يجوز القول إنّ مدينة بعلبك لم تشهد وضعًا استثنائيًا كالذي تشهده في هذه الآونة، أقلّه في المدى القريب. لقد فرضت الحرب القائمة مواقف وسلوكيّات على سكّان المدينة، تتناسب، إلى حدٍ ما، مع الوضع، حاولوا من خلالها “التأقلم” مع ما يجري على الأرض، وإن لم يفلحوا دائمًا في إيجاد الحلول المناسبة لما يتعرّضون له.
ولا شك في أنّ الإخفاق في اتخاذ التدابير المناسبة لا يعود، في الأساس، إلى استهتار بما يجري من حولهم، بل بطبيعة العدوّ نفسها وبتصرّفاته. صحيح أنّ هذه الحرب ليست الأولى الذي يشنّها العدو الإسرائيلي على هذا البلد، ولكن يبدو أنّ لكل حرب ظروفها وحيثيّاتها، التي تختلف عن سواها. في حرب 2006، على سبيل المثال، كانت المناطق “الخطرة” في المدينة معروفة من سكّانها المقيمين، ومن الجميع كذلك. تعرّضت هذه المناطق، الواقعة شمال – شرق المدينة، إلى قصف ممنهج أدّى إلى دمار معظم بيوتها، في حين سلِمت مناطق أخرى من المدينة، ولو نسبيًا.
لكن الحرب الحالية لم تكن واضحة من حيث ما ستستهدف قنابلها من أماكن. لقد اعتمد العدو نهج الخداع والمراوغة والتضليل. وإذا كان من هدف لهذا النهج فهو زرع الفوضى والإرهاب والخوف في نفوس سكان المدينة. نشر النّاطق بلسان العدو، الذي صار اسمه معروفًا من الجميع، وصارت شهرته تشبه شهرة إبليس في الكتب المقدّسة، خريطة طُليت بعض أجزائها بالأحمر، في دلالة على المناطق الخطرة، وهي، في الواقع، تشمل المدينة كلّها. كان من الأفضل له أن يقول صراحة: “عليكم أن تخافوا جميعًا، وتحاولوا الهرب”. لقد فعل الإنذار فعله. لم يدرِ البعض إلى أين يمكنهم الذهاب من أجل تلافي التعرّض للقصف. سادت حالة من الهلع. سلكوا الطرقات المشار إليها في البيان، علمًا أنّ بعضهم لم يعرفوا تمامًا إلى أين سيتّجهون، بحثًا عن المكان الآمن الذي سيُبعد عنهم إمكان وقوعهم تحت القنابل. كان هروبًا يليق بشريط سينمائي يصوّر أناسًا يزحفون صوب المجهول، بعيدًا من خطر إشعاع نووي طارئ.
من كان يعتقد أنّ ثكنة غورو سوف تُستهدف؟ (حصل الاستهداف قبل الإنذار). ثمّة أفراد وعائلات لبنانية من الفقراء، أو متواضعي الحال، يسكنون مباني الثكنة سيّئة الحال بعدما هجرها الجيش اللبناني، علما أن الفرنسيين كانوا بنوها في النصف الأوّل من القرن العشرين. البيت الذي طاولته الصواريخ يقع في قعر الثكنة لجهة الغرب، ويستند إلى سور أثري يعود إلى أيام البيزنطيين. حدث انفجار مهول. تحوّل البيت وسكانه أشلاءً. تهدّم جزء وازن من السور ذي الحجارة القديمة، انتشر الغبار والتراب في كلّ مكان، وامتلأ المكان ببقايا صخور عمرها قرون.
ذهبت إلى المكان، وتعمّدت أن أركن السيارة خارج حرم الثكنة التي أعرفها جيّدًا، كوني أمضيت فترة من الخدمة العسكرية الإجبارية بين جدرانها، أو بالأحرى ضمن أسوارها. وكي أكون صادقًا، يجب القول إنّني تصوّرت أنّ الطائرات قد تعمد إلى قصف المكان مرة أخرى، ومن سيجعلها تمتنع عن ذلك؟
إثر إنذار الجيش الإسرائيلي، كان عليّ أن أتّخذ القرار بسرعة: الرحيل أم البقاء؟ قرارات كهذه لا تحتمل المماطلة. قد تكون قصة حياة أو إصابة لا علم لنا بحجمها. تجنّبت ذكر كلمة موت من قبيل التفاؤل. كان يمكن الشعور بالحركة المفاجئة التي عمّت الحيّ. تحرّكت الآليات بسرعة. سكان الحيّ الذين عهدتهم خاملين وثقيلي الحركة دبّ فيهم نشاط كالذي يصيب من يستخدمون المنشّطات.
تجنّبت سلوك الطريق المحاذي لبلدة دُورس في شقها الشرقي، بالرغم من أنّه يختصر المسافة للخروج من المدينة. تصبح الأمور واضحة حتى في ساعات الشدّة. دُورس بلدة مستهدفة على الدوام، ومن المستحسن الابتعاد عنها. شاهدت بعض الأشخاص يسيرون على الأقدام باتجاه الجنوب على الأوتوستراد المؤدّي إلى زحلة. كان بعضهم يقفون عند “دوّار الجبلي” ويوقفون السيارات، آملين أن يجدوا لأنفسهم مكانًا فيها، لكن الحافلات كانت متخمة بركّابها.
امتدّت أرتال السيارات من مدينة بعلبك إلى زحلة بلا انقطاع. آلية وراء أخرى كقافلة جيش نظامي تمتدّ لعشرات الكيلومترات. سلكت الطريق المذكور، وكنت عارفًا بوجهتي، لحسن الحظ. عمد البعض إلى قيادة سياراتهم بسرعة كبيرة، علمًا أنّ هذا الأمر لن يغيّر شيئًا، لكن العقل البشري يقيس الأمور لدى البعض تبعًا لغريزة البقاء.
بعد تخطّي مفرق بلدة بريتال، شاهدت على بعد أمتار أمامي سيارة ترتفع في الهواء، ثم تنقلب على ظهرها، في حين شردت سيارة أخرى في السهل. كان المشهد مروّعًا. أوقفت سيارتي بداعي الفضول (لست فضوليًا بالمرّة من حيث المبدأ). سمعت صراخ امرأة، وشاهدت رجالًا يسحبون أطفالًا من النوافذ التي تكسّر زجاجها. كان الأطفال مصابين بالرعب أكثر من إصابتهم في حادث انقلاب السيارة وتحطّمها. خرجوا سالمين إلّا من رضوض خفيفة، أما إخراج السيّدة (والدة الأطفال كما أعتقد) الجالسة قرب السائق، فلم يكن سهلًا. تعاون بضعة رجال على تجليس السيارة، وأُخرجت السيّدة سالمة بدورها. شاء القدر السعيد ألّا يُصاب أحدٌ بأذى.
يتلاشى الخطر كلّما اقتربنا من بلدة أبلح، ويصير شبه معدوم لدى الوصول إلى زحلة. هكذا يكون العدو الإسرائيلي قد نفّذ خطّته المسمومة التي يقصد من خلالها تبيان استهدافه لطائفة دون سواها، أُطلقت عليها تسمية “البيئة الحاضنة”. في زحلة وجوارها تبدو الحياة عادية، وكأنّ الفرد قد انتقل من كوكب إلى آخر: من جحيم القصف وروائح الموت إلى أمان لا نعلم إن كان سيبقى على حاله، في حال تطوّرت الأمور نحو الأسوأ، أكثر ممّا هي عليه في الوقت الحالي.
بقي أناس عديدون في بعلبك، وخصوصًا في تلك الأحياء التي تُستثنى عادة من نار الحرب. بقي آخرون حتى في الأحياء الخطرة، لا ندري إن كان قرارًا كهذا يوحي بالشجاعة. الشعور باليأس واللامبالاة هو المرجّح، ولسان حالهم: لا يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا. ضرب من القدرية التي تساور البعض في الظروف القاهرة، بحيث يستسلمون للقدر، آملين أن يُجنّبهم الإصابة وحتى الموت، في بلد صار الموت فيه من يوميات هذا الشعب الذي أنهكته المآسي، وضعُف فيه الأمل في نهاية وشيكة للورطة التي سقط بين براثنها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.