كانت دقّات قلب نور تتسارع كلّما اقتربت من قريتها عيترون، ظهر اليوم الإثنين، على الطريق بين مربّع التحرير والقرية الحدوديّة، ولمّا رأت لافتة القرية الزرقاء، ومرّت عليها، أجهشت الصبيّة العشرينيّة بشيء يشبه البكاء، فكانت تمسح الدموع وترفع بكفّيها يتراقصان أمام وجهها. وعلى هذا الوجه، ضحكة كأنّها بذاتها “احتفال تحرير”.
في الجوّ، تحلّق مسيّرة إسرائيليّة، وفي البيوت على الجانبين، يتمركز الجنود الإسرائيليّون، لكنّ على هذا الشارع، جحافل العائدين، يقدّر عددهم بألفي جنوبي من كل الأعمار. أسر بحالها تجمّعت في سيّاراتها، ومثلهم يسيرون مشيًا على الأقدام. مسيرة عودة، كما تسمّيها كلمات بعض الأهالي، أو حركة مقاومة شعبيّة، كما يسمّيها آخرون، وفي كلا الحالتين، تأكيد على حقّهم بالعودة والتحرير.
تقود نور سيّارتها وزوجها إلى جانبها على أمل الوصول إلى الدار، أو ما تبقّى منه، بعد أن أشعل الجنود الإسرائيليّون فيه النار خلال فترة الهدنة: “الحرب انتهت، وانتهت بعدها ستون يومًا مهلة الانسحاب، وقبل الحرب والمهلة، سنة من التهجير، إن لم نعد الآن، لن نعود أبدًا”، تقول نور، محاولة أن تترجم مشاعرها في كلمات تشرح سبب هذا الاندفاع رغم المخاطر الجديّة. رغم هذا، فإنّ كلمتها التي رمت بها من نافذة سيّارتها وهي تقترب من عيترون: “ما أحلاك يا أحلى الضيع، اشتقتلك”، تختصر الحال.
وفي اليوم الثاني من أيام العودة، استمرّت التحرّكات الشعبية، وواصل أهالي القرى الحدوديّة الاحتشاد أمام قراهم لدخولها، وتحريرها. وشهدت العديد من القرى، تحرّكات للأهالي، وفتح الجنود الإسرائيليّون النار عليهم مجدّدًا، فسقط شهيد و3 جرحى في العديسة، وشهيد وجريحان في بني حيّان، و12 جريحًا في قرى حولا ويارون ومركبا وبرج الملوك. واستمرت محاولات الأهالي العودة إلى قراهم رغم حصيلة مرتفعة من الشهداء والجرحى يوم أمس، انتهت بـ24 شهيدًا و122 جريحًا، بينهم 12 سيّدة و9 أطفال.
في مربّع التحرير الشهير منذ المعركة التي سميت باسمه في عدوان 2006، حيث يشكل حلقة الربط بين بنت جبيل ومارون الراس وعيناتا وعيترون، احتشد أهالي بليدا وأهالي عيترون، ليدخلوا سويّة عيترون، ثمّ يردّ اهل عيترون الجميل لهم بـ “عونة” عودتهم إلى بلدتهم، بليدا. جاء هؤلاء، بعد أن دفنوا يوم أمس شهيدًامن بليدا(وسقط جريحان)، و5 شهداء من عيترون التي جُرح منها ثلاثة عشر من أبنائها، ومع هؤلاء، شهيد من مارون الراس، يقيم في عيترون وقتله الجنود الإسرائيليّون برصاصة أمام أبنائه خلال عودته إلى القرية.
اجتمع أهالي بليدا وعيترون وانتظروا لساعات عدة قبل أن يبدأ تقدمهم إلى قراهم
عند مربّع التحرير
وصلت مواكب العائدين إلى مربّع التحرير منذ الساعة الـ8:00 صباحًا، ووضعوا خطّة للدخول إلى عيترون على مرحلتين. كان أمل الناس أن تُزال السواتر الترابيّة التي وضعها الإسرائيليّون عند الـ8:00، وأن يدخلوا عند الـ9:00. وعلى هذا الأساس، نظّم الناس أنفسهم.
على أرض مربّع التحرير، تلوح عيترون من بعيد، ويبان منها استمرار وجود الجنود الإسرائيليّين فيها. يوم أمس، سقط 6 شهداء برصاص إسرائيليّ مباشر، من أبناء القرية وسكّانها، فكان القرار اليوم أن يكون التحرّك جماعيّ في كلّ الأوقات “كي لا يستفرد بنا الإسرائيليّ”، وفق ما أوضح علي سلامة، أحد أبناء القرية المتواجدين هنا.
وفي سماء المربّع، تحضر المسيّرات الإسرائيليّة، وكلّما دنت، وعلا صوت طنينها، ارتفع صوت الأهالي بشعاراتهم، وكلّما ابتعدت، عادوا إلى جلبتهم. تحتدّ النقاشات وتبرد بسرعة، وجوهرها أهميّة التقدّم نحو عيترون، والإصرار على دخولها اليوم. وكان لا يزال الجيش اللبنانيّ حتّى اللحظة يغلق الطريق نحو القرية، طالما أنّ الجنود الإسرائيليّون لم ينسحبوا منها بعد. وفي تعليمات الجيش، تأكيدات على ضرورة الالتزام بمسار واحد، إذا ما دخل الأهالي قريتهم، وعدم سلوك أيّ من الطرقات الفرعيّة، حيث زُرعت الألغام وانتشرت ذخائر العدوان غير المنفجرة.
انتظر الناس ساعتين، ولمّا انتصف النهار، وهم على حالهم، اعتلى رئيس بلديّة عيترون سليم مراد جرّافة رُكنت قرب آليّات الجيش اللبنانيّ، ومهمّتها رفع السواتر الترابيّة وفتح طريق عيترون. تحوّلت الجرّافة إلى منبر لرئيس البلديّة، الذي كان لساعتين، قبلة الناس في مناشداتهم فتح الطريق أمامهم. وألقى مراد كلمة باسم الاهالي، حشد فيها مناشداتهم، وأكّد رفض ربط العودة إلى القرى بأيّة مهلة جديدة للانسحاب.
وقال مراد: “لسنا موافقين على تأجيل الانسحاب، وإرادتنا هنا أن ندخل إلى قرانا دون أي تأجيل”. وتابع: “اليوم نوجه رسالة مختصرة، لن نقبل بإجهاض هذه الحركة الشعبية المقاومة، ونحن سنقوم بهذا العمل المقاوم، وندعو الجيش إلى مواكبتنا للنزول (إلى عيترون)”. وبعد أن ارتفعت شعارات المحتشدين، استكمل مراد كلمته، فهاجم ما وصفه بـ”القرار السياسيّ المتلاعب”، معتبرًا أنّه إذا كان هناك حاجة لقرار سيّاسيّ، فعلى هذا القرار أن يأتي الآن “وسنعطي فرصة ساعة، وإلّا سننزل إلى قريتنا”.
من مواكب العائدين
إلى عيترون
أكّد العسكر اللبناني مجدّدًا للأهالي أنّ كل تدابيرهم هي لحماية أرواح الناس في ظلّ الاستهداف الإسرائيليّ المباشر. 10 دقائق، وكان الجيش قد بدأ بتنظيم التحرّك نحو عيترون. طلب الجنود من العائدين الانتظام في صفّ واحد خلف آليّات الجيش اللبناني، ومشى الموكب نحو القرية. 700 متر، وبانت لافتة زرقاء عليها اسم القرية، وبعد اللافتة، تابع الموكب مسيره فطوى الناس مسافة كيلومترين اثنين تقريبًا، ودخلوا عيترون، وتابعوا مسيرهم، حتى وصلوا إلى حفرة كبيرة قطع بها الجنود الإسرائيليّون الطريق المجرّفة، وعلى بعد 200 متر تقريبًا، ساتر ترابيّ رفعه الاحتلال.
بين القادمين، أهالي شهداء، “أبناؤنا تحت الركام، ودمنا على كفنا”، تقول إحداهنّ، وتمتزج الزغاريد مع الشعارات. يصرّ الأهالي على متابعة التقدّم، ويتّجهون نحو الساتر الترابيّ، بعد أن ردمت الحفرة بما تيسّر.
يقتربون من الحفرة، فيلاقيهم الجنود الإسرائيليّون، بإطلاق النار، يتصاعد التوتّر، ومعه إصرار الناس على البقاء. يقفون في أرضهم ريثما يهدأ إطلاق النار، ثمّ يتقدّمون خطوة، فيلاقي المحتلون الخطوة الواحدة بوابل رصاص. في هذه الدقائق القليلة، يستكشف الناس المكان بعيونهم، فيجدون أنفسهم محاصرين بالرشّاشات المصوّبة نحوهم، الجنود الإسرائيليّون أمامهم، على بعد أمتار عشرة فقط، وعن اليمين واليسار جنود متمركزين في المنازل والمباني.
دخل أهالي عيترون قريتهم، ومعهم جيرانهم أهالي بليدا، وقفوا على أرضها للمرة الأولى منذ 15 شهرًا، ولم تسمح لهم رصاصات الاحتلال باستكمال عودتهم اليوم، إلّا أنّ الطريق إلى وسط البلدة ليست طويلة، يقول حسن، ورغم أنّ رصاصة مرّت فوق رأسه قبل دقائق قليلة، فإنّه “مستعد لاقتحام الساتر بجسدي، لولا أن بيننا أطفال”.
الساتر الترابيّ الفاصل بين الأهالي والجنود الإسرائيليّين
وجهًا لوجه
الساتر الترابيّ يفصل أهل عيترون عن بيوتهم، الناس أقرب إلى الساتر من جنود الاحتلال، لكن الناس عزّل، والمحتلّون مدجّجون بالأسلحة، يدهم على الزناد.
وقد ألقت مسيّرة إسرائيلية قنبلة صوتية على أحد التجمعات نجا منها الناس، ومع استمرار رفضهم المغادرة، تقدّم 3 جنود إسرائيليّين خطوات قليلة نحو الساتر: “ارجعوا لورا” و”من يتجاوز بخطوة يقتل” بالعربيّة، وبكلمات واضحة، وجّه الجنديّ كلامه للأهالي. وقف الجيش اللبناني أمام الساتر الترابيّ يحاول أن يكبح اندفاعة الأهالي الغاضبين، لكنّ كلماتهم كانت تصل بوضوح إلى مسامع الجنود الإسرائيليّين: “مش راجعين”، و”هيدي أرضنا”، ويصل الوضع إلى مرحلة الغليان، ويستمرّ جنود الجيش اللبناني بمحاولة احتواء الغضب.
تغطّى الجنود الإسرائيليون بمهلة جديدة للانسحاب تنتهي بعد 20 يومًا، وفق ما يُفهم من إعلان تمديد اتفاق وقف الأعمال العدائيّة حتى 18 شباط المقبل، رغم هذا، فإنّ مجرّد منع العودة، هو عدوان يخالف هذا الإعلان، والقرار 1701 الذي يستند له، فضلًا عن إطلاق الرصاص والاعتداء على الأهالي العائدين. وهؤلاء، يمارسون حقًا أصيلًا لهم بالعودة إلى قراهم، نصّ عليه الإعلان الممدّد حديثًا، دون أن يربطه بأي مهلة، بل نصّ صراحة على هذه العودة التي كان يفترض أن تتمّ منذ 27 تشرين الأول 2024، وعلى دخول هذا الإعلان حيّز التنفيذ.
والواقع أن المهلة هي مهلة انسحاب، إلّا أن مجمل التدابير والتهديدات الإسرائيليّة، إنّما تصبّ في إطار سعي لإرساء سلطة احتلال، سعي يجابهه أهالي القرى الحدوديّة اليوم باللحم الحيّ.
“مستمرّون بالضغط، ووعدنا أن نعود” يقول علي سلامي، إبن عيترون، ويضيف من على بعد أمتار قليلة من جنود الاحتلال: “نحن اليوم دخلنا عيترون، وسنستمرّ حتّى نحرّرها كلّها”، بدوره يؤكّد وفيق إبراهيم، الثمانينيّ إبن بليدا: “حرصنا على عدم السماح بتكرار مجزرة الأمس، بوجه إطلاق الرصاص المباشر علينا اليوم، صمدنا، ووقف الجيش لحمايتنا، لأنّه كان واضحًا أنهم سيطلقون الرصاصة التالية إلى صدورنا إذا تقدّمنا إليهم”. والحاج وفيق مصرّ على استكمال العودة إلى عيترون غدًا، كي تكون بليدا حرّة بعدها.
غادر ربيع المكان، بعد أن أغربت الشمس واشتدّ البرد على جسد ابنه، بدوره علي سلامي باقٍ، يحرس مع رفاقه وسائر أبناء البلدة الأمتار التي انتزعوها اليوم من الاحتلال. أمّا نور، فهي عادت للمبيت مع أولادها في عيناثا، كما فعلت ليلة أمس: “وغدًا يوم تحرير جديد”، تقول.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.