أجمل الأحكام 2010: القضاء يعلن بهدوء حقوقا أساسية


2011-04-20    |   

أجمل الأحكام 2010: القضاء يعلن بهدوء حقوقا أساسية

خلال العام المنصرم، أعلن القضاء بهدوء كلي وبعيدا عن الاعلام عددا من الحقوق الأساسية. وقد بدا القضاء من خلال ذلك وكأنه يغلب مفهوم “الحق” على سائر الاعتبارات السياسية أو الطبقية، في مواقف يستدل منها نية واضحة في اداء دور ريادي، بل في مقاومة المساعي الآيلة الى تجريده من هذا الدور. وعدا عن أهمية المضمون، فاننا نلحظ أصولا مميزة في التأويل. وهذا ما سيسعى هذا المقال الى عرضه:
حق التعليم ومبدأ التناسب:
وقد جاء ذلك في الحكم الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في طرابلس جناح عبيد بتاريخ 12-4-2010. فعلى خلفية امتناع بعض المدارس الخاصة عن تسليم افادات مدرسية للتلامذة الذين يتخلف أولياؤهم عن تسديد الأقساط المتوجبة عليهم، أصدر القاضي عبيد أمرا للمدرسة بوجوب تسليم افادتين مدرسيتين لتلميذين رغم تخلف أوليائهما عن تسديد الأقساط المتوجبة، وذلك تحت طائلة تسديد غرامة اكراهية قدرها مئتي ألف ليرة لبنانية عن كل يوم تأخير. فاذا اعترضت المدرسة المعنية مطالبة بحماية حقوقها المادية “المشروعة”، أصدر القاضي نفسه في 12-4-2010، قرارا له مفعول القرار المبدئي في تكريس دور القضاء في اعلان الحقوق الأساسية ومعها في الموازنة بين الحقوق والمصالح المتنازعة وفق أهميتها. وقد تم ذلك من خلال حيثيات ثلاث تكمل الواحدة الأخرى:
الأولى، ومفادها أن استحصال التلميذ على الافادة المدرسية أمر ملازم لحقه بالتعليم، طالما أن من شأن حرمانه منه أن يحول دون تسجيله في مدرسة أخرى، وأن يؤدي تاليا الى تسربه.
الثانية، أن حق التعليم هو حق دستوري، بقدر ما هو التزام دولي. فعدا أن هذا الحق ورد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، فقد اكتسب القوة الدستورية بموجب مقدمة الدستور وفق اجتهاد المجلس الدستوري. كما اشار الى تكريس هذا الحق في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل والتي صادق لبنان عليها. وبالطبع، من شأن هذا الأمر أن يفتح الباب واسعا أمام اجتهادات أخرى قد تصدر في حالات أخرى، كالزام المدارس الرسمية بقبول أطفال حتى ولو لم يكونوا حائزين على شروط الانتساب كالجنسية، طالما أن حق الطفل بالتعليم ليس وقفا على جنسية الطفل.
الثالثة، وهي تتمة للخطوتين السابقتين. فبعدما بين سموّ حق التعليم في المنظومة القانونية، بات من الممكن بالنسبة اليه أن يعلن عدم جواز المس بهذا الحق بحجة الحفاظ على حق هو حكما اقل قيمة وقدرا، كحق تحصيل قيمة الأقساط. لا بل ذهب القاضي الى حد دعوة المدرسة الى ضمان حقوقها بوسائل مشروعة. فبذلك أعلن القاضي أن وظيفته تفرض عليه، ليس فقط تقويم الاجراء بحد ذاته (قانوني أو غير قانوني)، انما أيضا  تقويمه من حيث انعكاساته على ممارسة الحقوق الأخرى. فالاجراء المتخذ حماية لحق معين يصبح غير قانوني، ليس فقط اذا كان هنالك نص قانوني يمنعه صراحة، ولكن أيضا اذا رأى القاضي أنه يؤول الى المس بحق يسمو عليه من حيث قيمته القانونية. ومن هذا المنطلق، يشكل الحكم مؤشرا اضافيا على تكريس مبدأ التناسب في لبنانوهو المبدأ القاضي بأن يكون اي اجراء لضمان حق معين متناسبا مع الانعكاسات الناجمة عنه على صعيد حقوق الغير. فلا يجوز التعرض لحق بالغ الأهمية (حق دستوري مكرس لاعلان العالمي لحقوق الانسان) ضمانا لحق أقل أهمية (الحق بتحصيل قيمة الأقساط المدرسية). وبالطبع، يشكل تكريس هذا المبدأ، في حال تحوله الى اجتهاد مستقر وراسخ، انجازا قضائيا في اتجاه تكريس الدور الريادي للقضاء في اعلان الحقوق وتقويمها والموازنة فيما بينها ونقضا جديدا للتوجه المحافظ في حصر دوره في خدمة القانون.
وما يؤكد هذه الوجهة، هو أن القاضي أصر على اعلان موقفه من قانونية هذا الاجراء على اساس الموازنة المشار اليها أعلاه. فاذا انتهى من ذلك، وفقط بعدما انتهى من ذلك، عمد الى استخراج حجج اضافية من القوانين المعمول بها من شأنها التأكيد على النتيجة نفسها (الفقرة “ب” من المادة العاشرة من القانون رقم 515 تاريخ 6-6-1996 التي تحظر على إدارة المدرسة صراحةً، في حال وجود نزاع قضائي بينها وبين أحد أولياء التلامذة، اتخاذ أي إجراء بحق الأولاد بسببه). وكأنما ترتيب حيثياته على هذا الوجه انما يهدف الى اسناد حكمه على حقوق طبيعية راسخة كما هي حال الحقوق الواردة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وليس على نص وضعي قانوني يمكن تغييره بارادة المشرع في اي حين.
اخراج حق التبني من دائرة احتكار الطوائف:  
وقد صدر هذا القرار بتاريخ 15-6-2010 عن المحكمة الابتدائية في جديدة المتن، برئاسة القاضي جوني قزي، بناء على استدعاء تقدم به زوجان عقدا زواجا مدنيا للحصول على قرار قضائي يسمح للزوج بتبني ابن زوجته من زواج سابق. وقد بين الزوجان في استدعائهما أن المحكمة الروحية (سريان أرثوذكس) قد رفضت النظر في طلب مماثل على خلفية أنها غير مختصة للنظر في الاستدعاء المذكور طالما أن القانون حصر صلاحيتها للنظر في طلبات التبني عند وجود زواج ديني. وتاليا، ما عسى المحكمة المدنية أن تفعل؟ هل ترد هي الأخرى الاستدعاء على اساس أن المسألة تدخل ضمن مسائل الأحوال الشخصية الخاضعة حصرا لاختصاص الطوائف، وأن صلاحيتها في هذه المسائل تقتصر على المنازعات الناشئة عن الزواج المدني المعقود في الخارج دون سواها، على نحو يجرد المتزوجين مدنيا من امكانية التبني لغياب أي مرجع قضائي صالح؟ أم تعمد الى توسيع صلاحيتها فتعد التبني من ضمن المنازعات الناشئة عن الزواج المدني، على نحو يكرس حق المتزوجين مدنيا بالتمتع بحقوق متساوية للمتزوجين دينيا في هذا المجال؟ وبالطبع، الحل الأول يؤدي الى توسيع حدود صلاحية الطوائف فيما الحل الثاني (وهو الذي انحازت اليه المحكمة) يؤدي الى توسيع حدود الحياة المدنية، بحيث يكون للأشخاص مزيد من الحظوظ لتنظيم حياتهم ولاكتساب حقوق معينة من دون اللجوء الى الطوائف.
وهنا نسجل أن المحكمة قد فسرت المواد القانونية ذات الصلة، ليس من خلال مضمونها، انما قبل كل شيء، من خلال الأبعاد الاجتماعية لما قد تحتمل من معان. وهذا ما يتحصل من الأسئلة الاجتماعية التي طرحتها المحكمة حول ما أسمته “التفويض الطوائفي”. فهل هو “مطلق مفعولا ومدى أو نسبي واقعا وتكييفا، بحيث أنه اذا استحال على المواطن اللبناني أن يجد حلا لموضوع عائد لأحواله الشخصية أمام المرجع الديني المختص بفعل النص، فماذا يفعل؟ هل يفقد حقه اللصيق بشخصه كانسان في المداعاة تثبيتا لحقوقه وصيانة لعائلته؟ أم يكون له في هذا المجال أن يراجع امام القضاء المدني الذي يستعيد صلاحياته في هذا المجال، بعدما سدت الأبواب أمام المراجعة الدينية، طالما ان الحق بالتقاضي يشكل مبدأ أساسيا، بل ركيزة راسخة في قوانين الأصول المدنية، ولا مجال أن نتصور ولو للحظة، امكانية حرمان اي فرد منه”. لا بل أن المحكمة ذهبت في حيثية أخرى أبعد من ذلك في اتجاه قياس تأثير التفسير الذي تعتمده على مصلحة الطفل. فمن شأن رد الطلب “أن يسحب على الطفل وضعا نفسيا سيئا واضطرابا عائليا واجتماعيا وازدواجية مرضية بين واقع يعيشه بفرح واطار قد ينأى عنه بحسرة”. وهكذا، فان تفسير المادة على نحو يؤول الى رد الدعوى انما يؤدي ليس فقط الى نتائج عبثية على صعيد حق التقاضي انما أيضا على صعيد مصلحة الطفل. فيما أن النتائج الاجتماعية الايجابية للتوسع في صلاحية المحكمة انما “ترسخ الاقتناع” بذلك.
وهكذا بدت المحكمة حريصة على قراءة القانون وتفسيره على ضوء الأحوال الاجتماعية ومصلحة الناس، على نحو يعزز الحياة المدنية بمنأى عن الايديولوجيات والهواجس الطائفية. وهي بذلك رسخت اجتهادها السابق في هذا الإطار (القرار رقم 34/2007 تاريخ 8-2-2007)
وأهم ما في الأمر، هو أن المحكمة المذكورة أصدرت هذا القرار في وقت كان رئيسها يتعرض فيه لسيل من الانتقادات على خلفية الحكم الذي أصدرته في قضية سويدان، في اتجاه توسيع شروط اكتساب الجنسية عن طريق الأم اللبنانية، وهي انتقادات تخللها كم هائل من اعتبارات التوازن الطائفي. وقد تكللت هذه الانتقادات بفسخ الحكم أمام محكمة الاستئناف، وبنقل رئيسها في التشكيلات القضائية الى منصب مستشار في محكمة التمييز. فاذا به من خلال هذا الحكم (الذي بات مبرما وتم تنفيذه) يعلن تصميمه على المضي قدما في اجتهاده.
حق المعرفة لذوي المفقودين:
خلال العام 2009، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن قرارين في الدعويين التي أقامتاها جمعيتان ممثلتان لهؤلاء لاتخاذ تدابير حمائية في المقبرتين الجماعيتين في مقابر مار متر والشهداء في حرج بيروت، وذلك بهدف تصوير المحاضر المتصلة بهما في ملف التحقيقات التي أجرتها اللجنة المعينة من مجلس الوزراء في 2000. وعلى ضوء المستندات المذكورة، واذ أصر ذوو المفقودين على وجوب اجراء تحقيقات اضافية، أصدر القاضي نفسه خلال العام 2010، قرارين اعداديين آخرين بتعيين خبراء لاجراء تحقيقات اضافية تحديدا لموقعي المقبرتين. وبذلك، عزز القاضي موقفه الداعم لحق ذوي المفقودين في المعرفة (عن هذه الأمور، يراجع مقال نائلة جعجع، وذوو المفقودين يلجؤون الى القضاء أيضا، منشور في هذا العدد).
الحرية الشخصية في مواجهة الاحتجاز التعسفي:
هنا، نبلغ احدى القضايا التي شهدت تضامنا قضائيا دفاعا عن اللاجئين في مواجهة المديرية العامة للأمن العام. فعلى خلفية استمرار المديرية في احتجاز الأجانب ومنهم اللاجئين بعد انتهاء محكومياتهم، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في جديدة المتن ميراي حداد في 28-1-2010 ثلاثة احكاما أخرى عد فيها الاحتجاز مخالفة صارخة للدستور وأمر بالافراج عن ثلاثة لاجئين عراقيين آخرين فورا. ومن اللافت أن هذه القرارات قد جاءت لتؤكد فحوى الحكم الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في زحلة سينتيا قصارجي في 11-12-2009 بعد الدولة معتدية على حرية لاجئة عراقية (يسرى العامري) استمر احتجازها على هذا الوجه، وأنها جاءت بعد عشرة ايام فقط من الضجيج الاعلامي الحاصل بنتيجة تنفيذ هذا الحكم، والذي أعلن فيه المدير العام للأمن العام السابق أن الضباط ارتأوا أن القاضي قصارجي لا تفهم ماذا تفعل. كما نسجل في الاتجاه نفسه الحكمين الصادرين عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن في 8-6-2010 واللذين آلا ليس فقط الى تثبيت الاعتداء على الحرية انما أيضا الحكم بسلفة على حساب التعويضات عن العطل والضرر الناجمين عن هذا الاعتداء. ومن اللافت أن هذين الحكمين قد صدرا رغم انشاء لجنة وزارية للنظر في أوضاع الأجانب المنتهية محكومياتهم، ورغم تقدم الدولة بطلب خطي بالتريث ببت الدعوى حتى انتهاء اللجنة من مهامها. واذا استأنفت الدولة القرارين المذكورين، فان محكمة الاستئناف قررت في 3-11-2010 رد طلب وقف التنفيذ لانتفائه أسبابه القانونية.
وبذلك، خط القضاء توجها اجتهاديا في الدفاع عن الحرية الشخصية. فعلى الدولة أن تثبت سببا للتوقيف، والا يكون التوقيف اعتداء. أما أن تنكر على الأجانب حقهم بالحرية رغم انتهاء عقوبتهم للدخول خلسة أو لعدم تجديد الاقامة بحجة أن الأمن العام لم يمنحهم حق اقامة، فهو بمثابة اشتراط الحرية بسند يعطي الأمن العام وتاليا قلب للمبدأ رأسا على عقب.
حق اللجوء:
أجمل الأحكام في هذا الاطار، الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن طانيوس السغبيني في 17-5-2010 والآيل الى وقف التعقبات الجزائية في وجه لاجئ عراقي لرفضه تنفيذ حكم قضائي بالترحيل بعد انتهاء محكوميته، بعدما حصل هذا الأخير على بطاقة صفة لاجئ من مكتب الأمم المتحدة المختص.  فالاخراج من البلاد يصبح والحالة تلك متعارضا مع صفة اللجوء ومع الحيثيات التي تمنع الاخراج من البلاد وفقا للشرع التي تم ادخالها في النظام القانوني اللبناني (والمقصود بالطبع هو المادة 3 من اتفاقية مناهضة التعذيب التي تمنع ترحيل اي شخص الى بلد قد يتعرض فيه للتعذيب أو تتعرض فيه حياته للخطر..). لا بل أن الحكم المذكور ذهب على سبيل الاستفاضة أبعد من ذلك بحيث رأى أن رفض اللاجئ تنفيذ قرار ترحيله مبرر بمبدأ الضرورة: فعلى فرض أن هذا الرفض يشكل جرما، فانه يكون مبررا طالما أنه ضروري لتجنب الضرر الكبير الذي قد يلحق باللاجئ في حال عودته الى العراق. ومن هذا المنطلق، يشكل الحكم الحالة التطبيقية الأولى لحالة الضرورة في قضايا اللجوء. وللأسف، ورغم ابلاغ الحكم بوقف التعقبات والافراج عن اللاجئ للمديرية العامة للأمن العام، فان هذه الأخيرة قد ضربت الأحكام القضائية عرض الحائط فعمدت الى ترحيله قسرا بحجة أن لبنان ليس بلد لجوء.

نشر هذا المقال في العدد صفر من المجلة الدورية للمفكرة القانونية. بامكانكم الاطلاع على المجلة كاملة هنا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الصحة والتعليم ، المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مجلة لبنان ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، عدالة انتقالية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني