أشكال التعنيف في العمل من منظار علم النفس: “معنوي ومؤسساتي وتحرّش جنسي”


2019-08-20    |   

أشكال التعنيف في العمل من منظار علم النفس: “معنوي ومؤسساتي وتحرّش جنسي”

يواجه العديد من الموظفين والعمال ممارسات عدّة تؤثر على راحتهم في مكان العمل. وأبرز ظواهر المعاناة في مكان العمل هي تلك التي توضع تحت خانة “التعنيف”. والتعنيف الذي نقصده هو الذي يتفرّع منه ثلاثة أشكال تُعدّ من الأكثر انتشاراً في بيئة العمل وهي: التحرّش الجنسي والتعنيف المعنوي والتعنيف المؤسساتي.

وغالباً ما تكون إنتاجية الموظف مرتبطة بمدى ارتياحه لبيئة العمل التي يتواجد فيها بشكل يومي (ستة أيام أسبوعياً/ثماني ساعات يومياً، بحسب ما هو شائع في لبنان). ولعل بيئة العمل السليمة تتطلب وجود عناصر أساسية: الحماية والأمن الوظيفي، التقدير المعنوي والمادي، والراحة الجسدية والنفسية. إنما قد تغفل إدارة بعض المؤسسات واجباتها في هذا المجال، أو ربما تتعمّد إرساء بيئة عمل غير سليمة تتأتّى من “التعنيف” بأشكاله الثلاثة.

في إطار إلقاء الضوء على أوجه التعنيف في العمل وفهمها، ولطرح هذا الموضوع كإشكالية هامة في قضايا حقوق العمال، قابلت “المفكرة القانونية” الدكتورة هلا كرباج الطبيبة المتخصصة في الأمراض العقلية والنفسية والباحثة في علم النفس، للاستفادة من تجاربها في التعامل مع العمال الذين يقصدون عيادتها للعلاج من تداعيات التعنيف على نفسيّاتهم.

المفكرة: ما هو تعريف التحرّش الجنسي في العمل من وجهة نظر الطب النفسي؟ ومن هم ضحاياه؟

كرباج: التحرّش الجنسي هو شكل من أشكال التعنيف في العمل، له أوجه عديدة أبرزها: اللمس غير المرغوب فيه، التعرّض الجسدي للفرد بطريقة جنسية، أو الرسائل والاتصالات الهاتفية في غير محلها، والنظرات غير المريحة، والتحرش اللفظي. وقد يتفاقم التحرّش فيصل إلى حدود الابتزاز الجنسي مقابل ترقية مثلاً، وإن رفضت الضحية العرض تصبح معرّضة للطرد أو للتعنيف المعنوي والتهديد المستمر. وهناك العديد من الممارسات الأخرى التي يُمكن أن توضع في إطار التحرّش الجنسي.

وتُشير غالبية الدراسات إلى أن ضحايا التحرش الجنسي نساء، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد ضحايا من الرجال، إنما لا تزال النسبة الساحقة للتحرّش الجنسي من النساء. وغالباً ما يكون المتحرّش جنسياً شخص ذي رتبة وظيفية أعلى من الضحية.

المفكرة: ما هو التعنيف المعنوي، من هم ضحاياه؟ ما هي إشاراته ومظاهره؟

كرباج: يُعدّ التعنيف المعنوي psychological harassment من أكثر أشكال التعنيف في العمل تعقيداً، وذلك بسبب صعوبة إثباته أو توثيقه. وكما التحرّش الجنسي، فغالباً ما يُمارسه من هم في موقع سلطة وأصحاب نفوذ في مكان العمل على موظف أو موظفة من درجة وظيفية أدنى.

وأوجه التعنيف المعنوي الذي يتعرض له الموظف عديدة منها: التحطيم المعنوي، عدم إشعار الموظف بالرضا عن عمله، الطلب منه أداء مهام متناقضة، عدم تقدير جهوده. وهناك إشارات أخرى تُشكل نوعاً من التعنيف وتحدث شفهياً: توجيه الكلام المسيء للموظف واستخدام العبارات القاسية معه، وإحراجه أمام زملائه.

وغالباً ما يتم توجيه نقد للموظف بشكل يتخطّى المهنية، إذ ينتقد المدير شخص الموظف، بالقول له “أنت لا تصلح للقيام بالوظيفة”، بدلاً من الإشارة إلى موقع الخطأ الذي ارتكبه الموظف والطلب منه تحسين أداء معيّن.

هذه الإشارات للتعنيف المعنوي تنسحب أيضاً على نوع آخر من الممارسات، مثل “الطلب من الموظف بشكل متكرر القيام بمهمة معيّنة عند انتهاء الدوام، أو بعد الدوام وأيام العطل من دون تعويض عن ساعات العمل الإضافية”.

المفكرة: ما هي تداعيات التعنيف المعنوي على الموظف والشركة؟

كرباج: يستغرق الموظف المعرّض للتعنيف المعنوي بداية وقتاً لاستيعاب ما يحصل معه. وينعكس التعنيف عليه بشكل سلبي، إذ يشعر بأنه غير مؤهّل لأداء وظيفته، ويفقد ثقته بنفسه، ويشعر بحالة ضياع، ويشعر أنه مقصر دائماً بعمله، ويحمّل نفسه مسؤولية ما يحصل معه. ويشعر بالإحباط الشديد، وينتج عن ذلك ضعف التركيز خلال العمل. كما لتداعيات التعنيف عوارض اكتئابية أيضاً، ينتج عنها فقدان الوزن، والتعب اليومي، والإرهاق النفسي. وغالباً ما يخلط الموظف (الضحية) بين حياته الشخصية والمهنية. فيذهب إلى المنزل مثقلاً بهموم الوظيفة، وترتد هذه العوامل على حياته العاطفية وعلاقته بعائلته، وذلك بسبب عدم قدرته على الفصل بين العمل والحياة الخاصة، Inability to Disconnect.

من جهة ثانية، فإن للعنف المعنوي تداعيات اقتصادية واجتماعية. فإن ما يشجع الموظف على العمل وزيادة الإنتاج هو الشعور بأن عمله معترف به ومقدّر ويقلّ الإنتاج عندما يتدنى الشغف بالعمل ويتراجع الشعور بالانتماء إليه، وهي عوامل أساسية لزيادة الإنتاج.

بالنتيجة، فإن الشركة تتأثر بحصول العنف المعنوي بين موظفيها، لناحية تراجع الإنتاج، كما تتأثر الصورة الإجتماعية للشركة إن علمت بحصول عنف معنوي ولم تتعامل معه بالشكل المناسب.

المفكرة: لماذا يتأثر الموظف بعوامل التعنيف؟

كرباج: يتأثر الفرد حالما تتعرض حاجاته الأساسية للانتهاك. وهذه الحاجات يعبر عنها هرم ماسلو للحاجات Maslow’s Pyramids of Needs وفقاً لنظرية عالم النفس أبراهام ماسلو عن الدافع البشري الفطري في شتى ميادين الحياة. وحاجات الإنسان الأساسية، وفقاً لماسلو، هي التالية: (1) حاجات فيزيولوجية كالطعام والماء والنوم؛ (2) حاجات الأمان، أي السلامة الجسدية والأمن الوظيفي؛ (3) الحاجات الاجتماعية كالانتماء إلى أسرة وجماعة؛ (4) الحاجة للتقدير مثل تحقيق المكانة الاجتماعية وكسب الاحترام؛ (5) الحاجة لتحقيق الذات.

المفكرة: ما هي الحلول المقترحة للتعامل مع التعنيف؟

كرباج: تحتاج مواجهة التعنيف إلى أنظمة عمل ترعى حماية الموظف، وقوانين تعاقب التعنيف في العمل بكافة أنواعه، كما إلى بعض الجهود الشخصية.

أولاً، على المؤسسة أن تؤمن بيئة عمل سليمة تُجنب حدوث أفعال كهذه كأن تعقد بشكل مسبق اجتماعات لتوجيه الموظفين حول التعنيف في العمل بكافة أنواعه (التحرش الجنسي، والتعنيف المعنوي). وعلى المؤسسة أن تؤمّن إطاراً حمائياً للموظف، ومرجعاً يتمكّن من العودة إليه لأجل الشكوى. فعلى المؤسسات التي تسعى لزيادة الإنتاجية التفكير في إرساء بيئة عمل مريحة، وإشعار الموظف بالأمان والحماية والولاء للعمل، وكلّها عناصر أساسية لمصلحة المؤسسة.

وثانياً، على الصعيد القانوني، هناك دول عديدة وضعت قوانين تحمي من العنف في العمل وخاصة العنف المعنوي، مثال فرنسا Harcèlement Moral au Travail. لذا فإن التعنيف المعنوي يجب أن يكون معاقباً عليه بالقانون، ومجرّماً. وفي حال غياب هذه القوانين ننصح الموظف باستشارة محام.

ثالثاً، على الصعيد الشخصي، لا سيما في حالة العنف المعنوي، على الموظف أن يعي ما يحصل معه، وأن يفهم الإشارات ويحللها. وعليه بشكل أساسي ألا يحمّل نفسه هذه المسؤولية، وألا يسعى لإثبات نفسه ووضع جهود كبيرة لتغيير الوضع. نعم، هناك بعض التقنيات التي يمكن تدريب الموظف عليها لحماية نفسه، قد ننصحه بالتجاهل واستبدال الأفكار، ولكنها تبقى حلولاً مؤقتة، لأن الموظف (ضحية العنف) يحتك بشكل يومي بهذا المعنّف، فالأخير هو السبب المباشر لتحطيم شخصيته، ومصدر قلقه اليومي.

من الحلول الممكنة أن يرفع الموظف المعنّف معنوياً شكوى إلى الإدارة قد تُساعده في حال تعرُّض آخرين  للتعنيف المعنوي من الشخص نفسه. فغالباً يحاول المعنّفون التفرقة بين الموظفين في حال كان هناك أكثر من ضحية. لذلك إذا ازدادت الشكاوى من الشخص نفسه (المُعنِّف)، قد تقود للوصول إلى حل.

وبما أنّ الوضع الاقتصادي الصعب لا يسمح دائماً بتغيير العمل، فعلى الموظف أن يحاول بداية التكلّم عن معاناته وأن يتقدم بشكوى ويُحاول أن يجد مناصرة من زملائه في العمل. وفي حال استنفذ جميع هذه الوسائل ولم يجد في المؤسسة أو في القانون أي سبيل لمعالجة وضعه، أو إن اختار ألا يلجأ إلى هذه الطرق لسبب ما، أو استحال إيجاد حلول لمشكلته، ننصحه بتأمين عمل آخر. فترك العمل يكون حلاً لأن شخصية المُعنّف لا يمكن تغييرها والتعامل معه بشكل يومي يؤدي إلى إرهاق واكتئاب ويرتد الأمر على صحة الموظف. ومن الأفضل أن يوظّف الأخير الجهود التي يريد بذلها في مقاومة المعنّف في مكان آخر له تأثير إيجابي على حياته، كبداية جديدة بعيدة عن مصادر قلقه.

وبشكل عام، صحيح أن ترك العمل ليس بالأمر السهل، إلّا أننا إذا أردنا مقارنة العنف في العمل مع العنف العاطفي، فهما متشابهان، وفي كلتا الحالتين ننصح بالترك (ترك العمل/ترك الشريك المعنّف).

على المقلب الآخر، تتشابه أساليب مواجهة التعنيف المعنوي مع أساليب مواجهة التحرش الجنسي. ففي كلتا الحالتين، تحتاج الضحية إلى الحماية القانونية والمؤسساتية. بالإضافة إلى أنّ عليها أن تتمتّع بالإرادة والشجاعة للتكلّم عن الموضوع أمام الأشخاص القادرين على مساعدتها. وغالباً ما تخشى ضحية التحرش الجنسي من اللوم وعدم تصديق روايتها. وفي بعض الأحيان يمكنها أن تستفيد من القوانين التي تعاقب على هذه الأفعال. ولكن في ظروف أخرى، يكون المتحرّش هو صاحب العمل، لذلك قد يكون من غير الآمن الاستمرار في العمل بخاصة عندما يبدأ الأمر بالتأثير بشكل عميق على وضعها النفسي.

المفكرة: هل من مثال على حالة من هذا النوع؟

كرباج: إحدى الحالات التي عملت معها والتي ارتبطت بالعنف المعنوي، كانت لموظفة في مدرسة تتعرض لعنف معنوي من رئيسها المباشر، ووصلت بها الحال إلى اكتئاب مستمر وانخفاض في الوزن. الوضع الاقتصادي حال دون إمكانية تركها العمل، فهي معيلة لأسرتها، لذلك نصحناها بتقديم شكوى لإدارة المؤسسة، ليتبيّن أنها ليست الوحيدة، وأن هناك زملاء معها في العمل يعانون من العنف المعنوي من الشخص نفسه. في هذه الحالة، ارتأت المؤسسة ألّا تخسر مجموعة من الموظفين لأجل موظف يعنّفهم، فطردته من العمل. من هنا نجد أن التعاون بين الموظفين كان مهماً جداً.

المفكرة: التعنيف المؤسساتي، ما هو؟

كرباج: العنف المعنوي والتحرش الجنسي ليسا العناصر الوحيدة التي تُشكل المعاناة في العمل، فهناك العنف الذي يخرج عن الطابع الشخصي، والذي يتمثل بالتعنيف المؤسساتي Institutional Harassment. وهذا العنف له علاقة بشروط العمل، مثلاً العاملات في الخدمة المنزلية يتعرّضن للعنف المؤسساتي بسبب سوء شروط العمل المسؤول عنها نظام الكفالة. فالعاملة مجردة من أية حماية قانونية، أو معنوية كما أنها لا تتقاضى راتباً عادلاً. وليس لها خصوصية في مكان العمل ولا في السكن، فهي تسكن في مكان العمل ومع صاحب العمل.

ومهما كان صاحب العمل يُحسن معاملة العاملة في الخدمة المنزلية، إلا أن ذلك لا يحميها من العنف المؤسساتي.

المفكرة: ما هي مقومات بيئة العمل السليمة؟

كرباج: بيئة العمل السليمة هي المكان الذي يرى فيه الموظف نفسه قادراً على الإنتاج، وهي تتألّف من عناصر عدة أهمها: احترام دوامات العمل، احترام الرواتب، منح فرص سنوية مدفوعة، تأمين التغطية الصحية، التعويض عن الصرف.

وتزدهر الإنتاجية في المؤسسات التي تؤمّن مساحات عمل مريحة، نذكر منها: كراسي مريحة للمكاتب، أماكن للراحة، أماكن لاستراحة الغذاء. أيضاً، فإن المؤسسات التي تؤمن مساحات للترفيه وللقيلولة تُشعر الموظف أن المؤسسة التي يعمل فيها هي مكان يؤمن السعادة.

من جهة أخرى، يشعر موظفو المؤسسات التي تتشدد أقل في قواعد العمل بولاء أكبر لها من المؤسسات التي تتشدد أكثر. وقد أثبتت الدراسات أن التوقيع أو البصمة عند الدخول والخروج من الدوام، يقللان الشعور بالانتماء والولاء للعمل، لأنهما يُشعران الموظف أنه لا يزال في المدرسة. ولكن بكل الأحوال، فإن الأمر يعتمد أيضاً على إدراك الموظف لأهمية عمله، وأسلوبه في تحديد أولوياته.

بالنسبة لدوام العمل، نرى أن الحد الأقصى يجب أن يكون ثماني ساعات في اليوم أو 40 ساعة في الأسبوع، مع العلم أن بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا اتجهت إلى تخفيض ساعات العمل إلى 35 ساعة أسبوعياً، ودول أخرى إلى 20 ساعة. لكن القضية ليست بخفض ساعات العمل عن ثمان وأربعون ساعة، إنما أكثر بعناصر بيئة العمل السليمة، وتجدر الإشارة إلى أن تحديد ساعات العمل لا يعود للطب النفسي تحديده.

وبالطبع، على الموظف عندما ينتهي دوامه ويخرج من المكتب أن يخرج كل الأفكار المتعلقة بالوظيفة من رأسه، وأن يفصل نفسه عنها بالحدود التي يراها مناسبة، مثل أن يقرر عدم تلقّي اتصالات عمل بعد الدوام. والأهم أن يعرف حقوقه، وفي المقابل، على صاحب العمل أن يحترم هذا الأمر.

  • نشر هذا المقال في العدد | 61 |  تموز 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني