مثل الصحافي آدم شمس الدين  بتاريخ 11/4/2019 أمام الحاكم العسكري في جبل لبنان في الإدعاء الموجه ضده من قبل مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس بتحقير موظف عام خلال ممارسته لوظيفته (المادة 386 قانون عقوبات). حصل ذلك على خلفية نشر شمس الدين عبر صفحته الخاصة على فايسبوك إنتقادا لممارسات جهاز أمن الدولة التي تنطوي على انتهاكات فاضحة للقوانين لاسيما لناحية تسريب التحقيقات الأولية لديه، وهو ما حصل تباعاً في قضية الممثل زياد عيتاني وقضية “صانع الأوشام“.  وسبق أن صدر بحق آدم، في هذه الدعوى، عن الحاكم العسكري أنطوان الحلبي حكم غيابي بالسجن ثلاثة أشهر، في ظل رفض حضور المدعى عليه “لعدم تبليغه أوراق الدعوى وفقاً للأصول القانونية”، وهو الحكم الذي جوبه بانتقادات واسعة.

وقد اتخذت قضية شمس الدين مساراً لافتا بعد إعادة المحاكمة في إثر اعتراض وكيل شمس الدين المحامي أيمن رعد على الحكم الغيابي، وتقدّمه بمذكرة محورها إعتبار القضاء العسكري غير مختص للبت في قضية شمس الدين. وقد حددت جلسة أولى في الدعوى بتاريخ 4/4/2018، حيث توجّه رعد إلى المحكمة من دون شمس الدين، عملا بالأصول العادية عند تقديم دفوعا شكلية وانطلاقاً من كون الإدعاء الموجه ضد هذا الأخير هو جنحة عقوبتها أقل من سنة. إلا أن الحلبي إمتنع عن البت حتى بالدفوع الشكلية، مشترطاً حضور شمس الدين إلى المحكمة للسير بالملف، وحدد تاريخ 11/4 موعداً لمتابعة النظر في الدعوى.

اليوم حضر شمس الدين إلى المحكمة، وقد امتلأت قاعتها بقضايا عديدة. بدأ الحلبي بالبت في الدعاوى واحدة تلو الأخرى إلى أن أعلن عن “إستراحة”. خلال مدة الإستراحة، دخل العميد حسن العبدالله ليجلس بدلاً من الحلبي على قوس المحكمة، ليتبين أن الحلبي قد تنحى عن النظر في الدعوى وأن العبدالله هو الذي سيقوم بذلك بدلاً عنه.

بدأت الجلسة بتلاوة التهمة المسندة إلى شمس الدين، ليسأله العبدالله عن تعليقه. أجاب شمس الدين أنه “كمواطن وكصحافي ساهمت بكشف انتهاكات ارتكبت فعلاً، لهذا السبب لا يوجد في كلامي أي تحقير”. سأل العبدالله عندها:” أنت كتبت على مواقع التواصل الإجتماعي ولم يكن ما كتبته عملاً صحفياً”، تمييزيظهر أن شمس الدين لا يعطيه أي أهمية، بحيث أجاب أنه “إستخدمت مساحة خاصة للقيام بواجب”. والواجب بالنسبة لشمس الدين، كما يظهر من كلامه أمام المحكمة، لا يمكن أن يخضع إلى تقسيمات حاسمة تفصل بين أدبياته كفرد وأدبياته كصحافي، لا بل إن رفض هذا الفصل يستدعي التكريم لا العقوبة. تماماً بهذا المعنى خاطب شمس الدين العبدالله قائلاً: “حضرتك نزفت دما في أرض المعركة، ليس لكي تأتي عناصر أمنية وتشوّه هذه التضحيات (يقصد انتهاكات عناصر أمن الدولة)”.

يتلافى العبدالله هذا، ويسأل: “هناك أمر إستفزك وحدك لتكتب عن الخبر؟ ما الذي إستفزك أنت تحديداً؟ نشر المعلومات حصل لكي ترى الناس الذين زاروا صالون الحلاقة بحال مرضوا (أصيبوا بعدوى الإيدز)”. سؤال القاضي يحمل في طياته نفس الوصمة التي يعاني منها المتعايشون مع فيروس الإيدز، والتي إستخدمت لتبرير إنتهاكات عناصر أمن الدولة وإفلاتهم من العقاب. وقد ردّ شمس الدين على ملاحظة القاضي:” إستفزني الظلم، أكثر الأشخاص ضعفاً يلاحق من قبل أكثر الأشخاص قوةً، هذه الإنتهاكات مكررة ومثلها حصل في قضية زياد عيتاني”.

إلى ذلك إستهل رعد مرافعته الشفهية بالقول “أنا لا أدافع اليوم عن آدم شمس الدين، أنا أدافع عن حرية الرأي أولاً، بل واجبه بكشف مكامن الخلل في المؤسسات العامة وحتى العسكرية منها”. وما أن تعرّض رعد إلى مضمون الستاتوس موضوع الملاحقة، لناحية كونه يتعلق بمخالفات من بينها ملف عيتاني، حتى قاطعه القاضي طالباً “عدم التطرق لموضوع آخر غير البوست”. وهو أمر تكرر كلّما ذكرت قضية عيتاني، على الرغم من كونها جزءاً لا يتجزأ من البوست موضوع الإدعاء، والأهم من الإنتهاكات التي مارستها عناصر أمن الدولة التي شكّلت موضوع إنتقاد شمس الدين لها.

يضيف رعد: “للتذكير فإن الرئيس بيتر جرمانوس قد إدعى  منذ يومين على جهاز أمني بجرم خرق سرية التحقيق وكشف أسماء متهمين، أي بنفس الجرم الذي تحدّث عنه آدم”. فعاد العبدالله وقاطعه بالقول أن “هذا الأمر ضمن صلاحياته (جرمانوس)”. يلحظ أن رعد ذكّر أيضا بنص المادة 387 عقوبات، والتي تنص على تبرئة المدعى عليه في حال وقع الذم على موظف وثبتت صحة ما يقوله.

انتهى رعد إلى المطالبة بالبت بالدفوع الشكلية، وفي حال قبول الدعوى في الشكل، إعلان براءة شمس الدين. أما شمس الدين، فطلب “التهنئة”، بالإضافة إلى البراءة، طلب يعيدنا إلى قوله أنه أدى واجبه، وأداء الواجب لا يقابل بالعقوبة، إنما الذين يفترض معاقبتهم هم الذين “يشوّهون تضحيات” من يقوم بواجبه.

المفاجأة ظهرت هنا، بعد إنتهاء جلسة الإستجواب التي إتضح أنها لم تكن سوى مشهدية أرادتها المحكمة. يقول العبدالله: “تطلبون البراءة، ألا تريدون إعلان المحكمة عدم إختصاصها؟” هنا، ردّ رعد أنه ينتظر قرار المحكمة لناحية الدفوع الشكلية التي تقدّم بها. يعلن العبدالله: “قررنا أن نعيد الملف إلى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ليحيلها إلى الجهة المختصة، فالمحكمة غير مختصة بالنظر في هذه القضية”.

هكذا، انقلب قرار الحاكم العسكري من تجريم وحبس لمدة 3 أشهر لصحافي على خلفية ستاتوس كتبه على فايسبوك، إلى إعلان عدم صلاحية، بعد تغيّر القاضي. بكل الأحوال، فإن إختصاص المحكمة يتعلق بالنظام العام، وعلى المحكمة إثارته حتى لو لم يتمسك به أطراف الدعوى.

كما يلحظ أنّ إعلان قرار المحكمة حصل على القوس، خلافاً للعرف لدى المحكمة العسكرية حيث تصدر القرارات بعد انتهاء الجلسات في نفس اليوم. لكنه بكل الأحوال، شكل خاتمة رنانة للمشهدية التي أرادتها المحكمة. بالمقابل، خلا إعلان القرار من أي تعليل. يوضح رعد للمفكرة أن المحكمة أعلنت عدم صلاحياتها إنطلاقاً من إجتهاد سارت عليه المحكمة الدائمة مؤخراً باعلان عدم إختصاصها في دعاوى حرية التعبير.

ختاما، يسجّل أن الإصرار على حضور شمس الدين رغم تعارض ذلك مع أصول المحاكمات الجزائية قد استغله هذا الأخير عن المبدأ الذي تمسّك به منذ اللحظة الأولى: “عدم محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية، وحق المواطن بالمراقبة وتوجيه الإنتقاد”.يقول شمس الدين في حديث مع المفكرة بعد الجلسة أن “المسألة هي أولاً اختصاص المحكمة، وهذا موضوع مبدئي لا مواربة حوله بالنسبة لي، وفي حال كان هناك جرم مرتكب ضمن خانة حرية التعبير فمكانه الطبيعي هو المحكمة المدنية حتى لو كان النقد موجها لجهة عسكرية”. يضيف  شمس الدين: “يبدو أن هناك قاعدة لديهم (المؤسسة العسكرية) أن أي إنتقاد مهما كان مضمونه يعتبر تحقيرا، وما أردت قوله هو أن الأمر ليس كذلك، فلو كان كل انتقاد تحقيرا أين يصبح دور المواطن بالمراقبة والمحاسبة والمطالبة بحقوقه؟” ينتهي شمس الدين بالقول أن “هذه الملاحقات تتكرر مع المواطنين، وأيضاً مع الصحافيين، لكن الصحافيين محظوظون كون مهنتهم تتيح لهم ايصال الصوت، وهو ما يساعد أن ترتدع المحكمة عن إتخاذ قرارات بحقهم، أنا استفدت في نهاية المطاف من ميزتي المهنية، ولكن ما حصل معي يجب أن يسهم في عدم ملاحقة المدنيين أمام العسكرية، والاعتراف أن الانتقاد المحقّ لا يشكل تحقيرا”.

يسجل أخيرا أن النائبة بولا يعقوبيان كانت تقدمت باقتراح قانون (أسمته اقتراح آدم) لرفع يد المحكمة العسكرية عن محاكمة المدنيين.

مقالات ذات صلة: