لم تحسم لجنة الخمسين لوضع الدستور المصرى الجديد حتى تاريخه المعركة الساخنة التى تدور بين هيئات قضائية على الاختصاص بالفصل فى قضايا التأديب(1)، وهو النزاع الذي تناولناه فى مقالنا السابق المنشور على موقع المفكرة القانونية بتاريخ 30 أكتوبر 2013. كما لم تفصل اللجنة فى مطالب القضاة من الدستور الجديد التي صاغوها فى نصوص قدمت للجنة الخمسين، بسبب المبالغة فى هذه المطالب، وبعضها ليس مكانه الدستور بل قانون السلطة القضائية. ورغم عدم حسم العديد من الخلافات التى تثقل كاهل لجنة الخمسين، وقد تعوق تقدمها، بدأت تلوح فى الأفق بوادر أزمة جديدة بين القضاة والمحامين هذه المرة، بسبب مواد المحاماة فى الدستور الجديد. فبينما يطالب القضاة لجنة الخمسين بأن تعرض هذه المواد على نادي القضاة لدراستها وإبداء الرأي بشأنها، يتمسك المحامون بحقهم فى نص دستوري يكرس استقلالهم في ممارستهم لمهنتهم، وهو ما يشكل حلقة جديدة من مسلسل الصراع المتجدد بين شركاء العدالة. فما هو التاريخ الحديث لهذا المسلسل، وما هو جوهر الحلقة الجديدة من هذا الصراع، وكيف يمكن تفادى التصعيد المحتمل لهذا الصراع؟
التاريخ الحديث للصراع بين القضاة والمحامين:
المناخ غير الودي السائد بين القضاة والمحامين لن يكون وليد مادة دستورية يرغب المحامون فى وضعها فى الدستور الجديد، هى ذاتها المادة الأولى من قانون المحاماة لسنة 1983، التى لم يعترض عليها القضاة أو غيرهم. لكنهم يعترضون عليها فى الدستور ويريدون إخضاعها للدراسة، ظنا منهم أنها تقرر حصانة للمحامين على غرار الحصانة القضائية، وأن وضعها في الدستور سيزيد المحامين قوة إلى قوتهم.
مسلسل الصراع بين القضاة والمحامين يتجدد فى كل مرة بمناسبة بعض الأحداث أو المواد القانونية أو الدستورية المقترحة. من ذلك حوادث الخلاف بين قاض ومحام، أو إعداد مشروع لتعديل قانون السلطة القضائية يتضمن موادا تمس حقوق المحامي، أو اقتراح مادة تخص المحامين فى مشروع الدستور. فالاحتكاكات الفردية بين القضاة والمحامين، إن كان يتم احتواء أغلبها، إلا أن بعضها يتطور بسبب مناصرة كل فريق للعضو المنتمى اليه، ويتحول الخلاف بالتالى إلى أزمة بين جناحى العدالة. مثال ذلك قبل ثورة 25 يناير 2011 الخلاف الذي نشأ بين اثنين من المحامين في الاسكندرية وأحد القضاة، وما حدث في طنطا بمحافظة الغربية من تعدي اثنين من المحامين على أحد أعضاء الهيئة القضائية. وبعد ثورة 25 يناير 2011، كان الانفلات الأمنى والأخلاقي سببا فى حدوث خلافات بين بعض المحامين النشطاء وأعضاء فى النيابة العامة بالاسكندرية.
أما مشروعات قوانين السلطة القضائية، فكانت سببا فى حلقات كثيرة من الصراع القديم المتجدد بين القضاة والمحامين، لعل أهمها ما حدث بعد ثورة 25 يناير 2011، عندما شكل رئيس مجلس القضاء الأعلى لجنة لإعداد مشروع قانون لتدعيم استقلال القضاء. وقد قامت اللجنة برئاسة القاضي السابق أحمد مكي بإعداد مشروع القانون، وبسبب بعض المواد المقترحة ثارت أزمة نتيجة التصريحات الغاضبة من الطرفين، ساهمت المزايدات الانتخابية والأجواء الثورية السائدة فى ذلك الوقت فى زيادة العنف الذي صاحبها، والذي تمثل فى غلق المحامين لقاعات المحاكم ومنع دخول القضاة إليها ومنع انعقاد الجلسات. ولم تهدأ هذه الأزمة إلا بعد الاعلان عن تأجيل إقرار المشروع المقترح حتى يتم انتخاب البرلمان. كان المشروع المقترح من القضاة ينص على أن المحامين من أعوان القضاء، خلافا لما يقرره قانون المحاماة، وتخصيص نسبة من الغرامات والكفالات المحكوم بها للقضاة، وفتح الباب للالتفاف على الشفافية فى تعيين أعضاء السلك القضائى، بالإضافة إلى تضمين المشروع نص المادة 18 الخاصة بجرائم الجلسات وسلطات القاضى بشأنها، وهو نص لم يكن مكانه الطبيعي قانون السلطة القضائية، خشي منه المحامون أن يكون سلاحا فى يد القضاة ضد المحامين الذين يختلفون معهم.
جوهر الخلاف الدستورى بين القضاة و المحامين :
الأزمة التى توشك أن توقظ الصراع بين جناحى العدالة سببها النص الذي يقترحه المحامون بخصوص مهنتهم، لضمان استقلالهم أثناء ممارستهم لها، فى مشروع الدستور الجديد وهو:"المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائية فى تحقيق العدالة وسيادة القانون، وتكفل حق الدفاع ويمارسها المحامون على سبيل الاستقلال".
هذا النص ورد بلفظه فى المادة الأولى من قانون المحاماة الصادر سنة 1983، ولم يعترض عليه أحد. والحق أن نص قانون المحاماة يحقق للمحامين أكثر مما يتضمنه النص الدستوري المقترح، فالفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون تنص على أن "يمارس مهنة المحاماة المحامون وحدهم في استقلال ولا سلطان عليهم فى ذلك إلا لضمائرهم وأحكام القانون"، لكنها الرغبة فى "الدسترة"، التى حذرنا منها مرارا وتكرارا، وهي رغبة قد يبررها أيضا تعسف بعض القضاة فى تعاملهم مع "زملائهم" المحامين.
وجاء دستور 2012 المعطل، فنص فى المادة 181 على أن "المحاماة مهنة حرة، وهي ركن من أركان العدالة، يمارسها المحامي فى استقلال، ويتمتع أثناء تأدية عمله بالضمانات التى تكفل حمايته وتمكينه من مباشرة هذا العمل، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون". وهذا النص بدوره لم يعترض عليه القضاة، وقد يبررون سبب عدم اعتراضهم على النص بأنهم كانوا يعترضون على هذا الدستور برمته، لأنه كان من وجهة نظرهم دستور "الاخوان"، ولم يكن دستورا لمصر.
أما النص المقترح من المحامين على لجنة الخمسين لوضع الدستور، فقد أثار القضاة وكان مناسبة لصدور تصريحات وتعليقات استفزت المحامين. طالب القضاة بأن ترسل لجنة الخمسين هذه المادة لدراستها فى نادى القضاة، لتحديد نوعية الحصانة التى ينادى بها المحامون. وصرح بعض القضاة بأن على لجنة الخمسين أن تستطلع رأي نادي قضاة مصر والمجلس الأعلى للقضاء بشأن ما يثار حاليا داخل اجتماعات اللجنة حول حصانة المحامين، وذلك لإجراء الدراسة الكافية حول جدواها وأثرها على مجريات سير العدالة، ومدى جواز مد مظلة هذه الحصانة إلى الطب الشرعي وخبراء وزارة العدل والصحفيين وضباط الشرطة، خاصة أن علاقة العمل بين القضاة والمحامين متشابكة ويتعين دراسة ذلك الأمر مع القضاة لاتصاله بطبيعة عملهم. وصرح آخر بأن حصانة المحامين تحتاج إلى دراسة وتمحيص ويجب عرضها على نادي القضاة، لأنه أمر يخص القضاة بصفة عامة.
والحق أن النص المقترح لا يشير إلى "حصانة" للمحامين بالمعنى الفنى الدقيق الذي تقصده الدساتير، عندما تقرر حصانة موضوعية لأعضاء البرلمان الذين لا يؤاخذون على ما يبدونه من آراء فى المجلس أو فى لجانه، أو حصانة إجرائية تتعلق بعدم جواز اتخاذ الاجراءات الجنائية ضد عضو البرلمان فى غير أحوال التلبس إلا بعد استئذان المجلس أو رئيسه. ولا يفهم من النص المقترح أنه يقرر حصانة للمحامى تماثل الحصانة المقررة للقضاة، وهي حصانة إجرائية ينظمها قانون السلطة القضائية، لا تعفى القاضى من المسؤولية عما ينسب اليه من سلوكيات يجرمها القانون. ولا يخفى أن المحامي يتمتع بحصانة موضوعية بالنسبة لجرائم القذف والسب أثناء دفاعه الشفوى أو الكتابى أمام المحاكم طبقا للمادة 109 من قانون العقوبات.
إن ممارسة المحامى لمهنته "على سبيل الاستقلال" ليس امتيازا للمحامى يعفيه من الخضوع للقانون أو من المسؤولية عما يرتكبه من سلوكيات يجرمها قانون العقوبات. وليس "الاستقلال" الذي يطالب به المحامون فى ممارستهم لمهنتهم هو حصانة تبرر لهم عدم الخضوع لقانون المرور إذا تجاوزوا السرعة المقررة قانونا أو تركوا سياراتهم فى الأماكن التى يحظر الانتظار فيها أو إذا كسروا إشارة المرور أو إذا أعفوا أنفسهم من ربط حزام الأمان أو قادوا سياراتهم عكس الاتجاه الذي يسمح بالمرور فيه. إننا نطالب بألا يتمتع أى مواطن، مهما علا شأنه وسمت مكانته، بحصانة عندما يخرق أى قانون من قوانين الدولة، وأيا كانت المهنة أو الوظيفة التى يمارسها. فمن خصائص وسمات الشعوب المتحضرة احترام الكافة للقانون.
الاستقلال المقصود في ممارسة مهنة المحاماة هو من مستلزمات المهنة الحرة التى يمارسها المحامى والتي ورد ذكرها فى صدر النص المقترح. فكل صاحب مهنة ينبغى أن يكون مستقلا فى ممارسته إياها، حماية لمصالح من يمثلهم وحفاظا على حرمة حياتهم الخاصة، أليس الطبيب مستقلا عندما يمارس مهنته الطبية؟ فكيف ننكر على من يمارسون مهنة المحاماة دون غيرها تمتعهم بالاستقلال فى أداء مهمة الدفاع عن موكليهم، وإذا لم يكونوا مستقلين فى ممارسة مهنتهم، فمن يتبعون؟ هل هم يتبعون القاضى الذين يترافعون أمامه أو ممثل النيابة عندما يحضرون التحقيق مع موكليهم؟
إن استقلال المحامى عندما يمارس مهنته ضرورة مهنية، لا تعنى حصانة من المساءلة القانونية إذا خرج على مقتضيات الواجب المهنى. كما أن استقلال القاضى عند الفصل فيما يعرض عليه من منازعات هو أيضا ضرورة مهنية ليس من مقتضياتها، و لا ينبغى أن يكون، تحصينه من الخضوع للقانون وفقا للضوابط المقررة . أليس مستغربا أن يعترض القاضى الذي يدافع عن استقلاله على مطالبة المحامى بالاستقلال عند ممارسته لمهنته؟
لا شك فى أن إنكار استقلال المحامى عند ممارسته لمهمة الدفاع عن موكله هو الذي يثير حفيظة المحامين، لا سيما إن صدر من قاض يطالب، ونطالب معه، بأن يكون مستقلا وأن ينتمي إلى سلطة تتمتع هى أيضا بالاستقلال. ولم يتأخر رد فعل المحامين، فقد أثار موقف القضاة من النص الدستوري المقترح، وهو ليس نصا مستحدثا، موجة عارمة من الغضب بين المحامين، ليست هي الأولى، وقطعا لن تكون الأخيرة.
بدأت موجة الغضب بالدعوة التى وجهها نقيب المحامين لعقد اجتماع طارئ بنقابة المحامين، عقد فى يوم 6 نوفمبر الجارى، لدراسة كيفية مواجهة محاولات الالتفاف على تلك المادة بلجنة الخمسين. وبدأت بوادر الأزمة بين نقيب المحامين ورئيس لجنة الخمسين باتهام النقيب للرئيس بأنه يحاول الالتفاف حول هذه المادة، وما تضمنته من استحقاقات المحامين، ضمانا لحق الدفاع الذي هو حق دستورى، وأن رئيس اللجنة لم يبد أي اهتمام بالنص المقترح. وأكد نقيب المحامين أن "الحصانة" التى يطالب بها المحامون لن يستفيد منها المحامي بقدر ما سيستفيد منها المتهم وستكون داخل الجلسة فقط وأثناء إجراءات التحقيق، وأن هذه الحصانة لا تماثل حصانة القضاة. وأن المحامين ليست لهم مطالب "فئوية"، ولا يطالبون بحصانات ممتدة ولكنهم يطالبون باستحقاقات دستورية. وأضاف نقيب المحامين بأنهم لن يسمحوا لأي أحد بأن ينال من حقوقهم، وأنهم لن ينساقوا خلف محاولات البعض جر المحامين إلى صراعات مع القضاة. لكنه توقع مع ذلك احتمالات الدخول فى صدامات خلال الأيام القادمة، بسبب ما يتعرض له المحامون من هجمات على حقوقهم الدستورية، والواضح أن هذه الصدامات سوف تطال لجنة الخمسين إذا استجابت لمطلب القضاة بعدم إدراج المادة المقترحة فى الدستور، كما أنها قد تتحول إلى صدام معلن بين القضاة والمحامين إذا أصر القضاة على مطلبهم أو قاوموا النص المقترح من المحامين.
ما هى الآفاق المستقبلية لوأد الفتنة الجديدة؟
ليس من الملائم ترك الفتنة حتى يستطير شرها، بل ينبغي العمل على وأدها فى مهدها. ولن يساعد على إنهاء هذه الازمة الانحياز إلى فريق ضد آخر، كما لوحظ فى بعض الكتابات التى نشرتها الصحف الصادرة صباح اليوم 7 نوفمبر لفقهاء قانونيين ودستوريين، يتحدثون عن القضاء وأعوان القضاء، مقررين أن "من أهم هؤلاء الأعوان المحامون، ولذلك يطلق على المحامين عبارة "القضاء الواقف"!
ولن يسهم فى وأد الفتنة عقد جلسات صلح بين الطرفين، أثرها فى الغالب تعميق الخلاف وزيادة حدة الأزمة. لقد طالبنا من قبل بضرورة تحسين العلاقة بين جناحى العدالة عن طريق معالجة الاسباب العميقة للعلاقة المتوترة بين القضاة والمحامين(2)، وقد يتطلب ذلك وقتا طويلا ولن تظهر ثماره إلا على المدى المتوسط إذا بدأنا فى العلاج من الآن. فمن قبيل التبسيط المخل الإدعاء بأن الأزمة بين القضاة و المحامين فى أى وقت فى الماضى أو الحاضر سببها نص مقترح فى مشروع دستور أو قانون، لأن النص المقترح يكون بمثابة الشرارة التى تفجر براكين الغضب المتراكم بين الطرفين. المطلوب إذا البحث عن أسباب تراكم الغضب ومحاولة علاجها، فالتشخيص الصحيح للأسباب والعوامل هو الطريق الأقصر للعلاج والشفاء.
ما هو مطلوب الآن هو دراسة النص المقترح من قبل لجنة الخمسين، وفى عضويتها قضاة وقانونيون محايدون، للوقوف على ملاءمة إدراج النص
المقترح فى الدستور. ولأنني أنتسب إلى مهنة المحاماة، يصعب عليّ إبداء الرأى فى هذا الخلاف. لكننى أحذر من ترك الأمر لأي من الطرفين المتنازعين كى يحسم بمفرده هذه القضية. الواجب إذا الاسترشاد بالسوابق الدستورية والقانونية الوطنية، وبالتجارب الدستورية فى الدول الأخرى، ثم يكون الأمر إلى لجنة الخمسين التى يجب عليها أن تحسم المسائل المعلقة كى ننعم بهذا الدستور المنتظر. نربأ بالقضاة أن يخوضوا معارك غير معركة استقلالهم وتحسين فعاليتهم، فهم سلطة من سلطات الدولة، تسود بقوة القانون، ولا ينبغى أن يكون بينهم وبين غيرهم خلاف، لأن الجميع يلوذون بعدلهم لحمايتهم من سيادة قانون القوة. ويكفي المحامين أن يتمسكوا بالنص الخاص بمهنة المحاماة فى دستور 2012 المعطل، ففيه الكفاية لضمان الاستقلال الذي ينشده المحامون. يجب على كل طرف من الأطراف المتنازعة على الفوز بنص أو مغنم فى الدستور الجديد أن يعي تماما أن إنقاذ الوطن من عثرته هو أهم من أي حصة، صغيرة كانت أو كبيرة، فى "التورتة الدستورية".
(1)صرح المتحدث باسم لجنة الخمسين بأن اللجنة لم تحسم هذا الخلاف انتظارا لاتفاق الهيئات المتنازعة فيما بينها، لأنه خلاف بين هيئات قضائية. و السؤال المطروح هو ماذا لو لم تتفق الهيئات المتنازعة ؟
(2)كريم الشاذلى و فتوح الشاذلى : الابعاد المسكوت عنها فى الأزمة بين القضاة و المحامين فى مصر، المفكرة القانونية 2011.