أصدرت المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب يوم 24 مارس 2022، أمراً قضى بضرورة البتّ في طلب قدّمه لها مواطن تونسي ضدّ التدابير الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيّد. وكان المحامي التونسي محمد بلغيث لجأ بتاريخ 25 أكتوبر 2021 إلى المحكمة الأفريقية مُعتبرا أنّ “رئيس الجمهورية قد ألغى الدستور والمسار الديموقراطي واستولى على السلطات بطرق غير قانونية” بسبب اتخاذه التدابير الاستثنائيّة. وقد شدد بلغيث أنّ المراسيم المتخذة منذ 25 جويلية 2022 انتهكت حقوقه كإنسان وحقّ الشعب التونسي في تقرير المصير والحقّ في المشاركة في إدارة شؤون الوطن، الحق في اللجوء إلى القضاء… إلى جانب انتهاك مواد عدة من المواثيق الإفريقيّة.
قبل المضي في النظر في حظوظ قبول هذا الطلب، يجدر التذكير بواقع هذه المحكمة القاريّة والدعاوى السابقة المقامة ضد دولة تونس أمامها.
التقاضي أمام المحكمة الأفريقيّة لحقوق الإنسان والشعوب: حقّ أتاحه الانتقال الديمقراطي
المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب هي محكمة قارية أنشأتها البلدان الأفريقية لضمان حماية حقوق الإنسان والشعوب في القارّة، بموجب المادّة الأولى من بروتوكولالميثاقالأفريقيلحقوقالإنسانوالشعوب. وهي تختصّ بالنظر في كافة القضايا والنزاعات التي تقدّم إليها والتي تتعلّق بتفسير وتطبيق الميثاق والاتفاقيات الأفريقية الأخرى المتعلّقة بحقوق الإنسان.
يشار إلى أنّ المصادقة على البروتوكول المنشئ للمحكمة الأفريقية لا تكفي من أجل اللجوء إليها مباشرة، بل يجب أن تودع الدول المصادِقة الإعلان الذي يعترف باختصاص المحكمة الاستثنائي في تلقّي القضايا من قبل المنظمات غير الحكومية والأفراد ومجموعات الأفراد.
هذا ما جعل معظم البلدان الافريقيّة تصادق على البروتوكول دون إيداع الإعلان، أو تودع الإعلان ومن ثمّ تسحبه على خلفيّة رفع قضايا ضدّها على غرار تنزانيا، رواندا، الكوت ديفوار والبنين.
في 16 أفريل 2017 وبفضل الانتقال الديمقراطي، اكتسب التونسيّات والتونسيون إلى جانب الأفراد والمنظمات غير الحكوميّة الحقّ في التقاضي أمام المحكمة الأفريقيّة لحقوق الإنسان والشعوب، بعد استنفاذ سبل التقاضي على المستوى الوطني. لتصبح بذلك تونس من ضمن الدول الأفريقيّة القلائل التي تتيح اللجوء مباشرة للمحكمة الأفريقيّة وهي تعدّ خطوة هامة لحماية حقوق الإنسان في تونس ومكافحة الإفلات من العقاب.
التقاضي الأفريقي: وسيلة ضغط أم ممارسة للحقّ؟
ليست المرّة الأولى التي تكون فيها الدولة التونسية مدّعى عليها أمام المحكمة الأفريقية لحقوق الانسان والشعوب. في الواقع، تمّ اللجوء في السابق لهذه المحكمة في قضيّةالبغداديالمحمودي سنة 2012، عقِب تسليمه للسلطات الليبية والتي رفضت المحكمة النظر فيها لعدم إيداع تونس الإعلان حينها.وكذلكفي 25 جوان 2021، رفعمواطنتونسيقضيّةضدّ الدولةالتونسيّة، طالبا إلغاء دعوة رئيس مجلس نواب الشعب المجلس الأعلى للقضاء للانعقاد في إثر تنقيح القانون الأساسي للمجلس والذي اعتبره المدعي غير دستوري، وقد جرّح حينها العارض في القاضي التونسي بالمحكمة الأفريقيّة رافع بن عاشور، على خلفية تقلّده منصب مستشار لدى رئاسة الجمهورية.
في قضيّة الحال، تقدّم المحامي بلغيث بها طالبا إصدار أمر تدابير مؤقتة. وقد مُنِحت الدولة التونسيّة أجل 15 يوما للردّ على طلب التدابير المؤقتة و90 يوما للردّ على العريضة الأصليّة. إلاّ انّها لم تردّ على طلب التدابير المؤقتة وردّت على العريضة الأصليّة بتاريخ 16 فيفري 2022.
وقد اعتبر المدّعي فيها أنّ “رئيس الجمهورية قد ألغى الدستور والمسار الديموقراطي واستولى على السلطات بطرق غير قانونية” بسبب إصداره الأمر الرئاسي القاضي بتعليق كل اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة البرلمانية والأمر الرئاسي المتعلق بالتمديد في التدابير الاستثنائية والأمر الرئاسي عدد 117 الذي علّق فعليا الدستور والأوامر الرئاسية عدد 137 و138 المتعلّقة بتسمية رئيسة للحكومة وتسمية أعضاء الحكومة.
كما طلب من المحكمة التصريح بأنّ الدولة التونسيّة بإصدارها المراسيم المذكورة انتهكت حقوقه كإنسان وحقّ الشعب التونسي في تقرير المصير المكفول وفقا للمادة 20 من الميثاقالأفريقيلحقوقالانسانوالشعوب، الحق في المشاركة في إدارة شؤون الوطن المضمون وفقا للمادة 13، إلى جانب انتهاك الحق في اللجوء إلى القضاء المضمون، وأخيرا انتهاك المواد 2،3،5،11،14،15 من الميثاقالأفريقيحولالديمقراطيةوالانتخاباتوالحُكْم . وطالب بإلزام الدولة التونسيّة بإلغاء جميع المراسيم المذكورة بالإضافة إلى سنّ النصوص القانونية التي تكفل ضمان علويّة الدستور وخاصة الإسراع في إحداث المحكمة الدستورية وإزالة كل العوائق القانونية والسياسية التي تحول دون ذلك، إلى جانب سنّ القوانين التي تكفل تجريم الانتقال غير الدستوري للسلطة والمشاركة فيه ومساندته.
كما طلب من المحكمة اتخاذ تدابير مؤقّتة على معنى المادّة 27 من البروتوكول والقاضي بأنّه “في حالة الخطورة الشديدة والطوارئ، ومتى كان ذلك ضرورياً لتجنّب الضرر الذي يقع على الأشخاص ويتعذّر إصلاحه – تتخذ المحكمة الإجراءات المؤقتة عند الضرورة”.
وقد علّل مطلبه الأخير ب “أنّ التدابير الاستثنائية تمثل خطورة شديدة حالّة وجاثمة على الشعب التونسي وإعداما لمساره الديمقراطي ودستوره” مؤكّدا على “أنّ ممارسة السلطة واستئثار شخص واحد بها يمكن أن يترتّب عليه أمر واقع يصعب تداركه بمرور الوقت بما يوفّر شرط حالة التأكّد (الخطر الداهم) إلى جانب توفر شروط الخطورة التي بدأت بالفعل من خلال العزلة الدولية. وهو ما سبّب حالة الإفلاس التي عليها البلاد وخفّض تصنيفها الائتماني ورفض المؤسسات الماليّة الدولية التعامل مع سلطات غير شرعية وما سينجرّ عن ذلك من تدهور قيمة الدينار التونسي وتضاعف قيمة الديون والمساس بالحقوق الأساسية الاقتصادية والاجتماعية لجميع المواطنين التونسيين”.
وردّا على الدفوعات المضمّنة بطلب الإجراءات المؤقتة، اختارتْ المحكمة الافريقيّة “البتّ في طلب التدابير المؤقتة وفي موضوع القضية في نفس الوقت” نظرا لكون “التّدابير المذكورة هي نفسها المضمّنة في موضوع العريضة” مضيفة أنّ “السياق يستدعي تعجيل البتّ في العريضة”.
في الواقع، اختارت المحكمة مسك العصا من الوسط بين الحسم استعجاليّا في طلب الإجراءات المؤقتة وهو ما من شأنه إقحامها في تجاذبات سياسيّة، وتعجيل النظر في الدعوى والتدابير المؤقتة في نفس الوقت، تفاديا لانتهاكات قد يفرضها السياق.
التدابير الاستثنائية أمام القضاء الأفريقي: أيّ حظوظ؟
من المشروع التساؤل عن حظوظ المدّعي في الحصول على قرار لفائدة الدعوى، بالنظر للسياق السياسي الذي تتنزّل فيه، وتواتر قضاء المحكمة بعدم الاختصاص أو عدم مقبوليّة الدعاوى، وخاصّة أمام ندرة لجوء التونسيين والتونسيات إلى التقاضي الأفريقي.
من حيث الاختصاص الشخصي، المحكمة الأفريقيّة مختصّة باعتبار أنّ الدولة التونسية قد أودعتْ إعلان البروتوكول في سنة 2017 بالإضافة إلى اختصاصها المادي والزمني والإقليمي نظرا لكون العارض يدّعي انتهاك موادّ متعلّقة بالميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان وبالنظر إلى أنّ تونس دولة طرف فيه.
من حيث المصلحة المتوفّرة في المدّعي، اعتبرتْ المحكمة سابقا بأنه بموجب المادة 6 من البروتوكول “يجوز أن تسمح للأفراد وكذلك المنظمات غير الحكوميّة التي تتمتّع بصفة مراقب لدى اللجنة الأفريقية بتقديم شكاوى مباشرة أمامها ولا تلزمهم بإبداء مصلحة شخصية وأنّ الشرط الوحيد المسبق هو أن تكون الدولة المدّعى عليها طرفا في الميثاق وقد قدمت إعلانها”، مؤكدة على أنّه “يؤخذ بعين الاعتبار الصعوبات التي قد يواجهها ضحايا انتهاكات حقوق الانسان في تقديم شكواهم إلى المحكمة” مما يتّجه معه “السماح لأيّ شخص بتقديم شكواه إلى المحكمة دون الحاجة إلى إظهار مصلحة فردية مباشرة من هذه القضيّة”. كما اعتبرتْ أنّ الأحكام القانونية تهمّ سائر المواطنين ولها تأثير مباشر أو غير مباشر على حقوقهم الفردية وأمن ورفاه مجتمعهم وهو ما يجعل مصلحته راسخة.
لعلّ الجديد في هذه القضيّة الحال أنّه يستبعد رفض المحكمة الأفريقية للدعوى بناء على عدم استنفاد سبل التقاضي الوطنيّة قبل اللجوء إليها- مثلما دفعت به سابقا في القضيّة عدد 33/2018 منمواطنتونسيضدّ الدولةالتونسيّة معتبرةً “أنّ الأحكام الصادرة عن القضاء الإداري التونسي ليست باتّة وعليه يجب استنفاذ سبل التقاضي المحلّي خاصّة وأنّه متاح دون عائق أمامه”. ويتأتى ذلك عن تحصين المراسيم الرئاسيّة المطعون فيها من أي طرق طعن ممكنة وهو ما يصبح معه مستحيلا اللجوء لسبل التقاضي الوطني في هذا الخصوص.
من جهة أخرى، يبدو أنّه لا فائدة من الدفع بعدم مقبوليّة الدّعوى بالنظر لمساسها من مبدأ السيادة الوطنيّة باعتبار أنّ المحكمة الأفريقية قد رفضت هذا الدفع سابقا مذكّرة بأنّ الانضمام للبروتوكول اختياري وتعبّر الدول بمحض إرادتها عن التزامها به وخاصّة المادّة الأولى منه، مشيرة إلى أنّ الانضمام إلى هذه المعاهدات يمثّل إقرارا بالاختصاص الدولي لحقوق الإنسان والخضوع للرقابة من طرف الآليّات الدولية الهادفة لحماية حقوق الإنسان، ولا يتعارض ذلك مع سيادة الدول.
تنفيذ قرارات المحكمة الأفريقية؟ السؤال المزعج
في انتظار البتّ في الدعوى المرفوعة ضدّ الدولة التونسيّة، يبدو التساؤل حول مدى تنفيذ قراراتها محرجا لجميع الأطراف.
في الواقع، إذا اتّضح للمحكمة أن هناك انتهاكا لحقّ من حقوق الإنسان، فبإمكانها إصدار أوامر لتدارك الانتهاك بما في ذلك دفع تعويض عادل أو جبر للضرر أو اتخاذ التدابير المؤقتة في حالات الخطورة الشديدة. كما يلزم البروتوكول بمقتضى موادّه 30 و46 الدول الأعضاء الامتثال للأحكام الصادرة عنها وضمان تنفيذها.
لئن كانت قرارات المحكمة ملزمة لأطراف البروتوكول، فانّ تنفيذها يبقى محتكما بإرادة الدول في الالتزام بتعهداتها الدوليّة. حيث لم تتجاوز نسبة تنفيذ القرارات الصادرة عنها 7%، كما لا ينصّ البروتوكول المتعلّق بإنشاء المحكمة على أيّة تدابير يمكن اتخاذها في حالة عدم امتثال الدول لقراراتها وهو ما يجعل من الالتزامات التي تمارسها المحكمة على الدول ذات طابع معنويّ بحت.
بناء على كلّ ما سبق، يبدو أنّ اللجوء للتقاضي الأفريقي في القضيّة المذكورة يشكّل ورقة ضغط إضافيّة تُمارس في ظلّ الفترة الاستثنائيّة، قد تؤول لاعتراف قضائي أفريقي بانتهاك مراسيم الرئيس لحقوق الإنسان إلاّ أنّها لا تغيّر الموازين على أرض الواقع.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.