أنفه في الذاكرة والحاضر


2019-01-28    |   

أنفه في الذاكرة والحاضر

قد تكون أنفه الفينيقية كما يصر أهلها على تسميتها إحدى أثرى بلدات لبنان من ناحية تنوعها وإرثها الثقافي وفي مقدمتها مرفأها الفينيقي، قلعتها، الملاحات من دون أن ننسى دير رأس الناطور الأثري. وهي تستأهل منا دائما اهتماما خاصا، وبخاصة الآن في الوقت الذي تتعرض فيه لتهديد جسيم. وبإختصار، فإن بلدة “أنفه” تقع اليوم بين مطرقة شركات الإسمنت التي تضرب أنفه جنوبا وتهدد التلة المشرفة عليها “زكرون”، وسندان الشركات الاستثمارية التي تجهد لضرب منطقة “رأس الناطور” الواقعة في قسمها الشمالي.

ذكريات حول أنفة

“تقع بلدة أنفه على ساحل قضاء الكورة في محافظة لبنان الشمالي، يحدّها شمالا منطقة الحريشة وجنوباً شكّا وشرقاً قرى برغون وزكرون والنطاق البلدي لقلحات، وغرباً البحر الأبيض المتوسّط ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر نحو 100م. ويتراوح عدد سكانها ما بين الستة والسبعة آلاف نسمة . أما أصل التسمية فيأتي من “الأنف” وذلك نسبةً إلى رأس قلعة أنفه الداخل في البحر على شكل أنف طويل.

وهي تتميَّز بموقعها الجغرافي وتضاريسها الطبيعيّة، وخاصة بالروؤس البحريّة الثلاثة وهي رأس الناطور، رأس القلعة الأثري، ورأس الملاليح وكذلك بالخلجان والمراسي الطبيعيّة للمراكب وهي مرفأ النهيرة للصيادين، شاطيء تحت الريح، الدباغة، تلونا، الرميلة، البولصيّة.

وتقوم البلدة القديمة التاريخيّة على تلّتين ساحليتين، وهناك سلسلة تلال شرقيّة فيها جرف صخري ومغاور طبيعيّة كانت تشكّل الساحل البحري في بداية العصر الجيولوجي الرابع. ويمتّد سهل رسوبي مغروس ببساتين الحمضيات وبالخضار والحبوب، بين التلال والبلدة القديمة بإتجاه الجنوب حتى مجرى نهر برغون الذي يشكّل حدود البلدة الجنوبيّة. كما تمّتد كروم الزيتون على هضبة واسعة شرقاً وهذا ما يربط أنفه بالكورة المشهورة بزيتونها. كذلك تمتاز المنطقة الجنوبيّة بغزارة المياه الجوفيّة حيث يتفجّر نبع “الغِير” من مغارة عند سفح تلة الغِير. وكانت مياهه قديماً، عدا استخدامها للشرب وري البساتين المجاورة، تُجَّر في أقنية فخارّية حتى البلدة القديمة والقلعة. كما تكثر النواعير الجوفيّة. ويتفجّر ينبوع قوي في وسط مياه البحر مقابل الشاطئ الجنوبي لأنفه.

كما تمتاز أنفه بغنى تاريخها وآثارها. فهي تعتبر رسمياً ووفقاً للمرسوم رقم 2812  “ذات صالح أثري  وتخضع لموافقة المديرية العامة للآثار كافة المشاريع الرامية إلى تجميلها وتوسيعها” منذ العام 1972. ومن أهم معالمها الأثرية، قلعة أنفه، الكنائس والأديار القديمة ومن أبرزها دير رأس الناطور المشيد في سنة 1115 على أنقاض دير بيزنطي.، المغاور الطبيعيّة، بقايا معاصر الخمر والزيت وخزاناتها، والمدافن المحفورة في الصخور.وهناك عدد من الأبنية التراثيّة من الفترة العثمانيّة وعهد المتصرفيّة(1).

وقد بدأ قسم الآثار والمتاحف في جامعة البلمند، عمليات حث وتنقيب على آثار أنفه، ابتداءً من عامي 2012 و2013 وذلك من خلال بروتكول عقد بين الجامعة وبلدية أنفه والمديرية العامة للآثار. وفي حديث مع “المفكرة”، يروي المهندس جرجي ساسين عضو في هيئة تراث أنفه وجوارها بأنه “نتيجة عمليات التنقيب التي بدأت في العام عند كنيسة “سيدة الريح”، تم العثور على آثار تعود إلى القرون الوسطى كما أن موقع الكنيسة يضم شيئا من التاريخ البيزنطي وهناك آثار وفسيفساء تعود إلى ما قبل الميلاد وبقايا فخارية من العصر البرونزي. كما تم العثور على مدافن تعود إلى العهد الروماني محفورة في الصخر وجد داخلها بعض العظام والفخاريات التي تعود للقرون الوسطى”.

وتاريخيا، كان أهالي “أنفه” يعتمدون في معيشتهم فضلا عن زراعة أشجار الزيتون، على إنتاج النبيذ وصناعة الحرير وصيد الأسماك واستخراج الملح عبر الملاحات . إلاّ أن كل هذه القطاعات شهدت أو تشهد تدهوراً نتيجة عدة عوامل.

ففي ما خص إنتاج “النبيذ”، يتحدث ساسين عن أن “بلدة أنفه كانت تنتج أجود أنواع النبيذ، ولكن في العهد العثماني تم منع الأهالي من هذا الأمر وتم استبدال أدوات صناعة النبيذ بمعاصر الزيتون كما جرى القضاء على حقول العنب”.

أما إنتاج الحرير، فتم القضاء عليه مع افتتاح قناة السويس لأن المصانع الأوروبية كانت في السابق تاخذ الحرير من الشرق الأوسط ولكن بعد افتتاح قناة السويس صاروا يأخذونه مباشرة من الهند”.

وكذلك صناعة الملح (وهي صناعة قديمة جدا، فإنها شهدت تحديات عدة في مراحل عدة. وهذا ما يوضحه الناشط البيئي حافظ جريج في كتابه”ملح لبنان”، حيث يروي تاريخ إنتاج الملح في بلدة أنفه والصراع الذي خاضته عبر العصور المختلفة من أجل المحافظة على إنتاجه. فيذكر أنه “في العهد العثماني احتكر الأتراك الملح اعتباراً من شهر آذار 1862 بناء على اتفاقية دولية وفرضوا ضريبة قاسية 200% على قيمة الملح. واستثنائياً أباح رئيس مجلس إدارة جبل لبنان حبيب باشا السعد في عهد أوهانس باشا استيراد الملح وأصبح بإمكان أهالي أنفه والبترون وأبناء الساحل العودة إلى استخراجه من مياه البحر. لكن الأتراك عادوا في العام 1914 ومنعوا أهالي أنفه من عمل الملاحات ومن نقل ماء البحر إلى منازلهم للحصول على الملح بتعريض الماء لأشعة الشمس في أوعية فخارية على السطوح، لكن الأنفاويين لجأوا إلى تهريب ماء البحر أثناء الليل فاضطر الأتراك إلى تكسير جميع الجرار في البلدة التي كانت تستعمل لهذه الغاية.

وفي الثلاثينيات حرمت سلطة الانتداب الفرنسي إنتاج الملح وأمرت بتكسير الأجران التي كان الأهالي يصرون على استعمالها فقامت مظاهرة  في البلدة خرج فيها أصحاب الملاحات تعبيرا عن غضبهم.

وبعد الاستقلال، وتحديداً الأربعينات عاد أبناء البلدة إلى إنتاج الملح من جديد وحسنوا ملاحاتهم باستعمال الإسمنت. ولم تكن المنطقة قد صنفت أثريةً بعد. وفي الخمسينات، بدأ تنظيم الملاحات على الشاطئ تنظيماً قانونياً فصدر قرار أوجب على من يريد استثمار ملاحة أن يصرح بذلك  في شهر أيار ويدفع الرسوم المتوجبة في شهر آب من كل سنة إلى وزارة المالية.

ويلفت جريج في كتابه إلى أنه بعد بدء الحرب اللبنانية، تراجعت الملاحات تدريجياً في أنفه ورأس الناطور والقلمون وسلعاتا من مليون متر مربع إلى النصف لعدة أسباب منها: “عدم قدرة بعض أصحاب الملاحات على إعادة تأهيلها. الهجرة. ظاهرة المشاريع البحرية بعد الحرب في الثمانينيات ونشاط السمسرة العقارية واضطرار كثيرين إلى بيع ملاحاتهم تحت تأثير ضغط الظروف الاقتصادية على الطبقة العاملة والوسطى في تلك المرحلة واضطر آخرون إلى ترك ملاحاتهم القريبة من مصانع شكا وسلعاتا بسبب التلوث الذي يخفض أسعار الملح”.

فيما يجد المهندس جرجي ساسين أن مشكلة ملح أنفه أنه لطالما شكل “مادة صراع اقتصادي”،  ويقول: “عملياً، لم تتبنّ الدولة إنتاج الملح ولا حتى زعماء المنطقة. وفي العام 1972 صنف كل شيء على شاطئ أنفه سياحياً ومن ضمن ذلك الأراضي التي تتواجد فيها الملاحات، علماً أنه يؤمن مردودا ماديا إذا ما توفرت له الحماية القانونية. وهذا الأمر شجع الناس على بيع أراضيها أو القيام بمشاريع سياحية والتوقف عن زراعة الملح فقامت المنتجعات السياحية الموجودة اليوم مكان بعضها ومنها لاس ساليناس ومارينا ديل سول”. ويختم ساسين كلامه باستذكار المحامي عوني عبدالله تامر الذي توفي بتاريخ 21/11/2018 ويقول أنه “لا يمكن الحديث عن ملاحات أنفه من دون ذكر هذا الرجل لما قدمه في سبيلها في خمسينات القرن الماضي حيث كان تامر من بين مؤسسي “نقابة أصحاب الملاحات في الجمهوريّة اللبنانيّة”، ومركزها أنفه ، وذلك في أواخر سنة 1956. وفي سياق ذلك، تابع التنسيق مع الوزارات المعنيّة لأجل مشروع إنشاء مصنع “لتنقية الملح البحري اللبناني” وتابع العمل النقابي سنة 1961 على موضوع الضرائب والإعفاءات.

ويلفت جريج بشكل خاص إلى ملاحات راس الملاليح لجهة أنها “حفرت في الصخر بواسطة المطرقة والإزميل”. يعود جريج إلى الماضي يتذكر طفولته وكيف كانت الصيفية لديه كما هي لأترابه هي في جمع الملح ومساعدة أهاليهم يتذكر خطوات النساء وكيف كن يملأن السطول بماء البحر وينقلونها نحو أجران الملاحات ويعيد تمثيل دعساتهن كما لو كن فعلن ذلك منذ برهة.

أما بالنسبة لزراعة الزيتون، فيضيف ساسين أنه “بالإضافة إلى تأثرها بإنبعاثات الشركات، وغياب الدعم عنها، فإن هناك سهل زيتون بأكمله في البلدة تم تغيير تصنيفه وتحويله من منطقة زراعية إلى منطقة سكنية درجة ثالثة، وأصبح كل شيء مخصصا للبناء وهذا خطأ تنظيمي جاء نتيجة الضغوطات السياسية وتلبية لرغبة أصحاب الأملاك الذين يفضلون بيع أراضيهم للعمار عوضا عن إبقائها أراضي لأشجار زيتون يبقى مردودها المادي محدودا.

تحديات أنفه الثلاثة بعد انتهاء حرب 1975-1990

من يقرأ أعلاه يدرك أن أنفه القديمة، لا تشبه بشيء ذلك تصنيفها مع شكا والهري وكفريا “منطقة صناعية”. وحدها هذه العبارة تدفع الناشط البيئي حافظ جريج إلى الاستهجان. “تصنيف صناعي لمنطقة يجب إعلانها محمية بيئية وتراثية لميزاتها كافة، من دون أي بنى تحتية، أو معايير تحترم الناس وصحتهم وهوية منطقتهم”. لا يكفّ الرجل عن استهوال المخاطر التي تحدق ببلدته. بدأت هذه المخاطر مع شركتي الترابة في شكا، التي صيّرت رأس المماليح حيث أشهر موقع لملاحات أنفة مجرد أطلال، مروراً بقلعتها البحرية الأثرية المهددة بالجرافات والحًفر، وليس انتهاء برأس دير الناطور الذي يتربص به ما يسمى ب “التطوير العقاري” بفعل مشروع الشركة العقارية التي استأجره أصحابها منذ 20 عاماً لمدة ثمانين سنة.

التحدي الأول: الملاحات، مهنة تفقد مواردها

بعد الحرب، بدت الدولة وكأنها تعطي بيد ما تأخذ أضعافه باليد الأخرى، فبعدما أعفي أصحاب الملاحات في ميزانية العام 1994 من دفع الرسوم تشجيعاً للإنتاج الوطني(2) أدى توقيع اتفاقية التيسير التجارية مع الدول العربية للقضاء على إنتاج الملح اللبنانية حيث بات يتم استيراد الملح المصري من دون ضريبة. من ناحية أخرى، قامت وزارة الصحة في عهد الوزير وائل أبو فاعور بإصدار قانون، استنادا إلى تقارير عفى عليها الزمن، بفرض إلزامية أن تكون هناك مادة فليور بالملح، فبات الملح اللبناني بحسب القوانين اللبنانية غير مطابق للمواصفات لأنه لا يحتوي على هذه المادة”.

وإن كان المحامي عوني تامر قد لعب دوراً في خمسينيات القرن الماضي للدفاع عن ملاحات أنفه، فإنه برز في التاريخ الحديث اسم الناشط حافظ جريج، الذي أشعل منذ عدة عقود الحرب في وجه كل من يهدد “أنفه” بملاحاتها التي يرى أنها “الكنز المجهول الذي تدوسه أقدام جاهلة كثيرة” وهو نتيجة ذلك تعرض للعديد من التهديدات والضرب المبرح وصولاً إلى تهجيره منذ نحو عشر سنوات بعيداً عن بلدته.

ويلفت ساسين إلى أن”كل الزراعات في المنطقة متضررة حاليا بفعل التلوث الذي ترخيه شركات اسمنت شكا  نتيجة الانبعاثات التي تتدفق من هناك باتجاهنا، وإن كانت هذه الشركات قد قامت منذ فترة بتطوير نوعية الفلاتر، فإنها بهذه الخطوة قد خففت من كمية  الغبار الذي كننا نشهده في السابق، إلاّ أنها لم لا تحد من الانبعاثات التي تتلف المزروعات وتصيب أهالي المنطقة بالسرطان الذي يبلغ أعلى نسبه في منطقتنا”.

التحدي الثاني: رأس الملاليح في قبضة صناعة الإسمنت

عند الحدود الجنوبية للبلدة، تقع منطقة “رأس الملاليح” المصنفة كمنطقة سياحة E ومكان لنزهة للأهالي. إلاّ أن المفاجأة في هذا المكان أنه بات مُصادراً من قبل المصانع، وفيما تقع شركة السبع “الترابة الوطنية سابقاً”، إلى شمالك عند حدود منطقة شكا، تجد جبّالات الباطون وخزانات الزفت إلى يمينك فيما إنك إن رميت بنظرك إلى الشاطئ ستلمح حتماً بقايا آثار ملاحات كان لها مجدها في الأزمنة الغابرة. نحاول الإقتراب لرؤية المشهد عن كثب، فتردعنا عاصفة من الدخان الأسود تصعد فجأة من مدخنة خزان الزفت وتنتشر في الأجواء ثم تتصاعد إلى السماء كوحش ضخم، يجتاح الرئتين فنشعر باختناق شبه قاتل، فلا نجد خياراً أمامنا سوى بتسليم أرجلنا إلى الريح وأن نعدو بعيداً قبل أن نسقط من صعوبة التنفس.

ننظر إلى الناشط حافظ جريج فنجده رغم هول الوضع يشعر بفرح عارم، فهو يحاول منذ فترة تصوير المشهدية لاستخدامها كدليل ثابت على عدم إلتزام أصحاب الخزان بالمعايير البيئية والذي يكلف سكان المنطقة هناك صحتهم وحياتهم.

يبدأ حافظ جريج حديثه عن منطقة رأس الملاليح فيخبرنا أن المسبب الأساسي لتلوثها وتضرر الملاحات فيها هي شركة الترابة الثانية (شركة السبع). وإذ علت صرخة أصحاب الملاحات ضد تلويث شركات الترابة في 1953 وفق جريج، فإنه يفيد أن الراحل جوزيف ضومط صاحب الشركة آنذاك عرض على أصحاب الملاحات أن يدفع لهم نصف سعر كيلو الملح، فكان هذا الأمر يسندهم بطريقة أو بأخرى ولكن بعد وفاته ومجيئ ابنه بيار ضومط (المدير الحالي) فإنه رفض أن يحذو حذو والده الأمر الذي دفع بأصحاب الملاحات إلى تركها.

بالإضافة إلى انبعاثات شركات الاسمنت وتأثيراتها تعمل في منطقة رأس الملاليح جبالات باطون على نحو مخالف للقانون، وتقوم برمي فضلات الباطون بالبحر فضلاً عن غسيل الكاميونات بالمياه ورمي المياه في البحر. ويلفت جريج إلى قيامه بالتواصل مع البلدية في هذا السياق فجاءه الجواب أن”هناك عقد على عشر سنوات بقي منه سنتان لن يتم التجديد لها من بعدها”.

وفي هذا السياق نشير إلى محاولة المفكرة القانونية تحديد موعد مع رئيس بلدية أنفه جان نعمة للاستفسار عن عدة نقاط، ولكن لم ننجح في ذلك على الرغم من تلقينا الوعد لأكثر من مرة بتحديد موعد من قبله.

ويتابع جريج متناولاً خزنات غاز وزفت ألصقت بالمنطقة في فترة الحرب. وقال:”خلال الحرب وبعدها لم يعد هناك غاز، فقام أحد الأشخاص المتمولين من خارج المنطقة، بارسال سماسرة، لشراء الأرض مهما كلف الثمن، وهكذا تم. وفي البداية وضع خزانات غاز وكانت البواخر تأتي من البحر وتفرغ الغاز في الخزانات، ثم تأتي البيكآبات وتحمل منها لتبيع إلى المنازل. ومع انتهاء الحرب، حولت خزانات الغاز إلى خزانات للمازوت وصار يحضر المازوت. أما الآن فقد حولت الخزانات إلى الزفت. وفي الأساس تحوي هذه الخزانات على أفران فصارت البواخر تأتي محملة بالزفت السائل، وعندما تقوم الباخرة بتفريغ الزفت أو عندما يشغّل الفرن تتصاعد روائح الديوكسين dioxin المسرطن في الأجواء”. “انتفض سكان منطقة رأس الملاليح ضد هذا الأمر”، هذا ما يؤكده جريج وقد وعدوا بعدم تكرار هذا الأمر ولكن “عالوعد ياكمون”.

التحدي الثالث: مشروع رأس الناطور

من منطقة رأس الملاليح إنطلقنا برفقة جريج إلى دير سيدة الناطور، هناك على مقربة من الشاطئ لا تزال هناك بعض الملاحات، وعلى الشاطئ غرفة صغيرة يجلس فيها أحد الملاحين محاطاً بأكياس الملح الخشن، ينظر إلى الزائرين إليه وكأنه صاحب كنز ثمين لا يخشى من استعراضه. يخبرك من دون أن يكلف نفسه بمعرفة هويتك أو الغاية من زيارتك، أن لديه أفضل ملح في العالم. وبحضوره، يتابع جريج حديثه عما سماه “إعدام رأس الناطور”: “هذه المنطقة تضم أكبر مساحة للملاحات نحو 4000 متر مربع، والتي يضربها الآن مشروع المدينة المسورة الذي يقول عنه أصحابه “أنه مخصص للملوك والأمراء العرب وكبار الدبلوماسيين”، والذي سيحوي منطقة فيلات وبسينهات وكل ما يلبي متطلبات هؤلاء الأمراء وذلك على مقربة من الدير الأثري”.

ويتابع جريج: “في العام 1998، قامت جهة من الأوقاف في “دير سيدة الناطور” بتأجير الأراضي لمدة 80 عاماً، وفي البداية كان العقد سرياً ثم كشف لاحقاً وبدأنا بالتحركات لردعه في البداية كان العقد على مدى أربعين عاماً، ثم ستين عاماً، ثم ثمانين عاماً وهذا التمديد يأتي نتيجة عجزهم عن تنفيذه لأنه مخالف للقوانين.”

وفي ذلك العام، كتبت في جريدة “النهار” أن “هناك شركة عقارية كبرى تأكل الأخضر والأبيض والأزرق في أملاك دير الناطور”، والأخضر عنيت به الأحراج والحياة البرية أما الأبيض فهي الملاحات والأزرق هو البحر والسبب في قولي هذا أنه يوجد في المكان حيث مزمع القيام بالمشروع منظومة ecosystem وتضم آلاف الأمتار من الريحان الفريد من نوعه على حوض المتوسط، وهذا الكلام هو نتيجة دراسة قام بها الخبير سامي لقيس وزوجته. عدا عن جولوجيا الصخور وطبيعتها، ووجود عشرة أنواع من النباتات الطبية والعطرية كل ذلك في حين تعد هذه المنطقة من المناطق الرطبة ذات النظام البيئي الخاص المطلوب حمايته إلتزاما بمعاهدة ramsar التي انضم لبنان إلى مبادئها منذ العام 1999″.

فيما مضى كانت المنطقة مليئة بالطيور المهاجرة والمقيمة وكان عامل الاستثمار 2% وعندما علموا بهذه القصة ضغطوا وشغلوا الوسائط حتى يحولوا الـ2% إلى 20% وأمروا المطرانية كي تتوقف عن تأجير الملاحين حتى تنشف الملاحات ونجحوا في ذلك.

وفي ذلك الوقت كان لا يزال هناك وجود للردع السوري في المنطقة ولديه نقطة عسكرية فطلب منه أن يحرق أحراج الريحان. وكانت الحجة القضاء على الأفاعي فتحول ضهر الريحان إلى رماد. وفيما جاءت الجرافات الضخمة وبدأت في اقتلاع الصخور لغاية ردم 70 ألف متر مربع من البحر لإنشاء سنسول لليخوت، وقع الخلاف بين أصحاب المشروع وقام صاحب الجرافات بسحبها”.

ويضيف جريج: “في سنة 1998، كانت لديهم عقبة أن هذه العقارات فيها حوالي نصف مليون متر مربع ملاحات تعمل ولكن بالتهديد والترغيب بالقوة جعلوا أصحابها سنة 1998-1999 يتخلون عن حقوق الاستثمار المذكورة في العقد الموجود بينهم وبين المطرانية. واليوم الذي يملك بديلاً عن ملاحاته اتجه إليه. أما من لا يملك، وهو حال معظمهم، فقد تخلوا عن ملاحاتهم وتحولوا بالتالي الى تجار للملح المستورد من مصر”.

نشر هذا المقال في العدد | 58 |  كانون الثاني 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

الكورة في فم التنين: من رخّص بالقتل؟

  1. دراسة من اجل مشروع تركيب محولات كهرباء في بعض المناطق اللبنانية من قبل UNDP من اعداد المهندس جرجي ساسين
  2. ملح لبنان-الملاحات ودواليب الهواء في أنفا نموذج بيئي اقتصادي سياحي من شبكة المناطق الرطبة في حوض المتوسط. حافظ جريج

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني