أم وطفلتان مكتومتا القيد تواجهان القضاءين الديني والمدني


2021-03-24    |   

أم وطفلتان مكتومتا القيد تواجهان القضاءين الديني والمدني
رسم رائد شرف

في منطقة نائية، وفي منزل مؤلّف من غرفة واحدة لا تتوفّر فيها مقوّمات الحياة الأساسية ولا حمام فيه، اضطرّت أمّ أن تسكن وطفلتاها تحت نير العنف الأسريّ ثمانية أعوام مع زوج يكبرها ثلاثين عاماً، ارتبطت به ظنّاً منها أنّه سينقذها من عنف كانت قد تعرّضت له في منزل عائلتها. إلّا أنّه أصبح هو الجلّاد في زواج “باطل” لوجود زواج سابق غير منفّذ طلاقه، في مخالفة للقوانين والأصول الدينية المتبعة أمام الكنيسة المارونية.

أثمر الزواج طفلتين تبلغان اليوم 5 و7 سنوات من العمر ونتيجة عدم تسجيله كونه زواج باطل، انتهك حقّ البنتين بالتمتّع بكيان قانوني بتحويلهما إلى مكتومتي قيد، وهما يحملان حالياً “بطاقة تعريف من المختار” خوّلتهما فقط دخول المدرسة، وبانتظارهما عراقيل عديدة نتيجة عدم تسجيلهما في سجّلات الأحوال الشخصية.  

استطاعت الأم وبنتاها الفرار من ظلم الزوج بعد التواصل مع المعنيين، إلّا أنّ مصيرهنّ لا يزال معلّقاً بحبال المحكمة الروحية والقضاء المدني على حدّ سواء.

القضاء المدني مُطالب بحماية الطفلتين

أصبحت العائلة في مكان آمن لا علم للزوج به، تمّ تأمينه بواسطة المحامية فداء عبد الفتاح التي تطوّعت لمساعدتهنّ بالتعاون مع جمعية “حماية” وأصدرت قاضية الأمور المستعجلة قرار حماية بشكل سريع عقب تحقيق جرى مع الأم وابنتيها بحضور مندوبة الأحداث التي وثّقت معاناة الصغيرتين في المنزل بكلمة واحدة نقلتها عن لسانهما: “برد”. بهذه الكلمة اليتيمة تمكّنتا من نقل صورة واضحة عن الحقوق التي حُرمتا منها عن سبق إصرار من الأب.

إلّا أنه، وبعدما تمّ تأمين الحماية “فوجئنا بإصدار قاضية العجلة قرار مشاهدة للأب، بذريعة حقّه في مشاهدة أولاده” تقول المحامية، وتضيف مقتبسة كلام القاضية بأنّ “لا دليل ملموساً على أنّ الطفلتين قد تعرّضتا للعنف الجسدي”. ولذلك اكتفت بالإقرار بوجود عنف اقتصادي بدون اعتباره دليلاً على عدم أهلية الأب لرؤية طفلتيه في الوقت الراهن على الأقل، أو مؤشراً لضرورة إخضاعهما لعلاج نفسي أو استحصال على تقرير من أخصائي لمعرفة ما إذا كانتا مستعدّتين لرؤيته.

“نُفّذ القرار وحصلت الرؤية في قصر العدل مع تغاضي القاضية عن رفض الطفلتين لرؤية والدهما، وهو ما أعربتا عنه في جلسة الاستماع الأولى، متجاهلة بذلك الخوف الذي بدا واضحاً عليهما حينها” على حدّ وصف المحامية التي كشفت عن تحذير شفهيّ وجّهته القاضية للأمّ بإمكانية توقيفها في حال عدم التزامها بالقرار. وحرصاً على سلامة الطفلتين، طلبت المحامية تعيين مندوبة اجتماعية من اتحاد حماية الأحداث للإشراف على لقائهما مع الأب وتقديم تقرير مفصّل حوله، لتفاجأ بعدم قيام الأخيرة بتوثيق تفاصيل اللقاء التي تظهر التفاعل بين الطرفين، لا بل اقتصر تقريرها على “توثيق مشاهدتها للطفلتين تلعبان بالألعاب على مرأى من والدهما”.

المحامية فداء اعترضت في حديثها لـ “المفكرة” على الاستخفاف بسلامة الطفلتين، مشيرة إلى الحاجة الملحّة لتدريب وتأهيل العاملين في المؤسّسات المعنية على كيفية التعامل مع قضايا حماية المرأة والأطفال من العنف. من هذا المنطلق الذي طرح علامات استفهام كبيرة، تحديداً حول دور قاضية العجلة في حماية الأولاد، قدّمت المحامية ملف حماية أمام قاضي الأحداث الذي أصدر قراراً بضمّ التحقيق الأوّلي له. وهنا تشدّد رئيسة “المفكرة القانونية” المحامية لمى كرامة على أهمية الشّق المتعلّق بالحماية، والذي يقع على عاتق قضاة الأحداث وقاضية العجلة، كما تشدّد على وجوب إعمال مبدأ مصلحة الطفل الفضلى كمعيار أساسي في كافة الإجراءات والنزاعات القضائية التي تطال قاصرين. وفي حين أنّه من الثابت أنّ مصلحة الطفل تقتضي مشاهدة كل من والديه، إلّا أنّ الاجتهاد قد وضع حدّاً للحق في المشاهدة عندما يمسّ ذلك بسلامة الطفل النفسية أو الجسدية.

وتشدد المسؤولة عن مكتب جمعية “حماية” في قصر العدل في طرابلس نادية سمور ريشا، في حديث لـ “المفكرة” على الحاجة الماسّة إلى احتضان البنتين قانونياً ومجتمعياً، وعلى أهمّية التركيز على التأثيرات السلبية للعنف الذي تعرّضتا له، لما له من دور أساسيّ في زعزعة استقرارهما على الصعيد الجسدي، والنفسي والاجتماعي. وتضيف “البداية تكون من مساعدتهما على التعلّم بهدف اكتساب المعرفة، وتأمين الحماية ومقوّمات العيش الأساسية للأمّ لتتمكّن بدورها من أن تكون مصدر أمان وقوّة لطفلتيها لكي لا تعيش في دور الضحية طيلة حياتها”.

لا عقاب بعد للكاهن على إتمام “زواج باطل”

“المشكلة الأساسية تكمن في ما نتج عن هذا الزواج من طفلتين مكتومتي القيد عن سابق تصوّر من الأب وتواطؤ مريب من المحكمة المارونية التي من المفترض أن تكون دقيقة في هذه الأمور”، في إشارة من المحامية فداء عبد الفتاح، إلى عقد الزواج رغم العلم بوجود زواج سابق غير منفّذ طلاقه.

وقد بدأت معاناة العائلة منذ اللحظة الأولى التي عمد فيها كاهن إلى تكليل زواج رغم علمه بأنّه زواج باطل كونه قد اطّلع مسبقاً على إخراج قيد الزوج وعلم بوجود زواج سابق غير منفذ طلاقه، تقول محامية العائلة. وهذا ما أدّى إلى عدم تسجيل الزواج الثاني أمام الكنيسة المارونية، وبالتالي حرمان الطفلتين من أوراقهما الثبوتية، وهذا جرم يعاقب عليه قانون العقوبات بحسب المادة 485 منه، وفيها “من تزوّج بطريقة شرعية على علمه ببطلان زواجه بسبب زواج سابق عوقب بالحبس من شهر إلى سنة، ويستهدف العقوبة نفسها رجل الدين الذي يتولّى عقد الزواج المذكور على علمه بالرابطة الزوجية السابقة”. المحامية لمى كرامة، تركّز من جهتها على المسؤولية المترتّبة لإثبات نسب الطفلتين ومنحمهما الحق بالهوية والأوراق الثبوتية، وضرورة محاسبة أي رجل دين يقوم بعقد زواج مخالف للقوانين المرعية الإجراء، وهي ظاهرة نشهدها يومياً إن من خلال عقود زواج القاصرين خلافاً للقوانين، أو حتى عقود الزواج المخالفة للشروط كما هي الحال في هذه القضية.

ويؤكّد رئيس الديوان في مطرانية أنطلياس المارونية الأب الياس الحاج، بدوره لـ”المفكرة” أنه في حال عقد زواج ماروني بوجود زواج سابق غير منفّذ فيه حكم طلاق فإن هذا الزواج يعتبر “باطلًا”، ذلك لأن الرجل “ليس مطلق الحال”، فعليه ألّا يكون مرتبطاً بزواج آخر أو ارتباط آخر. الإشكالية الكبرى هي أمام المحكمة الروحية التي “لا تعاقب الخوري في هذا النوع من القضايا”، بحسب ما يؤكّده الأب الياس، مضيفاً أنّ “السلطة الوحيدة هنا هي في يد مطران الأبرشية في طرابلس”، فالأخير هو المسؤول عن النظر في معطيات القضية ويتّخذ وفقها تدبيراً كنسياً تجاه الخوري الذي نفّذ هذا الزواج. ويشمل التدبير الكنسيّ إخضاعه لدورات أو توقيفه عن إتمام عمليات زواج لمدة معيّنة على سبيل المثال لا الحصر.

ويشرح الأب الياس المراحل التي يمرّ بها الزواج الكنسي قبل إتمامه، بدءاً من توفّر شهادتَي معمودية للزوجين، من ثم خضوعهما لدورات خاصة للزواج، تليها المناداة التي يشار فيها إلى أنّ “فلاناً” من أبناء الرعية التي ينتمي إليها الزوج ينوي الزواج من “فلانة” من أبناء الرعية التي تنتمي إليها، ويُسأل عما إذا كان لدى أحد أي مانع لإتمام هذا الزواج. بعد ذلك، يُطلب تقرير طبي للثنائي، وفي لبنان، يتوجّه كلا الطرفين إلى كاهن الرعية التي ينتمي إليها حيث يخضع لاستجواب وتطلب منه الأوراق الثبوتية ومن ضمنها إخراج قيد يكشف ما إذا كان الزوج لديه ارتباطات سابقة أم لا، لتضمّ هذه الأوراق إلى المطرانية التي تعطي إذن الزواج.

أشهر خمسة مرّت على تكشّف هذه القضية، وحتى تاريخ كتابة هذه المقالة لم يتم اتخاذ أي إجراء بحق الخوري، عدا عن وجود ظروف استثنائية فرضتها جائحة كورونا وأخّرت مسار القضية. لأجل ذلك تعتبر المحامية فداء أنّه من الضروريّ الإسراع في إثبات الزواج للتمكنّ من الحصول على هويّتين للطفلتين وتحمّل المحكمة المارونية المسؤولية تجاههما كون مسألة استحصال أوراق ثبوتية تستدعي التقدم بعدة دعاوى. وبحسب قانون القيد والوثائق في الأحوال الشخصية، يلزم المشرّع تنظيم وثيقة الولادة خلال 30 يوماً تلي تاريخ الولادة، موقّعة من شاهدين ومصدّقة من المختار على صحّة التواقيع. وأمام الأهل مهلة سنة من تاريخ الولادة للتصريح لدى الإدارة (النفوس) بولادة أولادهم وإن انقضت المهلة من دون تصريح يتحوّل عقبها المولود إلى مكتوم قيد ولا يمكن إتمام عملية القيد إلّا بموجب قرار قضائي يصدر في غرفة المذاكرة بناء لطلب النيابة العامّة أو صاحب العلاقة.

أمّا الطلاق فيأتي في الخطوة الأخيرة، “هذا الأمر منتهي ولا يمكن الرجوع عنه” بحسب المحامية التي شدّدت على ضرورة عرض الزوج على طبيب نفسي لأجل العنف والممارسات غير الإنسانية التي ارتكبها بحقّ عائلته ورفضه إتمام واجباته تجاههم.

الأب الياس الحاج، يلفت من جهته إلى إمكانية تصحيح الزواج الباطل وثائقياً عند التوجّه إلى المحكمة الروحية، شرط تطليق الزواج الأول من ثم يجري تصحيح الزواج الثاني الكنسي، ويتمّ إجراء حكم إثبات نسب تقع تكاليفه على عاتق الزوج، بالإضافة إلى إلزامه بدفع غرامة مالية بمثابة كلفة تأخير تسجيل زواج عن كل سنة، وبعدها يتمّ إصدار أوراق ثبوتية للطفلتين. وعن رغبة الزوجة في الحصول على الطلاق في وقت لاحق، يشدّد الأب الياس على أنّ “الكنيسة تتدخّل بشراسة لحماية الأمّ والأولاد”، لذا من الضروري وجود تقرير نفسي للزوج، وكذلك للزوجة والأولاد إذا لزم الأمر، ثمّ تُرفع عريضة بطلان زواج من قبل محامي الأمّ تحت ذريعة تعرّضها للعنف، ويُنظر بالقضية استناداً إلى البند الثالث من المادة 818 في مجموعة قوانين الكنائس الشرقية التي تقضي بـ “ثبوت بطلان الزواج بسبب عدم قدرة الزوج أو الزوجة على تحمل واجبات الزواج لأسباب نفسية”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، محاكم دينية ، قرارات قضائية ، الجنسية ، حقوق الطفل ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني