أحمد بن صالح وتجربة التعاضد: السّير الأعرج وراء مزمار بورقيبة


2020-11-17    |   

أحمد بن صالح وتجربة التعاضد: السّير الأعرج وراء مزمار بورقيبة
أحمد بن صالح رفقة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة . صورة لفيليب لو تيلير نشرت سنة 1954‭ ‬ في مجلة باريس ماتش الفرنسية.

لم يكن أحمد بن صالح، الشاب الثلاثيني المنحدر من مدينة المكنين (محافظة المنستير) والحاصل على الأستاذية في العربية من فرنسا والمعروف بأنشطته النقابية، يتوقع أن عقدا كاملا من تاريخ تونس المعاصر (ستينات القرن العشرين) سيرتبط باسمه وأفكاره في التخطيط والاقتصاد، وسيمضي ذاك العقد أيضا بإنزاله من مركز النفوذ وإرساله إلى الهامش، سجينا ثم منفيّا وغريبا عن وطنه.
في سنة 1954 انتُخِب أحمد بن صالح أمينا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل, ورغم أنه كان من مناصري الرئيس بورقيبة في معركته ضد صالح بن يوسف، فإن “المجاهد الأكبر” كان يتوجس من تعاظم القوة النقابية وتزايد شعبية زعمائها، وفي مقدمتهم بن صالح. لذلك استحضر بورقيبة براعته في “شق الصفوف” دون ترك بصمات الإستعداء، وانتهى الأمر بتغذية الإنقسام داخل البيت النقابي وإزاحة بن صالح من الأمانة العامة لاتحاد الشغل. ولكن بورقيبة لم يذهب بعيدا في خيار إقصاء بن صالح نهائيا من المشهد السياسي بل استدرجه إلى عَرينه مجددا، وقلّده وزارة الصحة سنة 1957.
كانت العودة السريعة إلى الحضن البورقيبي مقدمة لفصل جديد في حياة النقابي المغضوب عليه. فقد شهدت السنوات اللاحقة تأثيرا مُلفتا لأحمد بن صالح في إدارة الدولة وتطويع آلة الحزب الحاكم لتصوراته الاقتصادية والاجتماعية، مُبديا خصالا كبيرة في الإقناع والمناورة والسيطرة على الآخرين، ومستفيدا من دعم بورقيبة ومَديحِه. وفي الوقت الذي كان فيه أحمد بن صالح يسعى إلى معانقة انتصار الفكرة والمخطّط، كان الزعيم منشغلا بالاستفادة من أفكار بن صالح للحفاظ على سلطته وتشديد قبضة الدولة على مفاصل الحياة والمجتمع، وهكذا سارا معًا إلى حين…

بن صالح: المنقذ من “الضّلاَل الاقتصادي”
خلال السنوات الأولى التي عقبت إعلان الاستقلال، لم تُفلح نخب الحكم الجديدة في صياغة مقاربة اقتصادية منسجمة مع حاجيات مجتمع أنهكته عقود الاستعمار ويتطلع إلى مصير أقل شقاءً. لقد مالت الكفة بعيد 1956 نحو نزعة ليبرالية غير مدروسة، لم تستطع كبح حالة الإنهيار والتفكك الهيكلي التي تركتها سفن المعمّرين العائدة إلى أوروبا. وخلال السنوات الفاصلة بين 1956 و1959 وقع تغيير وزراء الاقتصاد أربع مرات. ضمن هذا المسار المتعثر، كان أحمد بن صالح الأكثر استعدادا لتحريك البِرك الاقتصادية الراكدة والدفع بأفكار الهيكلة والبرمجة والتخطيط، مستفيدا من البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي كان يتولى أمانته العامة.
كان أحمد بن صالح يردّد أن المناضل ليس في حاجة لانتظار وقوع الأحداث دون محاولة التأثير في مجراها، وإن لزم الأمر الإلتزام بخطة فوقية من أجل تغيير الأوضاع، إذ جاء في أحد حواراته: “أليس من الأفضل أدبيا لمناضل أن يلتزم بتغيير الأوضاع والثورة على ما فسد منها وإن لزم من فوق، ليدفع بمجتمعه في اتجاه التقدم طبقا للخطة الموضوعة أو بالعكس أن ينتظر وقوع الأحداث انتظار المتفرج”. وقد تَناسَب هذا الحماس مع غياب رؤية اقتصادية رسمية، ومع حاجة السلطة البورقيبية إلى مقاربة جديدة تشدّها إلى المجتمع وتضفي عليها مشروعية القدرة على البناء. وخلال السنوات الفاصلة بين سنة 1957 و1968 مرّ أحمد بن صالح على خمس وزارات؛ الصحة، والشؤون الاجتماعية، والتخطيط والمالية، والاقتصاد، والفلاحة، والتربية القومية، وقد لقّبه رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق إدقار فور بـ”وزير كل شيء”.
كان واضحا أن اقتصاد الدولة الخارجة حديثا من الاستعمار المباشر أصبح بيد الشاب النقابي المدعوم من بورقيبة، الذي سيدفع بفكرة التغيير الاجتماعي والاقتصادي المرتكز على خمسة مبادئ: التخلص من الاستعمار، النهوض بالإنسان، التنمية الجهوية، إصلاح البُنى، التخطيط. وقد كانت تجربة التعاضد التي سيتم تدشينها في بداية الستينات إطارا ستنتظم داخله أفكار بن صالح وانكساراته أيضا، فقد مثّلت بالنسبة إليه مدخلا حقيقيا للتأسيس لإصلاح زراعي يتجاوز تشتت الملكيات العقارية ويتدارك العجز الذي تعانيه الفلاحة التونسية، ويؤسس لتوازن تنموي جديد بين الجهات والمناطق. لذلك، اتجه المشروع نحو تشكيل الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي، والتي ستشهد تزايدا بداية من أواسط الستينات، وقد نَسجَ حولها بن صالح آمالا عريضة إلى حد اعتبارها مشروعا يؤسّس لـ”مجتمع جديد”.

خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال، فشلت نخب الحكم في صياغة مقاربة اقتصادية منسجمة مع حاجيات مجتمع أنهكه الاستعمار.

التعاضد المشحوذ بحماسة الزعيم
كانت تجربة التعاضد تسير على وقع البلاغة البورقيبية، التي أضفت على المسألة بعدًا وطنيا مقدسا ورفعت مُهندسَها أحمد بن صالح إلى مقام الأبطال المُخلّصِين. وقد قبل الجميع –نخبا وجمهورا-بالتجربة تحت منطق الإمتثال لكاريزما الزعيم بورقيبة وجبروته. وقد انصهر داخل التجربة الجديدة ثالوث الزعيم والحزب والدولة، فأصبحت الاشتراكية منذ سنة 1963 راية جديدة للحزب الدستوري، الذي أصبح يطلق على نفسه “الحزب الاشتراكي الدستوري”. وفي تلك السنة، أعلن بورقيبة من دون مواربة نهاية عهد استقلالية المنظمات الوطنية، آمرا جميع الفعاليات المدنية والسياسية بالإنخراط في التجربة، الأمر الذي جعل الاشتراكية الدستورية تتقدم على “أرض خالية من التسامح والتداول والتعاون”. فقد أعلن بورقيبة تسخير كل النفوذ والمقدرات لفائدة قادة الحزب الحاكم وأعضائه، من أجل إنجاح التجربة.
رغم أن بن صالح كان يردد دائما أنه لم يقبل ممارسة السلطة دون توضيح الأفكار التي سيعتمدها في تنفيذ مهامه، إلا أنه لم يفلح في الوقوف أمام التيار السلطوي الجارف الذي سعى إلى الذهاب بالتوظيف الدعائي والسياسي للتجربة إلى أقصاه. كما أنه لم يستطع أيضا التغلب على مناوئيه ومترصدي الزلات والكبوات. وهكذا جاء قرار تعميم التعاضد الذي اتخذه بورقيبة في أواخر 1968 من دون استشارة بن صالح، ليعبّد الطريق نحو الإجهاز نهائيا على تجربة التعاضد في سنة 1969 وإزاحة مهندِسها نهائيا عن دوائر الحكم. وخلال حواراته اللاحقة، سعى بن صالح إلى تأكيد عدم رضاه على قرار تعميم التعاضد الذي اتخذه بورقيبة، لأنه كان عشوائيا في نظره ولم يستند إلى دراسات ميدانية تُوضّح الأوضاع التي بلغتها التجربة، مشيرا إلى أنه كان يدافع عن خيار التقدم النسقي والمدروس في تركيز الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي. وقد قال إنه رفض في الكثير من الأحيان تدشين وحدات تعاضدية جديدة، كان يقف وراءها مسؤولون جهويون في الحزب والدولة.
رغم أن بن صالح نأى بنفسه عن قرار تعميم التعاضد وأبدى معارضته له بشكل أو بآخر، فإن التجربة منذ البداية كانت تخطو ضمن خط السير السلطوي، وكانت مدفوعة بنزعة فوقية ساهمت في الكثير من الأحيان في ضرب استقلالية التعاضديات وتهميش الفاعلين الحقيقيين داخلها على غرار صغار ومتوسطي الفلاحين، مما جعل هذه المؤسسات المستحدثة تتحول إلى “مجرد هياكل فلاحية خاضعة لمركزية السلطة السياسية من وزارات إشراف وولاة ومعتمدين”.

رغم أن بن صالح كان يردد دائما أنه لم يقبل ممارسة السلطة دون توضيح برنامجه، إلا أنه فشل أمام التيار السلطوي الذي اعتمد أقصى التوظيف الدعائي والسياسي للتجربة.

عندما يمدح بورقيبة أحد وزرائه…
في الوقت الذي كان فيه أحمد بن صالح يستمرئ شكر بورقيبة وتمجيده له، محاولا الاستفادة من دعم الرئيس وقدرته الفائقة على التأثير والإقناع، كانت بعض دوائر الحكم تستقبل هذا المديح باستياء وسخط شديدين، وتتطلع إلى أحمد بن صالح بوصفه “بورقيبة الصغير” الذي يسعى إلى احتلال المواقع وافتكاك المساحات السياسية والرمزية. لذلك كانت الإطاحة بتجربة التعاضد مدخلا للإطاحة بصاحبها وإزاحته من المشهد. وقد سعى المناوئون إلى استغلال بعض الحركات الاحتجاجية الناهضة ضد تعميم تجربة التعاضد على غرار أحداث منطقة الوردانين، التي اندلعت في 27 جانفي 1969 ولجأت السلطة السياسية إلى قمعها عبر التدخل الأمني الذي خلّف قتيلا وعددا من الجرحى، وقد ظل بن صالح ينظر إلى تلك الأحداث بوصفها “نزاعات عائلية” ولا تعبّر في اعتقاده عن رفض شعبي لتجربة التعاضد، في حين اتخذها أعداؤه حجة على إفلاس سياسته الاشتراكية.
في خريف 1969 استقبل أحمد بن صالح مكالمة هاتفية من الرئيس بورقيبة يعلمه فيها أنه أقاله من منصبه كوزير للاقتصاد، مقترحا عليه الاستمرار على رأس وزارة التربية القومية. ورغم أن بورقيبة حاول التلطيف من وقع القرار مستعرضا الأمر –كعادته-بوصفه ضرورة للحفاظ على التوافق بين أجنحة الحكم، إلا أن بن صالح كان مدركا أن أعداءه “سيذهبون بعيدا ضده” على حد تعبيره، وأن المكائد التي تَحسّسَها بعد مرض الرئيس سنة 1967 أصبحت تحمل شكل الوقائع الملموسة. وقد ذهب أحمد بن صالح في اعترافاته اللاحقة إلى أن جبهة الأعداء لم تشمل فقط السياسيين والمقربين من الرئيس بورقيبة، بل شهدت انخراط بعض القائمين على الأجهزة الأمنية، على غرار مدير الأمن الوطني في تلك الفترة، الذي سعى إلى تحريض السكان ضد سياسة التعاضد. وفي الوقت الذي سُحِب منه الإشراف على الاقتصاد تلقى بن صالح عروضا بالمغادرة والانسحاب من المشهد المحلي، إذ اقترح عليه الحبيب بورقيبة الابن أن يذهب سفيرا إلى مدريد. ولكن يبدو أن تطلعات وسيلة بورقيبة، زوجة الرئيس، كانت الأقرب إلى التنفيذ، إذ همست لرئيس الحكومة آنذاك الباهي لدغم، قائلة “قبل أن يغادر بن صالح، عليه أن يمرّ أوّلاً بـ”دار خالتو” (أي السجن)”. وبالفعل سِيق أحمد بن صالح إلى المحاكمة بتهمة “الخيانة العظمى” لتُصدر في شأنه المحكمة العليا في 19 ماي 1970 حكما بالسجن والأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، مع تجريده من حقوقه السياسية، ولكن بن صالح تمكن في فيفري 1973 من الفرار من السجن والسفر خلسة إلى الجزائر، ثم إلى أوروبا.
بعد محنة السجن والتصفية السياسية ثم المنفى، ظلّ بن صالح متمسكا بفكرة “إفشال التعاضد” وليس “فشل التعاضد”، معتبرا أن الاعتماد المطلق على بورقيبة قادَه إلى حتفه، وملخصا خطأه الكبير على هذا النحو: “لم أرتكب أخطاءً بحق شعبي ولكنني ارتكبتها ضد نفسي، لأنني نشأت على احترام قادتي ومن يكبرني سنّا”.

 

نشر هذا المقال بالعدد 19 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بين زمنين

لقراءة المقالة مترجمة إلى اللغة الانكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، مؤسسات عامة ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني