أليكسندر يحوّل قمع الأمن إلى عمل فنّي.. وأحكام براءة جديدة للمتظاهرين


2021-05-26    |   

أليكسندر يحوّل قمع الأمن إلى عمل فنّي.. وأحكام براءة جديدة للمتظاهرين
"ليلة المصارف" (تصوير لمياء الساحلي)

من اعتداء عليه بالضّرب خلال مشاركته في تظاهرة في كانون الثاني 2020 في الحمراء ومن ثمّ توقيفه لساعات في مخفر الرملة البيضاء، استوحى الراقص أليكسندر بوليكيفيتش عمله الفنّي الأخير “عليهم” الذي يعرضه على خشبة المسرح في بيروت منذ العام الماضي. والثلاثاء 18 أيّار 2021 كان أليكسندر على خشبة أخرى ولكن هذه المرّة أمام القاضي المنفرد العسكري في بيروت في جلسة يحاكم فيها بملف واحد مع الشابّين داني مرتضى وعامر جمال اللذين لا يعرفهما ولا يعرفانه ولا يعرفان بعضهما البعض أيضاً. أمّا التهمة التي وجّهت إلى الثلاثة فهي للمفارقة مقاومة القوى الأمنية وتحقيرها، رغم أنّهم من تعرّضوا للضرب. ولا يقتصر الأمر على عدم معرفة الثلاثة ببعضهم البعض بل أيضاً عدم وجود أدلّة عليهم بارتكابهم أيّ أذى تجاه العناصر الأمنية التي تعرّضت لهم بالضرب، حتى أنّ داني ومن شدّة ما تلقّى من ضربات بالهراوات على يده تعرّض لكسر فيها وعطب دائم قابلته النيابة العامّة بالادّعاء عليه.  

وكانت جلسة الثلاثاء في ثكنة فخر الدين في الرملة البيضاء، محدّدة في أيلول 2020 لكن أرجئت “بفضل التضامن الشعبي حينها والذي شكّل ضغطاً” وفقاً لما يقول أليكسندر لـ”المفكرة”. وخرج الشباب الثلاثة ومعهم حكم براءة من تهم مقاومة القوى الأمنية وتحقيرها، وبالتالي أصبح مجموع المتظاهرين الذين نالوا أحكام براءة من المشاركين في انتفاضة 17 تشرين وتم الادّعاء عليهم من قبل النيابة العامّة العسكرية، 57 متظاهراً. ومن جديد، تؤكّد هذه الأحكام أنّ الادعاءات كان لديها هدف معيّن يوضع في خانة محاولة القمع والردع عن المشاركة في التظاهرات والتخويف من التعبير عن الرأي ضدّ السلطة السياسية. 

ملف “ثلاثة بواحد”

وضعت النيابة العامّة العسكرية أليكسندر وداني وعامر في ملف واحد رغم أنّهم لا يعرفون بعضهم البعض بل تعرّفوا على بعض خلال تواجدهم في المخفر حين تم توقيفهم خلال مشاركتهم في التظاهرة في الحمراء أمام مصرف لبنان في 14 كانون الثاني 2020. وتعتبر تلك التظاهرة من أبرز التظاهرات التي حصلت خلال الانتفاضة، لناحية وصول الغضب إلى أوجه تجاه المصارف التي احتجزت ودائع الناس، حيث جرى تحطيم واجهات فروعها في الحمراء، كما شكّلت ضغطاً أساسياً من أجل تشكيل الحكومة بعد تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي حسّان دياب والتي صدرت مراسيمها في 21 كانون الثاني 2020.  

ولكنّ قاسماً مشتركاً يظهر من خلال إفادات الشباب الثلاثة ومن خلال وصفهم للحظة التوقيف وهو أنّهم جميعاً تعرّضوا للضرب على أيدي عناصر مكافحة الشغب الّذين اقتادوهم إلى سيارة الأمن لنقلهم إلى مخفر الرملة البيضاء. 

يشرح أليكسندر لـ”المفكرة” بعد خروجه من الجلسة بأنّ الوقوف أمام قاض عسكري لم يكن ليكون سهلاً لولا وجود محامين داعمين له. فقد حضر إلى المحكمة مع المدعى عليهم الثلاثة المحاميان أيمن رعد وغيدة فرنجية من “لجنة المحامين المتطوّعين للدفاع عن المتظاهرين”. وأوضحت فرنجية وهي رئيسة قسم التقاضي في “المفكرة القانونية” أنّ “الشبّان الثلاثة مثلوا أمام القاضي المنفرد العسكري بدلاً من المحكمة العسكرية بسبب اختلاف التهم التي وجهّتها ضدهم النيابة العامّة العسكرية عن غيرهم من المتظاهرين، لأنّ القاضي المنفرد العسكري ينظر في جرائم مقاومة قوى الأمن والتحقير التي لا تتجاوز عقوبتها القصوى الحبس لمدة سنة، في حين أنّ المحكمة العسكرية تنظر في جرم معاملة قوى الأمن بالشدّة الذي تصل عقوبته إلى الحبس لمدة ثلاث سنوات”. وتمّ خلال الجلسة استجواب كل شخص على حدة، وكان ملفتاً تأكيد أليكسندر للقاضي أنّه لا يعرف المدّعى عليهم الآخرين وأنّه تعرّف عليهم خلال تواجده في مخفر الرملة البيضاء. 

وترى فرنجية أنّه “إزاء إصرار قضاة النيابات العامّة على الادّعاء ضدّ المتظاهرين بجرائم عسكرية من دون أي دليل ومن دون التحقيق في الاعتداءات التي تعرّضوا لها، يستخدم المتظاهرون أقواس المحاكم العسكرية كمسرح للإدلاء بشهاداتهم حول ما تعرّضوا له من ممارسات عنفية هدفت إلى ثنيهم عن المشاركة في التظاهرات”.

أليكسندر يحوّل القمع إلى عمل فنّي 

يتحدّث أليكسندر عن موقفه حيال الادّعاء عليه بهكذا جرم هو الذي لم يقدم على مقاومة العناصر الأمنية وهو ما أدلى به أمام المحقق خلال توقيفه. ويقول: “الوقوف أمام القاضي العسكري أعطاني قوّة، وشكّل وجودي استغراباً لدى القاضي، خاصّة حين سألني عن مهنتي وقلت له إنّني راقص”. يُضيف: “سألني القاضي باستغراب ماذا يعني أنني أرقص، أجبته أرقص بجسدي”. “وحين سُئلت عن مقاومتي للعناصر الأمنية أجبت بأنّ لا مصلحة لي بأن أضرب أحداً وأعرّض نفسي للإصابة، فجسدي أستخدمه للرقص ولا أنوي تعريضه للضرر”. 

شكّلت حادثة التوقيف والضرب لأليكسندر مصدر قوّة وإلهاماً لعمل فنّي راقص بدأه قبل شهور أطلق عليه اسم “عليهم” (جرى آخر عرض يوم السبت في متحف سرسق على أن يواصل العروض في تموز). قدّم أليكسندر في ذلك العمل لوحات راقصة عبّر فيها عمّا تعرّض له وعرضها حتى اليوم نحو 7 مرّات. يقول أليكسندر: “حين خرجت من المخفر، عدت إلى المنزل عند الساعة الرابعة فجراً ورقصت لمدّة ساعتين، ومن هنا بدأ مشروع “عليهم”. 

أعاد أليكسندر من خلال الرقص في “عليهم” رواية ما تعرّض له بأسلوب فنّي مكّنه من إيجاد مساحة تشبهه ليخرج عن صمته حيال ما واجهه، وبأسلوب فنّي آخر سبقه إليه الممثل المسرحي زياد عيتاني حين عبّر من خلال مسرحية “وما طلّت كوليت” عن تلفيق تهمة العمالة له وتوقيفه وتعرّضه للتعذيب. وتعلّق فرنجية على هذا النوع من التعبير مشيرة إلى أهميّته حيث أنّه “في ظلّ انعدام المحاسبة المؤسّساتية في قضايا العنف الممارس من قبل القوى الأمنية بحق المتظاهرين والمدنيين، يصبح دور الفنّانين أساسياً لتفعيل المحاسبة الشعبية عندما يستخدمون خشبة المسرح للتعبير عمّا تعرّضوا له كما فعل أليكسندر في عرضه “عليهم” وقبله المسرحي زياد عيتاني في مسرحيته “وما طلّت كوليت”.

ضرب وأذى على نفقة المصاب

داني مرتضى المنتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني، يؤكّد أنّه تواجد في التظاهرة بناء على قناعته بالمشاركة مع رفاقه الحزبيين. ويروي لحظات حادثة اعتقاله “كنت أتسلّق السياج الاسمنتي في محيط مصرف لبنان، وحين نزلت على الأرض، هجم علي نحو 15 عنصراً من مكافحة الشغب وبدأوا بضربي”. ويُضيف: “لم أكن أعلم من أين تأتي الضربات، كانوا يشتمونني ويضربونني بقوّة بالهراوات”. ويلفت إلى أنّ “العناصر استمرّوا بضربي على رأسي بالهراوات، فحميته بيدي التي تلقّت ضربات قويّة”. يُتابع، “بدأت أشعر بوجع قوي في يدي وأدركت حينها أنّها تعرّضت للكسر”. بعدها نقل داني إلى المخفر مكبّلاً بيده التي تعرّضت للكسر، وحين وصل تنبّه إلى توّرم شديد فيها وطلب أن يعاينه طبيب لكن العناصر الأمنية رفضوا وأجابوه “بلا دلع”. 

يؤكد داني أنّ نقله إلى المستشفى حينها ما كان ليحصل لولا دخول المحامين فاروق المغربي ونرمين السباعي إلى المخفر، إذ يقول: “حين رآني المحامون طلبوا من العناصر الأمنية أن يتمّ عرضي على طبيب فطلب من الصليب الأحمر الدخول وأكدوا حاجتي لدخول مستشفى”. بعدها، نقل داني إلى المستشفى حيث كشف عليه طبيب وأخضع لصورة شعاعية بيّنت كسراً عميقاً في العظم احتاج إلى التجبير ثم إلى إجراء عملية جراحية ووضع أسياخ بعد تركه من المخفر. ويؤكد أنّه لا يزال إلى اليوم يعاني من عطب فيها، “فما عدت قادراً على استخدامها كما كان في السابق”. 

لم يتحمّل أي من المتسبّبين بالضرر لداني مسؤولياتهم تجاهه، ولم تقم النيابة العامّة العسكرية بالتحقيق في كسر يده رغم ثبوت هذا الأمر في محضر توقيفه، كما فعلت مع العديد من المتظاهرين الذين تعرّضوا لاعتداءات من قبل القوى الأمنية بدون أن يتحاسب أيّ من المعتدين. على العكس تماماً، وصل داني اتصال من مخفر الأوزاعي بعد خروجه من المخفر يطالبونه بدفع تكاليف علاجه في المستشفى التي دفعتها القوى الأمنية آنذاك، فتوجّه داني إلى هناك ودفع ما يُقارب 300 ألف ليرة”. ولمزيد من التهرّب من المسؤولية ادّعت النيابة العامّة عليه بجرم مقاومة قوى الأمن. 

أمّا عامر جمال فيلفت إلى أنّه “عادة أشارك في التظاهرات لكنني في هذا اليوم كنت أقصد المكان لأطمئن على ابن شقيقي المتواجد في مكان قريب، ورأيت أنّه يتم تنفيذ تظاهرة، وقفت لأتفرج وفي تلك اللحظة بدأت مجموعات على دراجات نارية تصل إلى المكان وتبدأ بافتعال الشغب، وبدلاً من ملاحقتهم تقدّمت نحوي مجموعة من العناصر وبدأوا بضربي وسحبوني إلى السيارة ونقلوني إلى المخفر”. ويؤكّد أنّ الضرب حصل فقط في الشارع أي لحظة الاعتقال، فيما كان العناصر المتواجدون في المخفر محترمين في التعامل معه. وكان ذلك شبيهاً لما أدلى به المدّعى عليهما الآخران، أي أليكسندر وداني وهذا يدلّ على عشوائية الاحتجاز الذي حصل في الشارع واستخدام العنف الشديد في فضّ التظاهرات. 

وكان جرى التثبّت من حالات عديدة من العنف الشديد خلال فترة التظاهرات التي حصلت منذ 17 تشرين الأوّل وقد تمكّنت “المفكرة بالتنسيق مع لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين من توثيق 732 إصابة ضمن المشاركين في الانتفاضة لغاية 30 حزيران 2020 ومن ضمنهم 75 امرأة و19 قاصراً على الأقل. كما رُصدت مؤشرات العنف الشديد خلال التظاهرات التي حصلت في طرابلس في كانون الثاني 2021، حين تمّ رصد حالات عديدة من العنف الشديد الذي تعرّض له المتظاهرون خلال احتجازهم ونقلهم إلى المخافر أو مراكز مخابرات الجيش وحتى داخل بعض أماكن الاحتجاز. 

يقول عامر وهو أب لولدين طالبين في الجامعة، “كلّ همي اليوم أن أتمكّن من مساعدة أولادي لاستكمال تعليمهم”. ويقول عن حكم البراءة الذي صدر عن المحكمة بعد الجلسة، “كان لديّ انطباع أنّ القاضي سيحكمني بغرامة، لكنني أجد اليوم أنّ القاضي الذي حاكمني كان عادلاً جداً فهو قد حكم بالحق”.

مقالات ذات صلة:

تهم من دون أدلّة تلاحق متظاهري الانتفاضة: المحكمة العسكريّة تعلن براءة “الجوكر”

“النيابة العامّة العسكريّة تدّعي على المتظاهرين من دون قراءة ملفّاتها”.. البراءة مجدّداً لناشطي 17 تشرين

دعاوى “معاملة قوى الأمن بالشدّة” ضد متظاهرين أمام المحكمة العسكريّة: هدر للمال العام

محامو لجنة الدفاع عن المتظاهرين: أيّ تصوّرات لدورهم ودور نقابتي المحامين؟

ممثّل النيابة العامة العسكريّة يطلب البراءة للناشط خلدون جابر: حكم يفضح تلفيق الأجهزة الأمنيّة التّهم ضد المتظاهرين

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، حريات ، أجهزة أمنية ، محاكم عسكرية ، قرارات قضائية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، انتفاضة 17 تشرين ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني