أبعد من قضية “شربل خوري”، متى تكفّ النيابات العامة عن “التوقيف التعسفي”؟ وكيف؟


2020-02-25    |   

أبعد من قضية “شربل خوري”، متى تكفّ النيابات العامة عن “التوقيف التعسفي”؟ وكيف؟

أمس، تم استدعاء الناشط شربل خوري إلى مكتب جرائم المعلوماتية على خلفية تصريحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة تغريدة تناول فيها د. شربل قرداحي، مستشار الوزير السابق جبران باسيل. حصل الاستدعاء بناء على شكوى من قرداحي الذي اعتبر أن التغريدة التي جاء فيها "دكتور إ.." تتضمن شتما وقدحا بحقه. وإذ رفض خوري التوقيع على تعهد بعدم التعرض مجددا كما رفض إزالة التغريدة كونها تدخل وفقه ضمن حرية التعبير، تمّ توقيفه وإحالة الملف إلى القضاء. تفاعل الشارع مع هذه القضية بعدما اعتبر أنها شاهد جديد على استهداف الناشطين وكمّ الحريات، وبخاصة أن قرار التوقيف صدر عن النائبة العامة الاستئنافية غادة عون المقربة من العهد ومن التيار الوطني الحر.

بعد ساعات من ردود أفعال واسعة، تمّ إطلاق سراح خوري بعدما أسقط قرداحي عن شكواه عنه وفق ما صرح به على تويتر. وإذ تردد أن إسقاط الحق حصل بطلب من النائب العام التمييزي غسان عويدات الذي كان لجأ إليه وكلاء خوري لكسر إشارة عون، أكّدت عون في اتصال مع "المفكرة" أن عويدات لم يتصل بها قط وأن الإفراج حصل تبعاً للإسقاط. وقد أصدرت لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين بيانا أمس رأت فيه أن معركة الحريات العامة سجّلت انتصارا أمس بعدما أدّت إلى تحطيم عرف سائد بتوقيع التعهدات مقابل استعادة الحرية.

وتعليقا على ذلك، يهمنا توضيح الآتي:

 

أولا، التوقيف في قضايا القدح والذم تعسفي محض

أن التوقيف في قضايا القدح والذم من قبل النيابة العامة غير قانوني لأنه يتعارض مع المادة 107 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنع التوقيف في الجرائم التي لا تتجاوز العقوبة فيها سنة حبس. ومن المعلوم أن القدح ضد شخص عادي لا تتجاوز الثلاثة أشهر وفق المادة 584 من قانون العقوبات. وهذا الأمر ثابت سواء حصل التعهد أم لم يحصل. فأن يرفض المشكو منه إزالة تغريدته لا يعني إطلاقا تكرارا للجرم ولا اعترافا به، بل تمسكا بأنها تدخل ضمن حرية التعبير، وهو أمر يعود للمحكمة وحدها صلاحيّة البتّ فيه. بمعنى أنه في هذه الحالة يكون بإمكان النيابة العامة أن تقرر الإدعاء في حال رفض التعهد، من دون أن يكون لها بحال من الأحوال أن تعتبر الجرم حاصلا أو أن تتملص من حظر التوقيف المقرر قانونا، وأنها لو فعلت خلاف ذلك فإن تصرفها يصبح بمثابة توقيف تعسفي وسوء استخدام للسلطة.

لا يرد على ذلك أن للنيابة العامة أن تستبقي المدعى عليه موقوفا لدواعي التحقيق، طالما أنّه ليس في هذه القضايا (وبخاصة في ظل إقرار المدعى عليه بتصريحه) أي حاجة إضافية للتحقيق وأن عون كانت أحالت أصلا الملف إلى القضاء، مما يؤكد أنها أنهت تحقيقاتها في القضية. ففي هذه الوضعية، لا يكون لها أو لسواها من النيابات العامة أن يقرروا توقيف الشخص ولو لساعة إضافية واحدة.

كما لا يرد على ذلك أن من مهام النيابة العامة ضمان احترام القانون وأنه ليس بوسعها أن تبقى في موقع المتفرّج على انتهاك كرامات الناس وبخاصة كبار المسؤولين، طالما أن دورها وما يمكنها أو لا يمكنها فعله يتحدد على ضوء الصلاحيات المعطاة لها قانونا، وبمعزل عما تراه مناسبا أو غير مناسب. أما أن تمارس النيابة العامة صلاحياتها بما يتجاوز هذه الصلاحيات، فذلك يشكل انخراطا منها في مخالفة القانون بحجة ضمان احترامه. وهذا الأمر ينطبق عليه إذ ذاك المثل الشعبي: "حاميها حراميها".

ويجدر أخيراً لفت النظر إلى أن النيابة العامة دأبت في حالات أخرى على استخدام سلطتها لتقييد حريات المواطنين بأشكال ملتوية وغير مبررة. ومن أبرز ممارسات النيابة العامة في هذا المجال، أن تعمد إلى إبقاء الأشخاص قيد الانتظار في المخافر لساعات طوال قبل بدء التحقيق معهم، بما يشكل قصاصا وعقابا لهم، أو أن تعمد إلى تضخيم سند الادعاء بحيث تكون عقوبة الجرم المدعى به أكثر من سنة حبس. ولا يخفى أن هذا الأمر يشكل بدوره إساءة استغلال سلطة فاقعة.

 

ثانيا، اشتراط التوقيع على التعهد، هذا الطقس الثقيل

الأمر الثاني الذي نستشفه من هذه القضية هو استمرار طقوس "التعهدات"، وقوامها إلزام المشكو منه على التعهد بعدم التعرّض مجددا للجهة المشتكية. هذا التعرّض يُفيد من وجهة نظر النيابات العامة إعادة الأمور إلى نصابها، بحيث تتم مقايضة الإفراج عن المشكو منه أو على الأقل الادعاء عليه بما يشبه إقرارا منه بأنه أخطأ وبأنه لن يفعل ذلك مستقبلا. من هذه الزاوية، تتحول النيابة العامة إلى أداة لفرض تسوية قوامها منع الخروج عما تعتبره قواعد أدب في التعامل بين الناس تحت طائلة الادعاء وأو التوقيف.

والإشكال الذي يتأتى عن هذه الممارسة مزدوج. فالموافقة على التعهد- التسوية لا تحصل طوعا، طالما أنها تتمّ في مخفر حيث يكون المشكو منه في وضعٍ يقارب الاحتجاز، من دون أن يكون بإمكانه التواصل مع محام أو أي أحد. وغالبا ما يصل الضغط إلى درجة تضعف لديه فيها أي قدرة على المقاومة. فضلا عن ذلك، يصل التعهد إلى ما يقارب الطقس حين يتصل بمقام سياسي أو ديني. ففي هذه الحالة، وعدا عن التهويل والتخويف الذي قد يحصل في المخفر لأن المشكو منه تجرأ على المس بمقام (وهذا ما تم توثيقه في حالات عدة)، فإنه غالبا ما يُصوّر له أن التعهد شرط ليس فقط لتركه بل أيضا لتجنب الادعاء عليه بجرائم جد خطيرة قد تصل حد الجناية كإضعاف الشعور القومي أو إثارة النعرات الطائفية أو ضرب المقدسات… الخ.

ومن هذه الزاوية، تشهد وظيفة النيابة العامة تحوّلا أساسيا، بحيث تنتقل من مهمة "فرض الأدب" إلى مهمة فرض الإذعان لنظام المقامات وترميم أيّ مس يكون قد حصل في بنيانه بنتيجة تجرؤ البعض عليه. وبالعاميّة، تصبح مهمة النيابة العامة الأساسية في هذه الحالة التصدي لكل من "يكبّر راس". وهذا هو بالضبط ما حصل أمس.

 

ثالثا، نظام المقامات نظام تمييزي

أخيرا، تشكل قضية خوري شاهدا آخر على نظام المقامات الذي تتولى النيابات العامة المقربة منهم أو المحسوبة عليهم ضمان هيمنته في فترات عزّه وترميمه في فترات الانحدار، كما يحصل منذ نشوب ثورة 17 تشرين. شاهد آخر يضاف إلى سلسلة من القضايا التي وصلت إلى مستويات سريالية كقضيتي عدنان فرحات حين تعرض للسيد نبيه بري في النبطية وقضية بشارة الأسمر حين تعرض لذكرى البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله صفير. ومن شأن استمرار هذه الممارسة أن يؤدي إلى تكريس التمييز بين المواطنين على أساس المنصب بما يخالف أساس الديمقراطية التي هي المساواة التامة فيما بينهم.

 

انطلاقا من كل ذلك، وبالنظر إلى فداحة هذه الأخطاء، ومنعا لتكرارها،

فإنه يجدر بالنيابة العامة التمييزية، التي اعتادت مؤخرا على مقاربة هذه القضية بالمفرّق تحت ضغط الشارع، أن تبادر لوضع تعميم يوجه لجميع النيابات العامة يضمن تطبيق القانون بشكل سليم ومن دون أي تمييز، وذلك بهدف معالجة ثلاثة أمور هي الآتية:

  • عدم جواز توقيف أي كان في جميع الدعاوى التي لا تزيد عقوبتها عن السنة سندا للمادة 107 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، طالما أن الإخلال بهذه المادة يشكل استغلالا للسلطة وتوقيفا تعسفيا بما لهما من تبعات قانونية خطيرة،
  • عدم جواز مطالبة أي مشتبه به أو مدعى عليه بتوقيع تعهد من أي نوع كان داخل المخفر طالما أن التعهد لا يشكل بحد ذاته إجراء تحقيق وأنه لا يمكن تبريره بنية التسوية، طالما أن التعهد في هذه الظروف ومن دون محام يبقى تعهدا قسريا تنتفي فيه إرادة المشكو منه، هذا عدا عن أن بعض التعهدات هي بطبيعتها منافية للقانون أيا كانت ظروف توقيعها كالتعهد بالامتناع عن انتقاد الشخصيات العامة أو المؤثرة مثلا أو إبداء الرأي في قضايا شأن عام أو ما شابه،  
  • وجوب احترام المساواة التامة بين المواطنين أمام القانون، مع الامتناع الكلي عن أي تمييز في مقاربة الملفات على أساس المنصب أو الثراء أو ما شابه.

وإذ يدخل إصدار هذا التعميم في صلب صلاحيات النيابة العامة التمييزية، فإن وزارة العدل تتحمّل هي الأخرى مسؤولية الضغط لإصداره ولا سيما أنها تعهدت ضمن البيان الوزاري للحكومة على "التنسيق مع النيابات العامة التمييزية لوضع سياسة جزائية عامة يتم على أساسها إعطاء توجيهات إلى النيابات العامة كافة، وترتكز بصورة خاصة على حماية الحريات العامة والحقوق الأساسية لا سيما حق التعبير والتظاهر… واستبعاد التوقيف الاحتياطي بحيث يتم حصره في حالات الضرورة القصوى".

فلنجهد لإستصدار تعميم مماثل… فمجرد صدوره يوفر عليها معارك كثيرة ويفتح كوة لا يستهان بها في نظام المقامات المتهاوي.

 

مقالات ذات صلة:

نظام المقامات في لبنان

قضية المس بذكرى البطريرك الراحل: تطييف قضايا العمال تمهيدا للإنقضاض عليها والتشدد في حماية مقام البطريرك تحصينا لكل مقام

تجلّ جديد لنظام المقامات في لبنان: الاتهام بالضعف يُواجه ب "قنبلة" وتسليم الفاعل بشرط الإفلات من العقاب

قرار رائد لمطبوعات بيروت في قضية حماية الآثار: "لا يستقيم عدالة وقانونا إدانة من يصوّب على الفساد والخلل بشكل موضوعي"

 ابن النبطية الذي انتفض ضدّ زعيم طائفته حرّاً: العدالة الخاصة من خارج القانون ومن خلاله

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني