ياطر بين تدمير وتهديد: تحدّي محاولة إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا


2024-12-11    |   

ياطر بين تدمير وتهديد: تحدّي محاولة إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا
حيّ في ياطر دمّرته الغارات

جاء أحمد، ابن ياطر، إلى منزل شقيقته للاستحمام. وفي البرد الذي يعشعش بين تلال ياطر السبعة هذه الأيّام، تصبح الحاجة إلى مياه ساخنة ماسّة. ولأجل هذا، أشعلت له فاطمة قازان الحطب، الذي عادت غالبية بيوت القرية لاستخدامه اليوم. 

عاد الناس إلى ياطر إثر دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، فوجدوا أنّ القصف الإسرائيليّ العنيف على مدى 66 يومًا قد أخرج البنية التحتيّة للكهرباء والمياه من الخدمة، وهدّم أحياء بكاملها، ودمّر مرافقها الرسميّة والخدميّة الأساسيّة، كما شمل التدمير معالم القرية الأساسيّة وأحراجها وأراضيها الزراعيّة. وبحسب المصادر البلديّة: دمرّت إسرائيل 30% من الوحدات السكنيّة، وتسبّبت بضرر متفاوت لـ 90% منها، إضافة إلى 70% من الأراضي الزراعيّة وكروم الزيتون.

ويمكن تفسير هذا الدمار على أنّه يحمل نوايا عدوانية تجاه السكان واستمرارية حياة القرى، وتتّضح هذه النية مع استمرار تهديدات الجيش الإسرائيلي ضدّ عودة السكان.

تلقّت ياطر منذ 27 تشرين الثاني 2024، تاريخ وقف إطلاق النار، تهديدات إسرائيليّة تطلب من أهلها الإخلاء بشكل شبه يوميّ (9 تهديدات خلال الأيّام الـ 12 بعد وقف إطلاق النار). وشأن ياطر بهذا شأن أكثر من 70 قرية تقع جنوب خط شبه مستقيم يبدأ من الليطاني ويبعد عن الحدود المتعرّجة بين 5 كلم في أقرب النقاط إليها شرقًا، و14 كلم في أبعدها عنها على الساحل، وهو يسير مع الليطاني شرقًا ثمّ يمتدّ بشكل شبه ثابت نحو الغرب مصادرًا أكثر من نصف مساحة جنوب الليطاني بقليل. 

يتتبع هذا التحقيق التالي تحدّيات العودة إلى قرى الخطّ الثاني التي لا تزال تواجه تهديدات الإخلاء وتستهدف أطرافها، معتمدًا ياطر كنموذج، وينطلق من عمل ميداني أُجري خلال الأيام العشرة الأولى بعد وقف إطلاق النار، ومقابلات مع الجهات الرسمية والخدمية وشهادات العائدين من أهلها، حيث نوثق معهم تحدّيات العودة بين تدمير وتهديد.

حاجّة تزور جبّانة القرية بعد أن دمّرت الغارات قبورها وبعثرت شواهدها

العيش تحت التهديد

تسبّب التهديد الإسرائيليّ أوّل مرّة بإرباك أصحاب الأرض الذين تدفّقوا إلى القرية منذ لحظة وقف إطلاق النار. كسر هؤلاء مع كلّ العائدين يومها، تهديدًا إسرائيليًّا عامًّا بـ”عدم العودة”،  صدر بعد 7 دقائق من وقف إطلاق النار، موجّهًا إلى جميع القرى والمدن التي نزحوا عنها خلال العدوان. لكنّ اليوم التالي حمل لأهل القرى جنوب الخطّ الآنف ذكره، تهديدًا مباشرًا: “تبعثرت الناس، لكنّها عادت واستقرّت رغم التهديد”، يقول يوسف كوراني، خمسينيّ من أبناء القرية. 

