا: كيف تكون لربّ البيت كلمةٌ فيه، بغير الحقّ بامتلاك العنف؟ صار العنف حقّاً. قالوا: أضربها، بشرط عدم ظهور الضرب للعين خارجها. أيّ، اضرب الرأس لا الوجه، فسواه من أنحاء الجسم ليست مخصصة للعيان أصلاً بعرف رجال الدين. والمهم، خارجها.
الحوارات المتلفزة لم تأت كلها بنمطٍ واحدٍ، لكن “أشرسها” كان أكثرها إثارةً ومشاهَدة. أبقت توزيع السلطات الحواريّة ضمن الشراكة الحاكمة. فقانونٌ كهذا لا حزب له، لا طائفة له، ولا هو استثمارٌ عقاريّ. ظهرت المعنّفات والناشطات والناشطون في مواجهةٍ “مثيرة” مكرّرة، تلك التي تثقل على قلوبنا في كلّ “نقاشٍ” متلفز محوره إمرأة، أو “فضيحة” جنسية، أو جنسانيّة مغايرة. أمام كلّ قصّة عنفٍ معلنة، جلس الدين، والطب، وأحياناً علم الإجتماع / النفس، ليشرّحوا “الضحية”، المرأة. مرّة، كان الضيفان الأشد “إثارةً” رجلين عنّفا زوجتيهما. واحدٌ صاح بأنه ضرب زوجته طبعاً، أحرق شعرها، كسر لها ثلاثة ضلوعٍ، وساقين، كجزاء لها على طلب الطلاق، ثم طلّقها. دفّعها الثمن، وقال أنه دفّعها الثمن. لم تنتظره دورية شرطة خارج الأستديو، ولا من يحزنون. خرج كما دخل، بينما هي، السيدة التي ليست زوجته، اضطرت إلى الإنفعال مراراً لتؤكد براءتها من تهم الشرف، والفضائحية، والمبالغة، والسلبية، وقلة الحيلة، والخروج عن الله، …
لكن المزاج العام مع الوقت بدأ بالتغيّر، واتضح فيه ميلٌ إلى طليعةٍ فيه من النساء والرجال أشارت باليد إلى خللٍ فيه. بدأ الناس برصد العنف الأسريّ كعنفٍ إشكاليّ، مهما اختلفت ردود الفعل تجاهه. بمبادرات فرديّة، صارت العين تختار أن تصوّر مشهداً في الشارع لتحاكم “مجرماً” فيه: محامي يضرب زوجته في السيارة في صلب النهار. النقابة ارتبكت وتلبّكت ولم تبادر بحسم، لكن ذلك لا يهمّ، فالأهم أن العين رأت وميّزت ما رأته كجريمة. والتغيير المجتمعيّ قوامه التراكم.

القانون أتاح للقاضية أن تصدّ كافة جهودنا، لأنها تريد للسائد أن يسود. الجريمة صارت تمتلك شرعية أن تستمر، لأنها، برأي القاضية كما برأي السائد، أتت لتصحّح مساراً، لا لتتوّج سياق العنف الفادح الذي تعرّضت له منال في بيتها، وتتعرض له النساء في بيوتهنّ. هذا الرجل، كيف تأتمنه قاضيةٌ على بنات؟ لقد برهن لنا الحكم أن القانون لا يحقق بالضرورة العدالة. كنا نعرف أن طريق التغيير لا تزال طويلة، لكننا نعرف اليوم أنها ستستلزم منا المزيد من الغضب. لقد عرف النظام كلّ ما نعرفه، وأصرّ مع ذلك على “تفهّم” الجريمة.
هذا ليس جديداً علينا. فجسم المرأة هو محور نزاعٍ شرس وطويل الأمد. ولسخرية الظلم، هو موقع الجريمة، وهو سبب الجريمة. هو أداة إدانتها، وهو سبب براءته. ولكن، لحسن حظّ العدالة، هو اليوم أداة ثورتنا. أكان زانياً، بتول، معوّقاً، حاضناً، أو مقتولاً… كيفما كان، هو لها. وسنسترده.

  • نشر هذا المقال في العدد | 41 |  تموز/ يوليو 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

عودة “البطل”

 

 


انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، جندر ، مجلة ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، حراكات اجتماعية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني