أقرّ المجلس النيابي مشروع قانون موازنة العام 2022 في جلسته المنعقدة في 26/9/2022، بأغلبية 63 نائبا مقابل معارضة 37 نائبا وامتناع 6 آخرين. وبنتيجة التأخر في إقرار الموازنة أكثر من 9 أشهر، يُفترض أن تسري مفاعيلها نظريا لمدّة 3 أشهر فقط، مع ترجيح بأنّ تطول هذه الفترة بفعل التأخر في إقرار موازنة 2023. فالحكومة لم تتسلّم بعد مشروع موازنة السنة المقبلة من وزير المال والتي يُفترض وفق المواعيد الدستورية والقانونية أن تكون قد انكبّت على مناقشته. إلّا أنّ مشاهدة أداء الحكومة (التي يُفترض وفق الأخبار المنتشرة أن تبقى تركيبتها كما هي عند التأليف باستثناء تعديلات طفيفة) خلال الجلسة تظهر بوضوح فقدانها الأهلية والقدرة والإرادة في إعداد موازنة جدية وصادقة. واللافت أنه قيل مرارا خلال المناقشات النيابية تبعا لاكتشاف ثغرات أو مواد غير واضحة في مشروع قانون 2022، “خلّيها هيك هلق وبموازنة 2023 منعدّلها”، مع تسليم الجميع بصعوبة أن يكون هنالك موازنة في العام 2023 في مواعيدها الدستورية.
وفي حين قد ينتظر البعض أن تكون الساعات التسع التي ناقش فيها النواب مشروع الموازنة من دون كاميرات أو تغطية مباشرة حملت بعض الأفكار المعمّقة، إلّا أنّ الواقع يُفيد بأنّ الجلسة طالت لسببيْن، الأول يتعلّق بارتباك الحكومة وإدخال إيرادات جديدة استذكرها وزراؤها في الجلسة ما أجبر موظفي وزارة المالية الحاضرين على إعادة احتساب الأرقام، وثانيا الكم الهائل من المواد في المشروع (121) والتي تُعتبر أغلبها من فرسان الموازنة، حيث تُرفق فيها لتمريرها في زحمة المواد من دون أي تفسير رغم التسليم بعدم دستوريتها.
إذ ذاك، أقرّ مشروع قانون موازنة العام 2022، وسنعمل على عرض أبرز ما تضمّنته جلسة إقراره من تعديلات ونقاشات، مع الإحالة إلى مقال أعدّته “المفكرة القانونية” قبل بدء جلسات المناقشة حيث علّقت فيه تفصيليا على المشروع، بخاصة أنّ أغلب مواده بقيت من دون تعديل أو عُدّلت بشكل طفيف خلال الجلسة، ولم تُناقش حتّى.
1- الحكومة ووزراؤها: أداء مخزٍ
كان أداء بعض وزراء الحكومة مخزيا خلال نقاش مشروع الموازنة، ليس لأنّ الآمال على حكومة يرأسها نجيب ميقاتي مرتفعة، بل لأنّ الشكل الذي ظهرت به أوحى بمستويات جديدة من اللامبالاة والتخلّي عن المسؤولية. أكثر من ذلك، أظهر الوزراء ضعفا وانكسارا أمام من زكّاهم للوزارة، وقد بدا ذلك جليا خلال الجلسة الماضية عندما منع رئيس المجلس النيابي وزير المالية من إكمال كلامه بصورة مهينة. وقد انعكس هذا الأداء على سير الجلسة بحيث شهدت ارتباكا من الوزراء بخاصة وزير المالية، أدّى إلى إطالة أمدها بانتظار جهوز الحسابات. والأسوأ في هذا الأمر، أنّ تركيبة الحكومة ستبقى نفسها مع التشكيلة الجديدة المرتقبة، وهي تشكيلة ستحظى بصلاحيات إضافية عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في ظلّ ارتقاب لفراغ رئاسي غير معلوم المدّة.
بدأت قصّة الإرباك الحكومي منذ أن أرسل وزير المالية يوسف الخليل تقريرا من وزارته حول بعض التعديلات والأرقام الجديدة قبل أيّام من الجلسة، حيث يُستغرب أن تصل هذه الأرقام إلى المجلس النيابي في هذا الوقت. فالمجلس كان من المفترض أن يستلم هذه الأرقام عندما بدأ مناقشة الموازنة قبل أسبوعيْن حيث لم يكن يُفترض أن يجتمع مجددا لولا فقدان النصاب حينها، لا بل كان يُفترض أن ترسل هذه الأرقام إلى لجنة المال والموازنة خلال الأشهر السابقة التي ما فتئت تشتكي عن عدم تعاون وزارة المالية معها فيما خصّ الأرقام.
في التقرير الذي اشتكى عدد من النواب (سليم عون وأسامة سعد) على عدم حصولهما عليه، أكّدت الوزارة على أنّ الأرقام لن تكون دقيقة بخاصة فيما يتعلّق بزيادة رواتب موظفي القطاع العام، مع تعذّر في تحديد الكلفة الدقيقة. إلّا أنّها في الوقت عينه قدّرت العجز ب16 ألف مليار ليرة، أي بعجز يصل إلى حوالي 40% من الموازنة. أوّل المنتقدين لذلك كان رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان الذي اعتبر أنّ لجنته عملت على المشروع لستة أشهر للخروج بأرقام واضحة، إلّا أنّ كلّ شيء ما زال مبهما.
وتعليقا على تقرير الوزارة، ذكر النائب علي فياض أنّ هناك إيرادات غير محتسبة كإيرادات وزارة الأشغال جرّاء التعرفة الجديدة للمطارات والمرافئ وفرض استيفاء رسوم السفر من الشركات بالدولار، أو إيرادات وزارة الاتصالات التي ارتفعت بعد زيادة التعرفة، أو إيرادات بقيمة 900 مليار غير مذكورة في الموازنة من قرض القمح الممنوح من البنك الدولي. عندها، كرّت مسبحة استذكار الإيرادات الجديدة من قبل الوزراء والبدء بتحديد قيمتها تمهيدا لإضافتها على الموازنة. ويُستغرب في هذا الصدد من الثلاثي الوزاري (المال الأشغال والاتصالات) انعدام التنسيق بينهم. فوزير المالية لم يرفق في تقريره إيرادات يُفترض أنّها بدأت تحوّل إليه من هذه الوزارات ولم ينسّق معهما في تقريره، ووزيرا الاتصالات والأشغال لم يستذكرا أنّ إيراداتهما زادت في الأشهر الماضية، لا في جلسات نقاش المشروع في لجنة المال ولا في الجلسة الماضية لمناقشة الموازنة، ولولا تذكير النائب علي فيّاض وإعادة احتساب الإيرادات التي أطالت أمد الجلسة حتى المساء، لكان من الممكن الخروج بأرقام مغايرة كلّيا، ما يعكس الاعتباطية والعشوائية في عمل الحكومة.
في المحصّلة، خلُصت حسابات وزارة المالية إلى عجز بقيمة 11 ألف مليار ليرة (أي مع تخفيض 5 آلاف مليار ليرة)، مع احتساب دولار جمركي على أساس 15 ألف ليرة.
وفيما يعكس الضياع الحكومي بشكل واضح، سألت النائبة نجاة صليبا وزير الطاقة عن نفقة لوزارته بقيمة 5 مليارات ليرة ضمن قوانين البرامج، إلّا أنّه أفاد أنّه لا يعرف عنها شيئا بعد حوالي دقيقتيْن من التفكير والتمحيص. فتولّى علي حسن خليل تبرير النفقة بأنّه سبق وأن لُزّمت ولا يُمكن التراجع عنها. كما سألت النائبة غادة أيّوب وزير المالية عن مادة تتعلّق بالطوابع وخاصة تلك الالكترونية منها، فبادر بالجواب أنّه لا تعليق لديه، ما أوحى بأنّه لا يمتلك أدنى فكرة عن الموضوع.
بالمقابل، برز تولّي علي حسن خليل مسؤولية شرح المواد والتعديلات التي أدخلتها وزارة المالية، حيث حلّ مكان وزير المالية الذي كان يُفترض به تفسير بعض الأمور، لا بل تولّى علي حسن خليل قراءة وشرح التعديلات التي أوردتها الوزارة في تقريرها، وقد أظهر دقّة ومعرفة كبيرة في هذه المهمّة توحي وكأنّه هو من قرّر وصاغ هذه التعديلات. ويعكس ارتباك وزير المال ونقص المعلومات والدقة في إجاباته الدائمة على أسئلة المجلس مقابل التغوّل الذي يقوم به علي حسن خليل على صلاحيات الوزير، تأكيدا على إشاعات سرت حول أنّ الأخير هو وزير المال الحقيقي ولا يزال يتدخّل في كلّ شاردة وواردة تحصل في الوزارة.
2- النقاشات النيابية: التطبيع مع مخالفات الدستور
لم تشهد أكثر من 100 مادة من أصل 121 أي نقاش أو حتى تصويت فعلي، حيث استُنفز الوقت الطويل بمناقشة الأرقام وضبابيتها. وقد كان لافتا عند نقاش بعض المواد تكرار رئيس لجنة المال والموازنة بأنه يتحفّظ على هذه المواد بخاصة لكونها فرسانا للموازنة، معتبرا أنّنا أصبحنا بحاجة لاسطبل نظرا لكثرة الفرسان، لكن البلد في وضع استثنائي ويجدر تمريرها.
وحجة الأوضاع الاستثنائية أصبحت مرافقة لعمل المجلس النيابي في إقرار الموازنات سواء في مضمونها أو في إقرارها من دون قطع حساب أو تمديد العمل بها لأشهر وسنوات عملا بالقاعدة الاثنتي عشرية التي وضعها الدستور لتغطي على الأكثر شهرا واحدا من السنة اللاحقة. وفي حين أن المجلس الدستوري لم يبطل موازنات سابقة رغم إقرارها من دون قطع حساب بحجة أننا نعيش في أوضاع شاذة وأنه من الأفضل أن يكون هنالك موازنة حتى ولو شابها مخالفة دستوريّة من أن لا يكون هنالك موازنة، فإنه تدخل بالمقابل مرارا لإبطال “فرسان الموازنة” أي المواد التي لا تتصل مباشرة بالموازنة السنوية. ورغم الموقف الواضح للمجلس الدستوري، فإن رئيس المجلس النيابي هو الآخر تكيّف مع تمرير فرسان الموازنة وإن أشار لرئيس الحكومة أنّها المرّة الأخيرة التي يقبل بها بهذا الكم من الفرسان. لا بل أكثر من ذلك، رد برّي على النائبة بولا يعقوبيان التي نبهت إلى إمكانية إبطال قانون الموازنة لهذا السبب بعدم جواز “تهديد المجلس”. فكأنه يعتبر أن تذكير المجلس بمخالفة دستورية ليس مسعى لتصويب أدائه إنما تهديد له. وفي السياق نفسه، يلحظ التطبيع مع مخالفة أخرى لا تقل خطورة وهي “غياب قطع الحساب”، إذ لم يكلّف أحدا نفسه سؤال الحكومة عنه.
على المقلب الآخر، تميزت مداخلات النائبين فراس حمدان وأسامة سعد بالتأكيد على حالة اللاعدالة الضريبية التي تخلقها بعض المواد والمخالفات الدستورية الجمّة فيها، من دون أن يلقيا تجاوبا من زملائهم في المجلس أو محاولة للبناء على ملاحظاتهم في أغلب الأوقات. وقد ركّزت النائبة بولا يعقوبيان على عدد من المخالفات الدستورية في المشروع، ونجحت في تحقيق خروقات في بعض المواد على ما نعرضه لاحقا.
ونرفق هنا ملخصا عن أبرز المشاهدات للنقاشات التي دارت خلال الجلسة.
3- النتائج؟
كما أسلفنا، لم يتم نقاش مواد المشروع ال121 بشكل جدّي إلا باستثناءات قليلة. إذ ذاك، سنحصر عرضنا بما تمّ تعديله أو مناقشته جوهريا، مع الإحالة لعرضنا وتقييمنا لمشروع الموازنة الذي بقي جوهره كما هو رغم بعض التعديلات، فبقيت حالة اللاعدالة الضريبية هي السمة الأبرز لهذا المشروع.
الضريبة التراجعية
سبق وأن أشار المشروع (م. 32) إلى اقتطاع ضريبة الرواتب والأجور لمن يتقاضون رواتبهم بالدولار على أساس “القيمة الفعلية” للدولار مقابل الليرة، وهو تعبير فضفاض يُمكن التلاعب به صعودا أو نزولا. وفي حين قد بينّا في المقال السابق كيف يُمكن أن يؤدّي سعر الصرف (إذا كان منخفضا) الذي ستحتسب عليه الضريبة إلى حالة لا عدالة بين من يتقاضى راتبه بالدولار وبين من يتقاضى بالليرة، فإنّ المجلس النيابي زاد من هذا الإبهام. فقد قرّر المجلس النيابي بناء على اقتراح النائب علي حسن خليل، أن سعر الصرف الذي تُحتسب على أساسه الضريبة وتُقتطع سيتم تحديده شهريا بقرار مشترك بين وزير المالية ومصرف لبنان. وبذلك مخالفة دستورية واضحة إذ أنّ هذا القرار يمنح وزير المال ومصرف لبنان صلاحية تعديل الضريبة صعودا أم نزولا على أساس سعر الصرف الذي سيعتمدانه شهريا، وهي صلاحية مكرّسة دستوريا في المادة 82 حصرا للمجلس النيابي الذي له وحده إجراء تعديلات ضريبية. وعلاوة عن المخالفة، فإنّ المجلس لم يُلزم الوزير والمصرف المركزي بأي ضوابط، ما يمنحهما إمكانية تسعير الدولار على 1500 ليرة أو 40 ألف ليرة وما بينهما، فتُصبح الضريبة تصاعدية فعليا كلّما قرّروا رفع سعر الصرف الضريبي، وتراجعية كلّما تمّ تخفيضه.
وفي السياق نفسه، أبقي من دون أي نقاش ما اقترحه المشروع لجهة تجزئة ضريبة الأملاك المبنية على أقسام العقار عن الإيرادات المحققة قبل إفرازه (م. 59). هذا الأمر إنما يؤدي عمليا إلى تحديد النسبة التي تخضع للضريبة ليس على أساس مجمل المداخيل التي قد يحققها أصحاب الأملاك العقارية من مجموع عقاراتهم أو من كل من عقاراتهم على حدة، إنما على أساس كل قسم يملكونه. ومن شأن هذا الأمر أن يُضيّق من إمكانية تطبيق الضريبة التصاعدية على الأملاك المبنية.
تمكين الشركات والمؤسسات من تخفيض قيمة الضرائب المتوجبة على أرباحها أو التنصل منها
أبقى البرلمان على مداخل عدة لتمكين الشركات والمؤسسات من تخفيض قيمة الضرائب المتوجبة على أرباحها. ولعلّ أخطر الأحكام في هذا المجال، المادة 27 التي سمحت بإجراء إعادة تقييم استثنائية للأصول الثابتة للمكلّفين، ما يفتح المجال أمام الشركات الكبرى والمصارف لإعادة تقييم أصولها لقاء تسديد ضريبة متدنية قريبة للإعفاء الكامل وهي 5% على الأرباح الناتجة عن فروقات الأصول الثابتة و3% على الأرباح الناتجة عن فروقات العقارات، وهي ضئيلة جدا مقارنة بالضرائب المفروضة على أرباح شركات الأموال مثلاً (17%)، وبخاصةً أنّ هذه الأرباح متأتّية عن فروقات في أسعار الأصول نتيجة التضخم من دون أي جهد ومن دون أن تكون داخلة في صلب أعمال هذه الشركات. وقد برز في هذا الصدد توجهان مختلفان، الأول للنائب محمد خواجة الذي طلب تمديد مهلة إعادة التقييم حتى نهاية 2023، والنائب أسامة سعد الذي أكّد على ملاحظات المفكرة لجهة تدنّي نسبة الضريبة وحرمان الخزينة من الإيرادات. ولإنهاء النقاش، ذكّر النائب إبراهيم كنعان بأنّ هذه المادة كانت موجودة في موازنة 2019 لكن لم يتمكّن الكثيرون من القيام بإعادة التقييم نتيجة للظروف وتعليق المهل، معتبرا أنّ هذه المادة تحفّز الشركات.
في الاتجاه نفسه، تمّ ومن دون أي نقاش إعفاء الشركات الدامجة من ضريبة الدخل على الأرباح لثلاث سنوات من تاريخ الدمج، شرط استخدام الشركة الدامجة لمستخدمي الشركة المندمجة للإعفاء من الضرائب طيلة السنوات الثلاث. أمّا الشركة المندمجة، فتُعفى من أي ضريبة تتوجب عليها خلال سنة الاندماج (م.84). يبقى أن نُِشير إلى أنّه تمّ استثناء المصارف والمؤسسات المالية من هذا الإعفاء، وهو أمر إيجابي حيث تستعدّ بدورها لعمليات دمج.
أخيرا في هذا الصدد، تمّ السماح ومن دون أي نقاش للمكلّفين بإجراء تسوية على التكاليف المتعلّقة بضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة عن أعمال العام 2020 وما قبل المعترض عليها أمام الإدارة الضريبية أو لجان الاعتراضات (م. 18). وإذ تقوم التسوية على دفع 50% من قيمة الضريبة المُعترض عليها، فهي تشكّل مخالفة دستورية تُساهم في اللاعدالة الضريبية وفق ما قرره بوضوح كلّي المجلس الدستوري في قراره 2/2018.
الأموال والشركات الكبرى الجديدة ولا تضامن وطني
برز في مشروع الموازنة معاملة تفضيلية لأصحاب الودائع الجديدة fresh على حساب باقي المودعين. فقد أعفى المشروع فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية لدى المصارف من الضريبة حتى نهاية العام 2028، وذلك بحجة استجلاب الودائع. وقد عارض النائبان بولا يعقوبيان وأسامة سعد ذلك، مؤكدين على ملاحظات المفكرة في هذا الصدد لجهة عدم العدالة والمساواة بين المودع الجديد والقديم الذي سُلبت أمواله أصلا، ولجهة مخالفة المادة لمبدأ سنوية الموازنة. وقد وافقهما النائب جورج عدوان، ليتم بعدها إسقاط هذه المادة.
في المُقابل، أُقرّت المادة 109 من المشروع ضريبة بقيمة 10% على مجمل فوائد وإيرادات الحسابات القديمة سواء أكانت بالليرة أو أي عملة أخرى، أي بزيادة بنسبة 3% عمّا هو معمول به حالياً. وبذلك يكون هؤلاء على عكس من استطاع تهريب أمواله قد تضرروا مرّتيْن: الأولى عند احتجاز أموالهم وانخفاض قيمتها تبعا لذلك، والثانية عند فرض ضرائب جديدة على هذه الأموال. وقد عارض النائب أسامة سعد أيضا هذه المادة مكررا ملاحظاته السابقة حول الإجحاف بحق المودعين وعن عدالة توزيع الأعباء، ولعلّ أبرز ما قاله سعد كان السؤال عن ضريبة التضامن الوطني التي سبق وأن وردت في مُقترح موازنة 2021 الذي أعدّه وزير المال حينها غازي وزني، والتي شكّلت أوّل ضريبة على الثروة في تاريخ لبنان، إلّا أنّها أُزيلت من مشروع العام 2022. وافق النائب حسن فضل الله على ذلك واعتبر رئيس الحكومة ألّا مانع لديه، إلّا أنّ بعض الممانعة من قبل النائب آلان عون دفعت رئيس المجلس النيابي لطلب تقديم ضريبة التضامن باقتراح منفصل عن الموازنة وعدم التصويت عليها ضمن المشروع.
وعلى الرغم من اعتراضات النواب فراس حمدان وأسامة سعد ونجاة صليبا حول استثناء الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الزراعية والسياحية، أقرّ المجلس النيابي إعفاء المؤسسات أو الشركات المنشأة حديثاً والعاملة في المجال التجاري أو الصناعي والتي يزيد رأسمالها عن مليون دولار وتستخدم 50 لبنانيا على الأقل وأن يُشكلوا 60% من نسبة العاملين على الأقل من كامل الضريبة، شرط أن تنشأ في المناطق التي يحدّد مجلس الوزراء أنّه يرغب بتنميتها بموجب مرسوم (م. 23). وقد كان لافتا في هذا الصدد تذرّع رئيس لجنة المال إبراهيم كنعان بالظروف الصعبة والاستثنائية لتمرير هذه المادة حيث اعتبر أنّ العديد من الشركات غير قادرة على الدفع. وتُستغرب المحاججة التي اعتمدها كنعان في هذا الصدد حيث أنّ هذه الإعفاءات ستكون عن أرباح مستقبلية أي عن أرباح سيحققها المكلّفون، ما يعني حتمية تمكّنهم من الدفع في حالة تحقيق الأرباح، وإن لم يحققوا، فلن تفرض ضريبة أصلا. وقد عارض نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب توسيع مروحة الإعفاءات، معتبرا أنّ الشركات ستلجأ إلى إنشاء شركات جديدة ليتم اعتبارها startup وتُعفى وفق المادة 22 التي أعفت الشركات الجديدة من بعض الضرائب أيضا. للاطّلاع على ملاحظة المفكرة عن هاتيْن المادتيْن من هنا.
اللوبي العقاري يفرض سطوته
بداية، لا بدّ من التذكير بتراجع لجنة المال والموازنة عن فرض ضريبة على الشقق الشاغرة (ضريبة على 50% من الإيرادات الصافية المقدرة) والتي وردت في مُقترح وزير المالية إلى الحكومة، رغم الضرورة الماسة في ثني مالكي الشقق على إبقائها شاغرة، بهدف تخفيض بدلات الإيجار استجابة للأزمة الراهنة.
في الاتجاه نفسه، أُقرّ خفّض رسوم تسجيل العقار من 5% إلى 3% بالنسبة للّبنانيين وإن أبقاه 5% لغير اللبنانيين (م. 93). يلحظ أنّ نسبة 3% كانت مطبّقة على الوحدات السكنية المملوكة من قبل لبنانيين على الجزء الذي لا يزيد عن 375 مليون ليرة لكن أتى المشروع ليفيد منها جميع عقود بيع العقارات للبنانيين، بمعزل عن وجهة استعمالها أو قيمتها. إلّا أنّ المادة حملت معها إعفاء للأوقاف من هذه الرسوم. هنا بادر علي حسن خليل لطلب عدم استثناء الأوقاف وطالب بفرض الضرائب على ملكيات الطوائف، وهو ما وافقه عليه النائب بلال عبد الله الذي اعتبرها جزءا من المجتمع وعليها تحمّل الأعباء مثله. وعند بدء النائب إبراهيم كنعان كلامه اعتراضا على هذا الطرح، تدخّل رئيس المجلس النيابي نبيه بري ساحباً الموضوع من النقاش قائلاً: “أسحب هذا الموضوع من النقاش وأنا بتحمّل مسؤولية، لمّا نصير دولة مدنية منبقى منحكي فيه”.
في الاتّجاه نفسه، أقرّت المادة 37 من الموازنة على الرغم من اعتراض النائب أسامة سعد عليها. والمادة 37 في مسودة وزارة المالية فرضت ضريبة على أرباح الأشخاص الطبيعيين عند انتقال أسهمهم في الشركات لأشخاص آخرين، بعدما كان يُستثنى التفرّغ عن أسهم الشركات المساهمة وانتقالها من أي ضريبة، (وهي تشمل الشركات التي يكون موضوعها الوحيد متعلّقا بالعقارات والشركات التي تتعاطى نشاط تجارة العقار أو التطوير العقاري والشركات التي تتجاوز قيمة أصولها الثابتة من العقارات 50%)، وذلك بمحاولة لمكافحة التهرّب من دفع الرسوم العقارية. وفي حين عدلت لجنة المال والموازنة هذه المادة بمنح حسم ضريبي بنسبة 50% من قيمة الضريبة عندما يكون التفرّغ بين الأصول والفروع أو بين المساهمين أنفسهم، فإن كنعان أوضح أن التعديل حصل بناء على طلب من الحكومة. وبذلك، تكون المادة قد فقدت إلى حدّ ما الهدف الرئيسي منها وهو مكافحة التهرّب الضريبي حيث يلجأ أصحاب العقارات إلى إنشاء الشركات المساهمة ليتم عبرها نقل ملكية العقارات لأبنائهم أو شركائهم من دون أن يتكبّدوا أيّ رسوم.
وما يزيد من قابلية هذه المادة للانتقاد هو إضافة تعديل يتيح لأي مساهم في أيّ شركة (يفهم أنها عقارية وإن بقي النص مبهما وأمكن تطبيقه على حالات أخرى) أن يجري إعادة تقييم استثنائية لأسهمه على أن تخضع الفروقات الإيجابية لضريبة بقيمة 1% فقط، هذا فضلا عن تمكين الشركات إعادة تقييم أصولها على نحو يؤدي إلى امتصاص الجزء الأكبر من أرباحها وتوفير القسم الأكبر من الضريبة المتوجبة عليها حسبما بينا أعلاه.
الأوقاف والطوائف معفية بانتظار الدولة المدنية
تضمن المشروع إعفاء الأوقاف من رسوم تسجيل الشقق. هنا بادر علي حسن خليل لطلب عدم استثناء الأوقاف وطالب بفرض الضرائب على ملكيات الطوائف، وهو ما وافقه عليه النائب بلال عبد الله الذي اعتبرها جزءا من المجتمع وعليها تحمّل الأعباء مثله. وعند بدء النائب إبراهيم كنعان كلامه اعتراضا على هذا الطرح، تدخّل رئيس المجلس النيابي نبيه بري ساحباً الموضوع من النقاش قائلاً: “أسحب هذا الموضوع من النقاش وأنا بتحمّل مسؤولية، لمّا نصير دولة مدنية منبقى منحكي فيه”.
خطوة إلى الأمام في موضوع الأملاك البحرية … بانتظار المتابعة
شهدت الجلسة نقطة إيجابية بإسقاط المادة 81 من مشروع الموازنة، والتي سوّق لها وزير الأشغال بكثرة ما قبل الجلسة خلال طلّاته الإعلامية. وهذه المادة كانت تسمح بتمديد مهلة تقديم طلبات التقسيط والاستفادة من الحسم الكليّ لبدلات إشغال الأملاك العامة البحرية والغرامات لستة أشهر، وهي تؤشّر إلى مزيد من التسامح إزاء المُعتدين على الأملاك العامة البحرية منذ عقود، من دون تسديدِهم حتى الآن أي بدل إشغال. وللاطّلاع على كامل تعليق المفكرة حول هذه المادة الرجاء الضغط هنا.
أوّل منتقدي هذه المادة كان النائب جميل السيد الذي أشار إلى أنّ المجلس النيابي منذ 4 سنوات يعطي المهلة تلو الأخرى للمعتدين والذين سبق وتمّ إنذارهم. أمّا النائبة بولا يعقوبيان فقد أشارت إلى أنّه يتم تمديد حسم غير موجود في القانون الأصلي، وأكدت أنّ الشاغلين استفادوا من كلّ قوانين تعليق المهل خلال السنوات الأخيرة، مطالبة بإسقاط هذه المادة ووضع اليد على هذه الأملاك. أمّا وزير الأشغال، فقد أفاد أنّه اتّخذ قرارا في هذا الصدد بعدم منح رخص صيانة لكل المخالفين وهو قرار يُتّخذ لأوّل مرّة، كما أنّه أرسل منذ أسبوع تخمينات جديدة إلى مجلس الوزراء لتعديلها، لتتناسب مع تدهور سعر الصرف. أمّا في ما يتعلّق بصلاحيته بوضع الشمع الأحمر عند التقاعس في تسديد الغرامات المتوجبة، فاعتبر أنّه ريثما يتم الوصول للهدم سيتم الختم بهذه الطريقة. إلّا أنّ النواب بولا يعقوبيان وجورج عدوان ونبيل بدر وعلي حسن خليل أكدوا على وجوب إلغاء المادة ووضع اليد مباشرة على الأملاك العامة المعتدى عليها. أما النائب حسن فضل الله فكان ضدّ إلغاء المادة معتبرا أنّها تساعد بالتحصيل، مطالبا بتقصير مهلها. أمّا عن الاسترداد والهدم فقد اعتبر فضل الله أنّنا في لبنان وأنّ الوزارة لا تملك الإمكانيات للقيام بذلك حاليا. وقد بدا هذا الأمر بمثابة إقرار بأن القانون لا ينفذ في لبنان وأن الأملاك العامة تبقى سائبة. وختاما تمّ التوافق على إسقاط هذه المادة، ما سيتيح لوزارة الأشغال البدء بالإجراءات القانونية اللازمة بحق المخالفين.
وفي سياق متّصل، تمّ التراجع عن المادة 110 المتعلّقة بالسماح بتأجير أملاك الدولة الخصوصية التي انتقدتها المفكرة مطولا لما تتيحه من إمكانية إيجار طويل الأمد لأملاك الدولة بأسعار بخسة. وقد أجمع النواب بولا يعقوبيان وغسان حاصباني وجميل السيد على معارضة هذه المادة، للملاحظات التي أفردناها إضافة إلى ما اعتبروه تقييدا لأملاك الدولة في حال أرادات التصرّف بها بشكل مغاير. أمّا النائب إبراهيم كنعان فقد اعتبر أنّ هذه المادة تؤمّن إيرادات للخزينة عبر تأجير الأملاك، وهو ما أكّد عليه النائب علي فياض مؤكدا أنّها ستخضع لضوابط قانون الشراء العام. أمّا النائب جورج عدوان فاعتبر أنّ الموضوع فيه من الخطورة وتمنّى لو يتم إرساله بمشروع منفصل لدراسته بدقة. وقد تم إسقاط المادة بعد موافقة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على ذلك.
مساعدة موظفي القطاع العام
نصّ مشروع القانون على منح مساعدة اجتماعية لكل من يتقاضى راتبا أو أجراً أو مخصصات من الأموال العمومية بقيمة 100% من أساس الراتب على ألّا تقل عن مليوني ليرة لمن هم في الخدمة الفعلية و1.7 مليون للمتقاعدين، وألّا تزيد عن 6 ملايين لمن هم في الخدمة و5.1 للمتقاعدين. وقد علّقت لجنة المال والموازنة هذه المادة تاركة أمر التقرير بها للهيئة العامة، وهو ما قد يثير مخاوف لجهة عدم دفعها أصلا. إلّا أنّ الهيئة العامة وبناء على اقتراح من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وتعديل من وزير المالية، قد ضاعفت الرواتب 3 أضعاف مع الاستغناء عن المساعدة الاجتماعية.
وفي التفاصيل، تولّى النائب علي حسن خليل قراءة مشروع التعديل الذي أعدّته وزارة المالية، والذي ضاعف الراتب 3 مرّات وبحد أدنى 5 ملايين ليرة وحدّ أقصى 12 مليون ليرة للزيادة، وقد تمّ إرجاء التصويت عليه حتى الجلسة المسائية بعد نقاش طويل، إلاّ أنّه لم يتم التصويت عليه مساءً رغم تذكير النواب ملحم خلف وغادة أيوب وبولا يعقوبيان، علما أنّه قد تمّ إدراج هذه الزيادة في بند النفقات. إزاء ذلك، يتوقّع أن يعتبر المجلس أنّه تمّ الموافقة على هذه المادة، رغم عدم التصويت عليها أصولا، وإن يبقى هامش للضبابية.
وفي النقاش، حاولت النائبة بولا يعقوبيان إقصاء الموظفين الوهميين وغير القانونيين من هذه الاستفادة. وعلى العكس من ذلك، حاول النائبان علي حسن خليل وبلال عبد الله التنسيق حتى تشمل الزيادة كل من يتقاضى أجرا من الدولة وصولا إلى البلديات والمستشفيات الحكومية.
إلى ذلك، أُقرّت مواد تتعلّق بتشجيع التقاعد المبكر للعسكريين والمدنيين على حدّ سواء.
زيادة اعتباطية لبعض الضرائب والرسوم وإعفاءات
شهدت الجلسة زيادة لبعض الرسوم والضرائب اعتباطيا، من دون أي سبب أو دراسة أثر اقتصادي أو مالي أو حقوقي. فقد طلب وزير العدل زيادة الرسوم على الشكاوى والإجراءات الجزائية من 50 ألف ليرة كما وردت في المشروع إلى 100 ألف ليرة، متجاهلا أثر ذلك على حقوق المتقاضين ومبدأ مجانية الشكاوى الجزائية. ويُدفع هذا الرسم عند تقديم الشكوى أو الادّعاء وفي كل مرحلة من مراحل التحقيق والمحاكمة، كما وعند تقديم الدفوع، كما وعلى كلّ تقرير صادر عن طبيب شرعي أو وكيل تفليسة، من دون أن تمسّ الرسوم الموجودة أصلا (م. 102)، على أن تذهب جميع هذه الرسوم المجباة إلى صندوق تعاضد القضاة، في مخالفة لمبدأ شيوع الموازنة أي عدم تخصيص إيراد معيّن إلى نفقة معيّنة. وقد اعترضت النائبة بولا يعقوبيان على هذه المادة، كما أفاد النائب إبراهيم كنعان أن اعتكاف القضاة لم يعد مقبولا وأنّ هناك خدمة عامة يجب تأمينها. انتهى النقاش على اعتماد الصيغة التي وردت بها المادة، أي فرض رسم 50 ألف.
كما قرّر رئيس مجلس النواب من تلقاء نفسه زيادة الضريبة المقطوعة على شركات الأوفشور من 10 ملايين ليرة بموجب المشروع إلى 50 مليون ليرة وتمّ المصادقة على ذلك من دون أي نقاش (م. 41). إلى ذلك تمّت زيادة مدّة رسم جمركي لم يكن موجودا من قبل بقيمة 10% من 3 سنوات إلى 5، على السلع والبضائع التي يتمّ استيرادها إذا كان يُصنّع في لبنان مثيلاً لها بكميات تكفي الاستهلاك المحلي، وعلى السلع والبضائع المصنّفة كسلع وبضائع فاخرة (م. 72). كما طلب رئيس الحكومة مضاعفة بعض رسوم الطابع المالي وتمّ المصادقة على ذلك (م. 95).
أمّا بالنسبة إلى الرسم الذي يسدد للاستحصال على جواز سفر (م. 91)، طلب ميقاتي أن تبدأ الأسعار من 30$ لمدّة 5 سنوات و60$ لعشر سنوات لأنّ كلفته مرتفعة جداً، علما أنّ المشروع ورد ب600 ألف ليرة لمدة 5 سنوات ومليون و200 ألف ليرة للعشر سنوات. ردّ النائب جميل السيد (مدير عام الأمن العام السابق) بأنّ الكلفة لا تتعدّى 8$، وأنّ هشام عيتاني (أحد أشهر المتعهدين المقرّبين من تيّار المستقبل) أراد أن يأخذ التعهّد بـ 15$. انتهى النقاش بجعل رسم جواز السفر لمدة 5 سنوات مليون ليرة، مقابل مليوني ليرة لمدة 10 سنوات، من دون أي دراسة لهذه الأكلاف ومن دون أن يتناول أي من النواب تقاعس الأمن العام في تسليم جوازات السفر للمواطنين خلال مهلة معقولة.
بعد الانتهاء من دراسة المواد، طلب النائب علي فياض إدخال مادتّيْن لطالما وردتا في الموازنة بحسب قوله، وهما تخفيض الغرامات على المتخلّفين عن دفع الرسوم والضرائب، إضافة لتمديد مهل قانون تسوية مخالفات البناء. ففي موضوع التسويات، اعتبر فياض أنّ المواطنين لم يستفيدوا من المهل الممنوحة لهم بسبب الأحداث في السنوات الماضية، فطلب تمديد مهل التسوية لمدّة سنتيْن مع تأكيده على موافقة رئيس لجنة الأشغال النيابية سجيع عطية على ذلك، فتمّت الموافقة على المادّتين. وللتذكير فإنّ القانون الذي تمّ تمديد مفاعيله يحمل طابعا تشريعيا لمخالفات البناء منذ العام 1971، مع ما تحمله من تسامح تجاه اعتداءات على الملك الخاص والعام وعلى البيئة وتأطير لمفاعيل الزبائنية. للمزيد عن قوانين تسويات مخالفات البناء من هنا.