لحظة صدور التهديد، حضرت “المفكّرة” إلى ياطر فشهدت حالة عدم يقين وحذر، من دون تسجيل حالات نزوح. في صباح اليوم التالي، كانت دكّان وسط البلدة تستعد لفتح أبوابها، وكان المارّة يطالبون أصحابها بالاستعجال “كي تستقر الأمور.” ويقول أحد السكّان في شهادته إنّ حركة الزبائن أعادت شيئًا من حياة ياطر، كما “سهّلت صمود العائدين”. ويخبر أحد شباب ياطر صديقه أنّه ينوي – فور تشييع شهداء القرية – تعويض المقهى المدمّر عند مدخلها بسيّارة عليها ماكينة اسبريسو وبضعة كراسٍ بلاستيكيّة “كي يشعر الشبّان أنّها أعادت شيئًا من حياة ياطر”، فيما أعاد أحد موزّعي الإنترنت تشغيل خدماته وسيتأخر الموزّع الثاني ريثما يتمّم إصلاح الأضرار اللاحقة بمحطّته.

وتتعرّض أطراف ياطر لبعض القصف المدفعيّ باستمرار، وشهدت قرى في محيطها غارات إسرائيليّة دمويّة خلال فترة وقف إطلاق النار، كما في حاريص وفي جارتها بيت ليف. ويعيش السكّان على وقع تحليق مستمرّ للمسيّرات الإسرائيليّة. لكنّ المزيد من الناس يعودون كلّ يوم. ويوم الأحد، غصّت ياطر بأبنائها من غير المقيمين، الذين أتوا ليشيّعوا مع أهل القرية 21 شهيدًا كانوا مدفونين وديعة في صور. وخلال التشييع، كان يمكن سماع تعليقات عابرة تذمّ بصوت المسيّرة، أو فتى يتوقّع أنّها “حايمة كي تغير على أحد ما”، لكن الناس يطبّعون العيش مع هذا التهديد كلّ يوم، وترد في شهاداتهم تخوّفات من أن يؤدّي رحيلهم عن القرية وهجرها إلى تهجير قسري دائم لهم، فتجدهم يبقون. 

وقد صنّفت “المفكّرة” جملة التدابير الإسرائيلية في جنوب لبنان بعد وقف إطلاق النار بأنّها تؤشر إلى التصرف كسلطة احتلال على مناطق عدّة في جنوب لبنان، وتمثّل خرقًا للقرار 1701، ولإعلان تطبيقه المتمثّل بإعلان وقف إطلاق النار فجر 27 تشرين الثاني 2024.

خسرت مئات الأسر منازلها جرّاء الغارات الإسرائيليّة في ياطر

عودة إلى منازل مهدّمة

عاد يوسف كوراني يوم وقف إطلاق النار، وسكن مع ابن عمّه. عرف الرجل الخمسينيّ أنّ منزله قد دُمّر قبل 12 يومًا من وقف إطلاق النار، من خلال صورة من الأقمار الاصطناعيّة وصلته: “عدت من دون خطّة بديلة للسكن، لكننّي قلت لنفسي إنّ المهم العودة إلى ياطر، ولو سكنت غرفة، ولو أويت تحت درج”. 

بحسب معاينة “المفكّرة”، دمّرت الغارات الأحياء عند مدخل البلدة ووسطها، وحارات الكسار، والشحل، والبيدر، والبلايط، وكذلك الأحياء الشرقية عند “راس شرقي”، وتلك الغربية. وشملت الغارات والأضرار في المنازل معظم الأحياء في ياطر. تدمرت 30% من الوحدات السكنية في القرية، وهي نسبة مرشحة للارتفاع مع استمرار الكشف عن تصدّع الأساسات. وأكثر من 90% من المنازل تضرّرت جرّاء الغارات. وتتراوح الأضرار في المنازل “الناجية” بين تلك البالغة، حيث تهدّمت الجدران وخرّب الأثاث بشكل كامل، إلى تلك الأقل فداحة، حيث تخلّعت الأبواب والشبابيك، كما ليس في ياطر منزل لم يتحطّم فيه زجاج. جلّ هذا الدمار جاء خلال عدوان أيلول الأخير، طالما أنّ 10 فقط كان عدد المنازل المدمّرة جرّاء الغارات المتفرّقة على مدى عام قبله.

“تسير في ياطر ويسير الدمار معك”، تختصر زهراء المشهد، وهي في طريقها لإرجاع مقصّ استعارته لإتمام عملية وضع النايلون كبديل عن الزجاج في منزلها. والحلّ الذي لجأت إليه زهراء، هو الأكثر رواجًا هنا، بانتظار التعويضات: “البرد لن ينتظر، وضعت نايلون ثمّ بطانيّات، لأسدّ النوافذ وأحمي الأولاد من الصقيع”. 

بدورها الحاجّة سنيّة، لا تزال منذ أسبوع في ورشة تصليح وتنظيف متواصلة في منزل ابنتها الذي عادت إليه، بعد أن دمّرت منزلها غارة إسرائيليّة وأحالته أثرًا بعد عين. ومحمّد كريّم منشغل بتأمين ملابس شتويّة لأولاده بعد أن خسروا كلّ حاجيّاتهم بتدمير منزلهم. وأنقذ محمّد ما تيسّر من ثياب شتويّة لابنته الرضيعة، من بين الركام، وأمّن لسائر أولاده ثيابًا تناسب الطقس البارد من أقارب لهم، وظلّ هو وزوجته، بملابس رقيقة، معتمدًا على “صوبة” الحطب لتعويض نقص التدفئة.

ورصدت “المفكرة” التدمير العالي الذي سبّبته الغارات الإسرائيلية حيث أدّت غارة واحدة إلى تهدّم مبانٍ عدّة أو تسبّبت بأضرار بالغة للمنشآت. كما لوحظ أنّ صخورًا كبيرة كانت تُقذف عشرات الأمتار في الهواء نتيجة الغارات، ما يدل على شدّة القوّة التفجيريّة المستخدمة. بعض هذه الغارات أحدثت حفرًا عميقة في الأرض، وأخرجت كميات هائلة من الأتربة التي أدت إلى إغلاق الشوارع المحيطة، مثل الحي المقابل لمتوسطة ياطر الرسمية. وقال عناصر من الدفاع المدنيّ لـ “المفكّرة” إنّ مدنيّين بعيدين عن الغارات، أصيبوا جرّاء تطاير الصخور بفعل الغارات الإسرائيليّة، خلال فترة العدوان. 

لكنّ التحدّي الاساسيّ مع العودة ولملمة الأضرار والاحتيال على فقدان المساكن وتوزيع الأسر على منازل الأقارب، هو التدمير الكامل لشبكتيّ المياه والكهرباء.

دمّر القصف الإسرائيليّ عشرات من السيّارات المدنيّة

اجتراح بدائل مع غياب المياه والكهرباء

على شاحنة زرقاء، تضرّرت مقدّمتها بشدّة بسبب غارة إسرائيليّة، ينقل متطوّع من أبناء ياطر المياه إلى منزل فاطمة، حيث بدأنا التقرير. تصدر الشاحنة صوتًا غريبًا عند إيقافها، ويعلّق عليه سائقها بأنّها “لا تزال تحتاج إلى المزيد من التصليح”، بأسلوب لا يخلو من الفكاهة نظرًا إلى تحطّمها الظاهر. ويتّسق الخراب في مقدّمة الشاحنة مع منظر الدمار العام في ياطر. تملأ فاطمة خزّاناتها بالمياه، وقد كوّمت الحطب إلى جانبها. وتعتمد العديد من المنازل على المياه التي ينقلها إليها متطوّعون. وفي منازل أخرى، تتوفّر آبار تجميع تمتلئ سنويًّا بمياه الأمطار.

في منزل مجاور، يعمل جار على تركيب لوح طاقة شمسيّة، لتأمين الكهرباء، وقد مدّ شريط كهرباء إلى منزل فاطمة من أجل الإنارة ليلًا. وتسبّبت الغارات الإسرائيليّة العنيفة، بأضرار جسيمة شملت أعمدة الكهرباء والكابلات بين الأحياء، والتي كانت تؤمّن كهرباء الدولة وكذلك كهرباء المولّدات الخاصّة، وشملت الأضرار ألواح الطاقة الشمسيّة الخاصّة بالبيوت، بقصف مباشر أو بسبب تطاير الشظايا، بحسب معاينة “المفكّرة”. 

وقد عاد الناس إلى ظلام دامس، ويسعون اليوم إلى تأمين الكهرباء من خلال وسائل بديلة. ويركّزون على تأمين “ضو لمبة” في كلّ بيت كأولويّة أولى، فيما عودة كهرباء المولّدات الخاصّة مؤجّلة بدورها، كونها كانت تصل البيوت بالاعتماد على أعمدة الكهرباء العامّة بدورها. 

