تنبسط مدينة صور على ساحل المتوسط في جنوب لبنان بمساحاتها الطبيعية والزراعية وفرادتها، فيما يتغنى أهلها بمساحاتها العامة والزراعية التي تفتقر إليها المدن اللبنانية الساحلية الأخرى. يعود الفضل في خاصية صور إلى كون 62% من أراضيها هي أراضي أميرية، منها تلك الحقول الزراعية المترامية على امتداد حدها البحري في مخيم الرشيدية حيث تعتاش 123 عائلة فلسطينية من زراعة واستثمار جزء من هذه الأراضي الأميرية. على الخريطة يطغى اللون الأخضر في صور ليدلل على أهمية الأملاك الأميرية والمعايير التي تحكم استغلالها في الحفاظ على هوية المدينة ومصلحة ناسها.
هذه المعطيات أبرَزَها فريق استديو أشغال عامة في ندوة “وينيّي أراضي الدولة؟” التي عقدها مساء الأربعاء 23 شباط 2022 في مركز بيروت للفن في جسر الواطي. بنيت الندوة على بحث معمّق للفريق عينه، غاص في سجلات وزارة المالية حول أراضي الدولة اللبنانية التي تكوّن بيئتنا الطبيعية وتشكّل مصدر رزق وسكن لشريحة واسعة من الناس وترتبط مباشرة بطرق حياة السكان ومعيشتنا المتنوعة على امتداد لبنان، كما يقدم للبحث.
وفتح فريق استديو أشغال عامة نقاشاً استراتيجياً ضد الخصخصة ليشكل مساراً يسعى لصون المجال العام والحفاظ عليه كحق أساسي للأجيال المقبلة في ظل خطاب يدعو إلى خصخصة أملاك الدولة كوسيلة لإنقاذها من الإفلاس في ظل الانهيار المالي والاقتصادي حالياً، إضافة إلى اقتراحات إنشاء صندوق يمكّن المصارف من وضع اليد على أصول الدولة المختلفة ومن بينها الأملاك العقارية. ويأتي هذا الحديث وأهمية الإضاءة عليه ومواجهته لدى ربطه بالسياسات الوطنية التي اعتُمدت تاريخياً وسلبت المجال العام أو عرّضته للإهمال. وقد قدمت كتلة الوفاء للمقاومة عبر النائبين حسين الحاج حسن وغازي زعيتر اقتراح قانون لدمج الأراضي الأميرية بالأراضي الملك للمستفيدين من استثمارها ونفعيّتها، ليبيّن مخاطر تخلّي الدولة عن أملاكها من دون أي مقابل مما سيؤدي مع الوقت إلى فقدانها وظيفتها الاجتماعية كأملاك أميرية وتحوّلها إلى سوق المضاربات العقارية خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منعاً الناس ومن بينهم المستفيدين من هذه الأملاك.
وتحت مسمى “توزيع الخسائر” يحمّل القيمون على الدولة اليوم باقتراحاتهم الأجيال المقبلة الخسائر، ويعفون الجهات المسؤولة فعلاً عن الأزمة من تحمّل أي مسؤولية، سواء عبر اقتراحات جمعية المصارف أو ما رشح عن الخطة الحكومية لصندوق النقد الدولي.
“وتتراوح مساحة هذه الأملاك بحسب التقديرات بين 20 و25% من إجمالي مساحة لبنان، إلّا أنّها غير مفهومة أو محدّدة بالشكل الكافي بسبب عدم وجود نظام معلومات دقيق يوضح بيانات جميع هذه العقارات بما في ذلك عددها، حدودها، مساحتها، ملكيتها، واستخداماتها”، وفق ما جاء في الدليل البحثي لمواجهة خطر الخصخصة الذي نشره استديو أشغال عامة.
وعرض فريق عمل الاستديو ثلاثة مستويات من استغلال الأرض: السياسات العامّة المتبعة لا سيما في قطاع الإسمنت وفي التنظيم المدني، مستوى المدينة والحي والمبنى، مستوى الوحدة السكنية والغرفة، متوقفاً عند غرفة العاملة المنزلية.
“تحميل الدولة المسؤولية في سبيل الخصخصة”
وخلال الندوة عرض الصحافي الاقتصادي علي نور الدين للمفاوضات التي تجريها الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي، حيث “كانت الخطط المطروحة تدور في فلك واحد هو الخصخصة. جمعية المصارف، مثلاً، قدمت خطة للحكومة حول كيفية التعامل مع الخسائر تطرح فيها وضع 40 مليار دولار من أصول الدولة في صندوق تخفيف الدين الحكومي. وإذا لم تؤدّ عملية استثمار هذه الأصول إلى التعويض عن الخسائر يمكن لمصرف لبنان وضع اليد عليها وبيع الأسهم فيها”. ثم جاءت خطة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي التي قدمها إلى صندوق النقد، وتتحدث، وفق نور الدين “عن إعطاء المودعين 10 مليارات دولار من السندات المرتبطة بالملكيات العامة. وتنص هذه العلاقة الاستثمارية على خصخصة هذه الملكيات لصالح المودعين عندما تعجز مؤسسات الدولة عن إنتاج ما يكفي من الأرباح”. وتنطلق هذه السردية “غير العلمية” وفق نور الدين وتسوّق لها “وسائل إعلامية تتحدث باسم جمعية المصارف من تحميل الدولة مسؤولية تعثرها الاقتصادي وتطالبها بالحل لاستعادة أموال المودعين، على اعتبار أنّ المودعين أودعوا المصارف أموالهم، والمصارف سلّفت مصرف لبنان الذي بدوره سلّف الدولة”. هذا مع العلم أنّه، بحسب نور الدين، “86% من خسائر القطاع المصرفي لا علاقة لها بتسليفات المصارف للدولة بل بميزانية مصرف لبنان، و82% من الخسائر الموجودة في ميزانية مصرف لبنان لا علاقة لها بسندات اليوروبوند بل بالفرق بين التزاماته بالدولار وبين السيولة التي يملكها بالعملات الصعبة والتي تسببت بها الهندسات المالية”.
وبما أنّ “مصرف لبنان من الجهات المسؤولة عن الانهيار الاقتصادي والمالي وتضرّر صغار وكبار المودعين، ومع الحديث عن أهمية تقاسم الخسائر وكيفية تحصيل حقوق المودعين وتمويل الميزانية العامة بحثنا في حصة المصرف من أملاك الدولة العقارية وقيمتها”، تقول منسقة البحوث في استديو أشغال عامة تالا علاء الدين. وتوصّل البحث إلى أنّ “مصرف لبنان يملك محفظة عقارية كبيرة باسمه يصل عددها إلى 1037 عقاراً وتقدّر مساحتها الفعلية 43 مليون متر مربع”. وهنا يبدي نور الدين تخوفّه من “خسارة أملاك المصرف” التي يشبهها “بالصندوق الأسود التي لا نعرف عنها شيئاً”.
مخاطر تخلّي الدولة عن 52% من أملاكها
تعرّف تالا علاء الدين الأملاك الأميرية بـ “الأراضي التي تملكها الدولة وتشكّل 52% من إجمالي أملاكها، ويكون لها حق ملكية الرقبة فيها، لكن يعطى للسكان حق التصرف بها، أي استعمال الأرض الشاغرة ضمن شروط معينة. ويكتسب شخص أو مجموعة أشخاص هذا الحق بعد عشر سنوات من إشغال الأرض، بينما يسقط الحق مع عدم استخدامها لمدة خمس سنوات”. واقتراح القانون الذي قدّمه النائبان الحاج حسن وزعيتر، يعني إلغاء حق التصرّف في الأراضي الأميرية وتحويله إلى حق ملكية للمنتفعين منها، أي تخلّي الدولة عن ملكها من دون مقابل. و”ويعزو مقترحو القانون ذلك لتحقيق التنمية المتوازنة والمساواة بين المناطق من ناحية الملكية. فمنطقة البقاع مثلاً تضمّ أكثر من 70% من مجمل الأراضي الأميرية (33% منها في قضاء بعلبك وحده) لذا ربطوا الإهمال في المنطقة بطغيان الأراضي الأميرية”، وفق رئيسة وحدة الأبحاث في الاستديو عبير سقسوق.
تحذّر سقسوق من مخاطر القانون المقترح، من بينها: “خصخصة أملاك الدولة وإعادة توزيعها بحجة تلبية حاجات الناس، ضرب المساواة في الإرث بين النساء والرجال المعتمدة في توريث الانتفاع من الأملاك الأميرية، ضرب القيمة الاجتماعية التي تعززها الأراضي الأميرية إذ تستوجب إدارة مجتمعية أو جماعية للأرض، وضرب إمكانية الوصول إلى الأرض كمورد للإنتاج الزراعي أو السكن لشريحة كبيرة من الناس، بخاصة غير القادرين على الاستئجار أو التملّك، لأنّ حق التصرّف يجري من دون دفع أي بدل للدولة. كما أن خصخصة هذه الأراضي ستطلق حركة بيعها وشرائها خاصة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية لمن سيملكها، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تراكمها بيد القلّة المقتدرة مادياً وتشريعياً وسياسياً. والأهم من ذلك كله سينعكس القانون، إذا أقر، بشكل كارثي على السكان غير اللبنانيين القاطنين على الأراضي اللبنانية لا سيما الفلسطينيين، إذ يمكنهم اكتساب حق التصرف على أرض أميرية والاستفادة من إنتاجها الزراعي في ظل محدودية فرص العمل المتاحة أمامهم في لبنان، إلا أنه لا يمكن أن يكون لهم حق ملكية الأرض بموجب القانون رقم 296 الصادر عام 2001 القاضي بمنع تملك الفلسطيني، أي أنّ المستفيدين من الأراضي الزراعية حول المخيمات لن يكون بإمكانهم الإفادة من القانون في حال إقراره بل سيخسرون فرصتهم بزراعتها والعيش منها”.
أبعد من محاسبة الدولة… هل المصلحة العامة موجودة؟
من جهتها، ترى الباحثة والمخططة المدينية بترا سماحة التي شاركت في الندوة أنّ المقاربة الصحيحة لكل ما مضى لا تتوقف عند مسؤولية “الدولة” وسلبها للمجال العام، فحسب بل تبدأ أولاً من غياب حس المواطنة والحس المديني أيضاً. وتستذكر سؤالاً يردده المدير التنفيذي لـ “المفكرة القانونية” نزار صاغية: “من يحمي الملك العام والحق العام والمال العام إذا كانت الناس لا تحميه؟ وتضيف سلسلة من الأسئلة: “لماذا يغيب العام عن لبنان؟ أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ ومن يخصّ”؟ ثم تحاول الإجابة عن ذلك بالقول: “نصل إلى الدولة والسياسات الوطنية عندما نفهم أنّه لنا حق على الملك العام وليس فيه. صحيح أنّ هناك خصخصة وسلباً للملك العام، لكن الأهم من كل هذا هو عدم وجود شرعية، لأننا لا نشعر بوجود الدولة التي نعدّ جزءاً منها”.
هل الناس اليوم تبدّي المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؟ وهل مفهوم المصلحة العامة موجود أساساً؟ تجيب سماحة عن ذلك من خلال الاستشهاد بالأمثلة التالية: “إذا رجعت قروض السكن سيفرح الجميع لأنه توفر السكن، وسنفرح إذا أخذنا تراخيص سريعة للبناء وإذا انتقلت إلينا ملكية الأراضي الأميرية، لأن المجال العام ينتهي لدينا عند حدود الزعيم الذي يوزع علينا المنافع. لذلك كل ما هو جيد نربطه بصورة الزعيم الذي يهتم بأمرنا، وكل السلبيات نرميها على الدولة”. لكن مهلاً، “من هي الدولة”؟، هكذا تختم حديثها مقترحة أن يكون هذا العنوان (من هي الدولة؟) عنواناً للندوة قبل أن نسأل “وينيّ أراضي الدولة؟”.