لا يكاد يمرّ يوم في لبنان من دون قصة مأساوية تختصر الواقع العام المتقهقر. حمل صباح الإثنين خبرين صادمين للبنانيين مع وفاة الطفل وليد المانع (عامان) في طوارئ المستشفى الحكومي في طرابلس، وريحانة شقير (خمسة أشهر) في قسم الطوارئ التابع لمستشفى بعلبك الحكومي.
مرّ الخبران بين الأخبار المحلية كخبري وفاة عابرة على أبواب المستشفيات، ولكنّها أكثر من ذلك. هي ببساطة مؤشر على التمييز في منح الحق في الصحة وبالتالي في الحياة في لبنان يستهدف بشكل خاص محدودي الدخل الذين يستنجدون بمستشفيات حكومية ولا يلقون المساعدة التي يطلبونها فيسلّمون أنفسهم أو أولادهم للقدر المحتوم على أبوابها.
وليدُ طرابلس المظلوم
وليد، ورغم تضارب الروايات، فارق الحياة فجر الإثنين 13 تموز بسبب عدم وصوله إلى جهاز تنفّس. وبحسب العائلة المتواضعة الحال التي ينتمي إليها الطفل فقد نقل ابن السنتين إلى المستشفى الحكومي وهو مصاب بالتهاب رئوي، وأثناء انتظار الطبيب الذي تقول العائلة إنّه تأخّر كثيراً، لم يتمكّن الطفل من المقاومة وفارق الحياة.
استفزّت وفاة وليد في قسم الطوارئ وعدم نقله إلى قسم العناية للحصول على جرعة أوكسيجين طارئة، أفراد أسرته وأقرباءهم ومعارفهم الذين قاموا بتحطيم المعدّات في القسم، وتحميل الطواقم الطبية مسؤولية ما اعتبروه “إهمالاً”.
وعند الظهيرة، شيّع وليد في جنازة وصلت إلى ساحة النور في قلب المدينة حيث أرادت العائلة توجيه رسالة إلى الضمائر الحية في البلاد. وكان مشهداً قاسياً على المارّة، وأشدّ وطأة وقسوة على الوالد الذي حمل فلذة كبده بين يديه وقد لفه بقماش أبيض، وهو مكشوف الوجه. التزم الوالد الصمت، واكتفى بالتحديق بوجه وليده، فيما غالبته الدموع.
استنكر المشيّعون وفاة الطفل واتّهم بعضهم المستشفى بالتقصير وآخرون حمّلوا السلطة مسؤولية إهمال المستشفيات الحكومية وعدم تخصيص موازنات كافية لها. وعلق الناشط خالد الديك عبر “المفكرة القانونية” على ما حصل معتبراً أنّ الشعب يدفع ثمن عدم التفات السلطة إليه، وحرمان الناس من حقوقها الأساسية. وطالب المنتفضين برد فعل عالي السقف، للحؤول دون تكرار ما حصل مع وليد ووقف الموت على أبواب المستشفيات.
مستشفى طرابلس: نحن لم نقصّر
تواصلت “المفكرة” مع مدير المستشفى الحكومي في طرابلس ناصر عدرة الذي نفى تهمة التقصير. وأشار إلى أنّ الطفل توفّي أثناء تلقّي العلاج في قسم الطوارئ. ولفت إلى أنّه كان بحاجة إلى جهاز تنفّس ـوإلى نقله إلى قسم العناية المركّزة للأطفال ولكن نظراً إلى عدم وجود مكان له قي القسم وعدم وجود جهاز تنفّس فارغ في المستشفى تواصلت المستشفى مع عدة مستشفيات لتأمين الجهاز أو لنقل الطفل إليها ولكن من دون جدوى ليفارق الطفل الحياة فجراً. ورداً على سؤال عن مفارقة عدم وجود أجهزة تنفّس كافية في الوقت الذي يتمّ الحديث منذ فترة عن تجهيز المستشفيات الحكومية لاستقبال مرضى كورونا، لفت عدرة إلى أنه من الناحية التقنية يختلف جهاز تنفّس الأطفال عن ذلك المخصص للكبار.
“ريحانة” بعلبك تذبل باكراً
في المقلب الآخر من جبل المكمل الذي يربط الشمال بمحافظة بعلبك – الهرمل بالتهميش والمعاناة وسلاسل الفقر التي تكبّل الأنفاس، توفّيت ريحانة ابنة الأربعة أشهر بسبب عدم توفر التجهيزات الكافية للعناية بالأطفال في مستشفى بعلبك الحكومي.
بحسب ما روى علي والد الطفلة لـ”المفكرة” أنه بعد عودة الطفلة من رحلة برفقة أمها وأختها، ظهرت عليها مؤشّرات صعوبة في التنفس، وكان هو خارج المنزل فنقلتها عائلة جدها إلى المستشفى الحكومي في بعلبك.
يقول الوالد إنّه بعد إجراء الإسعافات الأولية في غرفة طوارئ المستشفى الحكومي، تبيّن أنّ قسم العناية المركّزة للأطفال مغلق، لافتاً إلى أنّ الإدارة سلّمت بعجزها، وطالبت الأهل بنقلها إلى مستشفى خاص. وأبلغتهم بأن هناك نظاماً معتمداً يقضي بعدم نقل أي مريض أو تحريك آليات الصليب الأحمر من مستشفى إلى آخر قبل تأمين الموافقة. وبدأت العائلة رحلة البحث عن مستشفى لاستقبالها لتنجح في النهاية عبر التواصل مع “الواسطات” في الحصول على قبول مستشفى دار الأمل الجامعي استقبالها. ولكنّ التأخير الذي ساهمت فيه عوامل أخرى أيضاً غير التواصل مع مستشفيات المنطقة للحصول على موافقة وهو استهداف حاجز للجيش في بريتال، أدّى إلى وصول الطفلة إلى دار الأمل وهي تلفظ أنفاسها.
يرفض الأب توجيه اتهامات أو إدانة أحد بوفاة ابنته التي لم تتم الخمسة أشهر فهي من مواليد 20 شباط 2020، ويسلّم بالقدر الذي أخذها منه في 13 تموز من السنة نفسها. ويقول الوالد “بنتي عبرة لغيرها، نحن لا نتهم المستشفى بالقتل، ولكن نطالب بتجهيز المستشفيات الحكومية لعدم تكرار الحادثة”.
ويقول حسين علّام عضو مجلس إدارة دار الأمل الجامعي لـ”المفكرة” إنّه فور وصول الطفلة إلى المستشفى نقلت إلى قسم الإنعاش ولكنها كانت “متوفاة”، وأنّ الفترة التي قضتها في المستشفى لم تتجاوز نصف الساعة وتزامن مع وصل جرحى الجيش الذين أصيبوا في بريتال. ويؤكّد أنّ التأخير في إحضارها هو المسؤول بشكل أساسي عن وفاتها، مشيراً إلى أنّه كان يجب نقل الطفلة إلى مستشفى مجهّز منذ البداية.
نقص في العناية المركّزة المجهّزة للأطفال
يقول علّام إن هناك مستشفيين إثنين مجهزان للعناية المركّزة بالأطفال في بعلبك أحدهما دار الأمل (الآخر هو مستشفى الريّان). ويجزم علام أنّ هناك ضغطاً كبيراً على أقسام الأطفال في المنطقة، فعنده في المستشفى 27 جهاز تنفّس للأطفال المواليد في قسم العناية بالأطفال المواليد (ICN intensive care nursery)، و6 أجهزة للأطفال فوق 4 أشهر، جميعها مشغولة، لافتاً إلى أنّ المستشفى يلجأ عند الضرورة إلى وضع أجهزة تنفّس الأطفال لمن هم أكثر حاجة عند قدوم حالات طارئة وخطرة، لأنه “على كل مستشفى القيام بما يلزم”.
يتحدث علام عن توزيع غير عادل لموازنات وزارة الصحة بين المستشفيات التي يستفيد بعضها من دعم سياسي، ويلفت إلى أنّ وزير الصحة السابق غسان حاصباني “الذي لا تربطه معرفة ومصلحة به”، حين أعاد النظر في توزيع الموازنة ووضع معايير علمية حسب عدد المرضى والموقع وجودة الخدمة، اصطدمت خطته الوزير بعقبات السياسة والحصص.
بدوره يلفت المدير الطبي لمستشفى سير الضنية الحكومي سهيل الصمد إلى أن الوضع في المستشفيات الحكومية أسوأ من الخاصة، وخصوصاً الواقعة في الأرياف والأطراف. ويتحدث عن تفاوت في توزيع المساعدات والهبات على المستشفيات، ويعطي مثالاً على ذلك، “في وقت حصل بشري الحكومي على مليون ونصف مليون دولار، لم يصل إلى سير إلا النذر اليسير (حوالي عشرة آلاف دولار) مقارنة بمستشفيات أخرى تديرها الحكومة”.
ويقول الصمد إنّه في مستشفى سير الحكومي لا يوجد ولا أي جهاز تنفّس للأطفال، وفي حال حدث أي طارئ سيتم تحميل المسؤولية للكادر الطبي مع أنّ كل المعدّات إما غير موجودة أو بدأت تنفذ.
ولكن يرفض رضا الموسوي مسؤول العلاقات العامة في وزارة الصحة أن تكون وفاة الطفلين ناجمة عن عدم توفّر الأوكسجين أو نقص في التجهيزات الطبية. ويلفت إلى أن الوزارة فتحت تحقيقاً في القضيتين وأحيل الملف إلى التفتيش لكشف الملابسات، وستتم متابعته إلى حين تحديد المسؤوليات.
النقص لا يطال الأطفال فقط
قصة وليد وريحانة ليست الأولى، وإنما تعتبر مؤشراً لضرورة الاستعجال في حل مشكلة الإستشفاء في لبنان بشكل عام. يروي الشاب راشد فياض عبر “المفكرة” تجربته مع المستشفيات، فنهار الجمعة الماضي تعرض لخلع في كتفه أثناء ممارسة السباحة في شكا. تعذب كثيرا قبل أن يجد مستشفى فيه قسم مهيأ لجراحة العظم. وتواصل رفاقه والأطباء مع خمسة مستشفيات خاصة في طرابلس لاستقباله بعد أن اجرى صورة سكانر في مستشفى دار الزهراء، وكان الجواب أنه بحاجة إلى بنج عام وهو ليس متوفر في ذلك المستشفى. كما أن أقسام الطوارئ في المستشفيات لا يتوافر فيها متخصص بجراحة العظم، وأنه يجب دفع تكلفة العلاج سلفاً على الصندوق، قبل أن يتم استدعاء الطبيب وإعطائه علاج مسكن.
بقي الشاب يتنقل بين المستشفيات الخاصة نحو الساعتين إلى أن تكفّل به أحد موظفي المستشفيات الخاصة التي وصل إليها على أن يدفع كلفة العلاج بصورة لاحقة.
حرروا الأوكسيجين من الاحتكار
سلطت وفاة الطفلين في طوارئ مستشفيات تابعة للحكومة الضوء على مشكلة أجهزة التنفس، وذلك بعد فترة من الحديث عن تجهيزها لاستقبال مرضى كورونا COVID 19. وتعتبر مشكلة الحصول على الأوكسجين الصناعي أحد أكبر المشكلات التي تعاني منها المستشفيات في الشمال وبعلبك – الهرمل.
يلفت مدير مستشفى دار الزهراء نصر معماري إلى أنّ “سعر الأوكسيجين تضاعف بسبب الاحتكار الذي تمارسه شركتا الإنتاج والتوزيع”، ويقول إن هذه الشركات مغطاة سياسياً، لأن أحد كبار المساهمين هو إبن نائب لبناني برتبة لواء.
حسب معماري تطلب شركات الأوكسجين بقبض الثمن نقداً بالدولار، وهذا ما سيزيد من خطر فقدانها مستقبلاً في المستشفيات، وعقبة الدولار نفسها، هي التي تواجهها مع شركات المستلزمات الطبية التي تتذرع بنقص البضاعة.
يؤكد معماري عبر “المفكرة” أن هناك مشكلة إضافية في المستشفيات، لناحية تضاعف فاتورة الطعام سبعة أضعاف، و”لم يعد السقف المالي للوزارة يغطي أكثر من نفقة الأكل لسرير واحد”. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ هناك خطر توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات بسبب عدم تأمين مادة المازوت. وكذلك الأمر بالنسبة إلى صيانة المعدات الطبية والآلات التي تطالب الشركات المصنّعة دفع الفاتورة لها بالدولار أيضاً.
ويشدد معماري على أننا دولة مستوردة لكل شيء، وأن القطاع الطبي أكثر قطاع تهدده الأزمة، قائلاً “آكلينها من كل الجهات”.
غرف الجراحة في الإنعاش
في حديثه مع المفكرة يقدّم د. سهيل الصمد الذي يشغل أيضاً رئيس قسم الجراحة في مستشفى المظلوم “صورة مقلقة” لواقع القطاع الاستشفائي، وغرف الجراحة لأن “الأطباء عادوا إلى الطرق التقليدية، وبدأ الاستغناء عن جراحة المنظار المكلفة”.
يشير الصمد إلى مخاطر تتصل بعلاج المصابين بالكسور لأن أغلب المستشفيات لا تمتلك القدرة المادية على تأمين المستلزمات لها بسبب كلفتها العالية، كما أنها لا تمتلك مخزوناً منها. وعليه هناك صعوبة في تأمين البراغي و”البروتيز” و”البلاك”. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما هناك مشكلة تلوح بالأفق لأن “الأدوات الحديثة لتقطيب الجروح باتت غالية” وعدنا للخياطة بالخيط العادي. ويؤدي لجوء الأطباء إلى الوسائل الكلاسيكية، إلى مفاعيل جانبية، ويؤخر الشفاء أحياناً. وينسحب الوضع على مواد التخدير وأدوية البنج التي انقطع بعضها، وإضطر الأطباء لإستخدام تركيبات معدّلة ومطوّرة بمجهود شخصي.
ينطلق الصمد من تجارب شخصية ليقول إن “المستشفيات باتت تعطي الأولوية للحالات الطارئة، وتؤجّل ما يمكن تأجيله من الحالات الأخرى” عملاً بالتوجه الذي بدأته نقابة المستشفيات الخاصة. كما انعكس نقص المعدات الطبية على علاج الأمراض المستعصية، فهو واثناء علاجه لأحد مرضى السرطان، احتاج لوصل الأمعاء بالمخرج، وواجه صعوبات هائلة في تأمين الوصلات الصناعية.
ويحمّل الصمد المسؤولية لتعدّد أسعار صرف الدولار، فهو بلغ حدوداً قياسية غير مسبوقة (10 آلاف ليرة)، الأمر الذي يؤدي إلى خسارة المستشفيات عند إجراء بعض العمليات المكلفة، وتزداد الخسارة بفعل فارق التسعيرة التي تحددها الجهات الضامنة، والتي تعتمد سعر صرف 1500 ليرة لبنانية للدولار.
يخلص الصمد إلى أنّ أزمة كورونا التي تزامنت مع الأزمة الإقتصادية كانت قاسمة للقطاع الطبي، وحرمت المستشفيات جزءاً كبيراً من مداخيلها بسبب عدم استقبال الحالات الطبية، وعدم قدوم المرضى إليها خشية الإصابة بالعدوى المستجدة، الأمر الذي ينعكس سلباً عليها، ويمنعها من تطوير مرافقها وتمويل عمليات شراء التجهيزات.
مستشفيات بعلبك الهرمل والموت البطيء
يتّضح أن القطاع الاستشفائي يتّجه نحو المجهول، ويختصر ابن الهرمل الدكتور أنور علوه الصورة القائمة، بقوله إنّ “الناس عم تموت على مهل، ويا ريت كان سريع “.
وفي عيادته الواقعة في ساحة الهرمل، يستقبل علوه مئات المرضى، وهذا المكان الذي احتضن آلام أبناء المنطقة لأربعة قرون، يعيش اليوم حالة احتضار “لا كهرباء، لا ماء، لا مواعيد، وفوضى بسبب غلاء الدولار كانت علبة الكفوف بخمسة آلاف أصبحت بستين ألف”. ويقول إنّ النقص في المستلزمات بدأ يظهر فقد بدأ يعاني في الحصول على الإسبيرتو والأوكسيجين لتطهير الجروح، مؤكداً أنه قبل يوم جاءه جريح مصاب، ولم يعثر له على مواد التطهير لتضميده.
يقدم علوه تشخيصاً واقعياً في حديثه إلى “المفكرة”، مشيراً إلى أنّه حسب تعليمات وزارة الصحة يجب توافر غرف العناية وغسيل الكلى في كافة المستشفيات، أما في الحقيقة فهي غير موجودة، مشيراً إلى غياب غرف العناية المجهّزة في مستشفيات الهرمل. ويتحدث علوه عن مسألة غاية في الخطورة، “عند دخول المريض إلى أي مستشفى كان، تبدأ المستشفيات المتبقية برفض استقباله تحت أي حجة”، وكأن هذا الأمر تحول إلى بروتوكول طبي تتفق عليه المستشفيات في الممارسة اليومية. ويذكّر بوفاة الشاب محمود الحاج حسين الذي توفي منذ فترة ما قبل الكورونا، بعد أن رفضت المستشفيات استقباله.
يشير علوه طبيب القضاء ومدير الترصد الوبائي سابقاً، إلى أنه في الهرمل 3 مستشفيات من ضمنها مستشفى حكومي واحد. كما يوجد في بعلبك التي تبعد 50 كلم مستشفى حكومي آخر، ويتم تحويل الحالات المعقّدة إلى بيروت، مشيراً إلى هناك “الكثير من الحكي، فيما يبقى عمل وزارة الصحة عشوائياً وغير منظم”.
في المحصلة، فإن وفاة الأطفال في غرف الطوارئ الحكومية، لا تنفصل عن واقع القطاع الاستشفائي في المنطقتين. ورغم شدّة تأثيرها بالرأي العام، إلّا أنها لن تكون الأخيرة في بلد أصابته الهشاشة والعطب في صميم صحته. في هذا الوقت يتوالى فيه سقوط قطع الدومينو، من عدم قدرة في استيراد التجهيزات الطبية، وانقطاع بعض الأدوية، وصولاً إلى استعداد بعض المستشفيات الخاصة لإقفال أبوابها، وقبل كل شيء تضارب المصالح بين عامة وخاصة عند احتساب كلفة العلاج بين مقدم الخدمة، والدولة، ومواطن ضحية.