وتأخّرت أعمال إحصاء أضرار شبكات الكهرباء، خصوصًا مع فداحة الأضرار، بحسب المصادر البلديّة. وقد تضرّرت، أو دُمّر عدد كبير من ألواح الطاقة الشمسيّة ذات المنفعة العامّة، لاسيّما تلك التي كانت مثبّتة عند الآبار الارتوازيّة، أو المخصّصة لإضاءة الشوارع. وفي شوارع ياطر، وقعت الكابلات أرضًا، وقد كان متطوّعون يقومون بتجميعها، ضمن أعمال فتح الطرق التي يُقفلها الركام. 

آليّة متضرّري لبلديّة ياطر

تكمل الشاحنة الزرقاء توزيع المياه، ومع دخول المساء، نعود معها إلى وسط القرية، وهنا نُصبت خيمتان بجوار ركام مقرّ الدفاع المدني التابع للهيئة الصحيّة، يتجمّع فيها عناصر الدفاع المدنيّ كلّ ليلة، بعد نهار قضوه في مساندة عودة الناس. 

يسأل المتطوّعون الشاويش عن مولّد كهربائيّ صغير يعمل على المازوت، وبعد نهار قضاه هذا المولّد يتنقّل من منزل متضرّر إلى آخر لتيسير أعمال التصليح، يعود إلى ساحة الضيعة. يقوم متطوعان بتشغيل المحرّك، مرارًا يسحبان حبل الإقلاع حتى يدور، وتضيء الساحة بنور مصابيح شديدة السطوع ثُبّتت على مبنى مقابل. تصبح الساحة جزيرة من النور وسط ظَلام تخرقه أضواء صغيرة متفرّقة تأتي من البيوت. 

متطوّعو الدفاع المدني: اللبنة التي تعيد لحمة الحياة 

أقام متطوّعو الدفاع المدني خيَمهم كإجراء عمليّ في وسط القرية، وهم صمدوا فيها كامل فترة العدوان. هذه الخيام تخدم اليوم كأنّها مراكز إسعافية وإنقاذيّة، بعد أن دمّرت الغارات المباشرة مركز الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلاميّة، وذلك التابع لكشافة الرسالة الإسلاميّة، المركزين الإسعافيّين الوحيدين في ياطر. وقد استشهد 3 مسعفين للهيئة في هذه الغارات، علّق المتطوّعون صورهم في وسط القرية، مقابل الخيام. 

وفي المكان، جلبة مسعفين، تجدهم في أيّ وقت، يوزّعون المهام على بعضهم، وهي مهام تتداخل فيها تلك الإسعافيّة، والإنقاذيّة، مع الخدميّة كتوزيع المياه وفتح الطرق طالما أنّ القرية اليوم في حالة طوارئ. وأحيانًا، يؤمّنون النقل لسيّدة كبيرة بالسن تضرّرت سيّارتها جرّاء القصف. وطالما هم أبناء القرية، فإنّ علاقتهم بالسكّان يتداخل فيها الواجب مع النخوة. 

دمّرت الغارات جميع سيّارات الإسعاف والآليّات التابعة لجمعية الرسالة والهيئة الصحية، وسيّارة إسعاف وحيدة تابعة للبلدية، فاستعان المتطوّعون بسيّارة إسعاف استعاروها من بلدة البيّاض، كي لا تظلّ القرية دون سيّارة إسعاف، لاسيّما أنّ أقرب مركز للصليب الأحمر اللبناني يبعد مسافة 20 دقيقة على الطريق. 

سيّارات الإسعاف المحطّمة في ساحة ياطر

ورغم جهود المتطوّعين، واستبدال المركزين الاسعافيّين المدّمرين بخيمتين تؤمّنان حدًا أدنى من الاستقرار على مستوى الخدمات الإنقاذيّة والإسعافيّة، يبقى أنّ السكّان في ياطر اليوم قد خسروا أيضًا مستوصف العباس التابع لجمعية المبرّات الخيرية، والذي تهشّم جراء الغارات. 

أمام المستوصف، ينتشر التدمير، ويبان الخراب من النوافذ. تقف زينب هنا، وهي أمّ لطفلين، وتقول في شهادتها لـ”المفكّرة” إنّ “هذا المستوصف كان متنفّسًا لأهالي القرية” بوصفه مركز رعاية أوّلية يؤمّن لقاحات الأطفال وأدوية الأمراض المزمنة، ويضمّ عيادات بمختلف الاختصاصات بينها واحدة نسائيّة وأخرى للأطفال. تسعى زينب لتعويض خدمات هذا المستوصف مؤقّتًا اليوم وتنتظر إعادة افتتاحه كما تخبرنا.

مركز الدفاع المدني – الهيئة في ياطر

“نتمشّى بين أنقاض مقدّسة” 

في شهادات السكّان، يتكرّر ذكر أماكن معيّنة ذات قيمة روحية ومعنويّة لهم، كلّما سُئلوا عن تجربة العودة بين كلّ هذا التدمير. ليس بعيدًا عن ساحة القرية، تتأنى خطوات الحاجّة زينب، حتّى تقف أمام أنقاض مقام النبي ياثر، وهو معلم دينيّ تاريخي، منح القرية اسمها. القرية التي تعرف اليوم بـ”ياطر”، كانت تُعرف تاريخياً بـ”ياثر”، لولا تحريف طرأ على الاسم خلال الانتداب الفرنسي. المقام، المعروف بتلبية النذور، يشكل جزءًا لا يتجزأ من الروحانية المحلية والثقافة الدينية في القرية.

رخامة لمقام النبي ياثر وعليها البسملة وآية من سفر الخروج

تقول الحاجّة زينب لابنتها بتأثر شديد: “هنا ملجأ قلوبنا ومكان استجابة نذورنا”. وحولها، تنتشر الأنقاض التي كانت يومًا جزءًا من معلم يجتمع حوله الناس للصلاة وإقامة المناسبات الدينية. ولم يسلم الحيّز الروحي في ياطر من الدمار، إذ ذهب العدوان بالحسينيتيّن القديمة والجديدة، اللتين كانتا تقعان في قلب القرية، ولم تعودا قائمتين. المساجد والمُصليّات التي كانت تملأ القرية بأصوات الأذان والصلوات أصبحت بين مدمرة ومتضررة، بما في ذلك مسجد قديم يحمل اسم السيد عبد الحسين شرف الدين.

جانب من الدمار في مقام النبي ياثر

أبو ياثر، كما طلب أن ينشر اسمه، يعبّر عن الارتباط العميق الذي يشعر به الأهالي تجاه المقام: “كان المقام رمزًا لكل من في القرية، متدينين كانوا أم لا. هو جزء من هويتنا، من تاريخنا الذي يلتقي حوله الجميع”.

في تفاصيل المقام، تبرز رخامة مثبتة نصّها: “ياثر مختصر يثرون كما في قاموس الكتاب المقدّس”، وتورد آية من العهد القديم، سفر الخروج، تحكي عن فضل يثرون، ملفتة بأسلوب زخرفتها الإسلامية، الذي يتماشى مع كون المكان مسجدًا، ما يعكس عمق الترابط الثقافي والديني فيه.

تقول الحاجّة زينب إنّ هنا “أنقاضًا مقدّسة”، مذكّرة بأنّ المكان سبق وتمّ قصفه خلال الحرب الإسرائيليّة على لبنان عام 2006. وتعبّر عن إرادة بإعادة بناء المكان إذ أنّ “أهل ياطر لن يقبلوا أن تُبنى بيوتهم ومقام النبي ياثر خرابًا”.

من أنقاض مقام النبي ياثر في ياطر

في آخر النزلة، من ساحة القرية، جنوبًا، نلتقي بأنقاض من النوع الخاص أيضًا، يعاملها الناس باحترام وخشوع، هي بقايا القبور التي نُبشت مع القصف الإسرائيلي الذي طال جبّانة القرية، عند مدافن آل عسيلي تحديدًا. هنا أيضًا، تلتقي بسيّد تقف بأسف وتضرب بيدها جنب ساقها وهي تنظر إلى الشواهد المبعثرة. وأمكن تمييز مكان سقوط الصاروخ، فيما يحكي الشاويش، وهو كان من أوائل العائدين، عن إعادة دفن جثمان خرج من الأرض جراء الغارة. 

بلاطات قبور آل عسيلي بعد أن دمّرتها غارة إسرائيليّة

عائدون إلى أرض محروقة

في الجبّانة، تكوّمت أشجار سرو سقطت جرّاء الغارات. وبحسب المصادر البلديّة، فإن 70% من كروم الزيتون تضرّرت بشدّة، ولم يجنِ أهل ياطر محصول الزيتون للعام الثاني على التوالي، فالناس يخشون الاقتراب من الزيتون الناجي خوفًا من ألغام وقنابل عنقودية محتملة. وياطر التي تعرف بأشجار الصنوبر والبطم والملول، أحرقت إسرائيل مساحات شاسعة منها، جرّاء مختلف أنواع القصف، وبينها القصف بالفسفور الأبيض، بحسب بيانات المجلس الوطني للبحوث. 

ويتخوّف الناس من الآثار طويلة الأمد لهذا التدمير: “البيت يبنى، لكن الشجرة تموت إلى الأبد ويموت معها تعب أجيال اهتمّوا برعايتها والحفاظ عليها”، يقول يوسف كوراني الذي خسر 100 شجرة زيتون بسبب القصف الإسرائيليّ، معبّرًا عن اعتقاده بأنّ الحرب كانت تهدف إلى منع عودة الناس أبدًا، وقلع كلّ ما قد يعودون من أجله “بدليل التهديدات المستمرّة، لكنّ القرية تضجّ بأهلها كما ترى”.

بدورها تقول الحاجّة سنيّة كوراني إنّ “التدمير الإسرائيلي في ياطر كان مقصودًا ويعكس رغبة بالانتقام وقمع الحياة”، وتدعّم حجّتها بأنّ “العدو الشريف يحاربك كما تحاربه، أمّا حينما يدمّر العدو أحياء سكنيّة ويمسحها بحجّة مطاردة شخص واحد، فهذا عدوّ يريد إيلام المجتمع بأكمله”. وتضيف: “الإسرائيليّ كان يقول إنّه يطارد المقاومة ويستهدف حزب الله وبيئته، لكنّه في الحقيقة قتل كل شيء، وانتقم من الجميع دون تمييز”. بدورها تقول شهادات متطوّعي الدفاع المدني، الذين صمدوا في القرية، إنّ “الحديث عن استهدافات كان ممكنًا قبل أيلول، لكن مع التصعيد الأخير، كان القصف عشوائيًّا وشاملًا”.

أهالي ياطر عادوا رغم التدمير

وتركّز هذا النمط من الاستهداف في القرى الحدودية على مدى سنة قبل عدوان أيلول، ووضعه تحقيق سابق لـ “المفكرة” على أنّه تطبيق لسياسة الأرض المحروقة. خلال العدوان الأخير توسّع الدمار عبر القصف الجوي إلى قرى خلفية. بالتزامن، صعّدت القوات الإسرائيلية عنفها ضدّ القرى الحدوديّة، مطلقة عملية غزو برية أبرزتها أعمال نسف وتجريف شاملة، وثّقتها “المفكّرة” في تحقيقات سابقة.

اليوم، جغرافيّة جديدة للحرب الإسرائيلية بدأت مع وقف إطلاق النار، عبر خروقات ممنهجة تعبّر عن محاولة التصرّف كسلطة احتلال في نطاقات معيّنة، أو عبر خرائط الإخلاء ومناطق الغارات الدمويّة وأعمال التمشيط اليوميّة ضدّ القرى المحاذية لأماكن تواجد الجيش الإسرائيلي. ويعود الناس إلى أرض محروقة باتت في قلب قرى جنوب الليطاني، لكنّهم يعودون، ما يؤشّر إلى إرادة تتحدّى الإرادة الإسرائيليّة ونواياها لأجل إعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا، في جنوب لبنان، وهي النوايا التي تمظّهرت عبر الغزو ومسح القرى الحدودية، كما تهديم المناطق السكنيّة وتخريب الأراضي الحرجية والزراعية، والقضاء على البنى التحتية في قرى الخطّ الثاني، مع التعبير الصريح عن الرغبة في استمرار تهجير السكان وتقييد العودة في كلّ المنطقة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني