تسير فاطمة حسن، بجسدها النحيل ووجهها الذي يزيد البرد من حدّة تجاعيده، نحو محلّها في سوق النبطية التراثيّ. رغم عصف انفجارات الغارات وأتربة الركام، لا تزال ألوان مناديل الحرير “مفرفحة” كما تصفها، وهي تنفض عنها الغبار كأنّها تحتال على الخراب الذي التهم المكان.
في الخارج، تنخر آليات ثقيلة أطلال سوق المدينة الشهير وقلبها، ترفع الركام عن أرضيته، فتزيل آخر أثر له، بعد أن استحال دمارًا. تحت الأنقاض تكمن ذكريات قرن من التجمّعات والمعاملات التي حاكت جزءًا من نسيج المجتمع النبطانيّ اليوم. وتاريخ السوق يمتدّ في الواقع إلى زمن المماليك، شاهد تاريخيّ على عراقة المدينة.
السوق المهدّم، يمتدّ كأنّه ساحة معركة انفضّت للتوّ. تقول فاطمة وهي تنظر إلى الحجارة المتناثرة: “لكن الحقيقة، أنّه كان مجرّد سوق بعيد عن الحرب والعسكر، دمّره الإسرائيلي ليعاقبنا نحن أهل المدينة. تركناه سوق خير ورزق، ورجعنا إليه لنبني من الصفر”.
تتفحّص بائعة المناديل الجدران المتشققة والسقف الذي تساقطت بعض حجارته. تشدّ قبضتها قليلًا، ثم تتركها. ماذا يمكن ليد واحدة أن تفعل أمام هذا الكمّ من الخراب؟
استهدفت إسرائيل مدينة النبطيّة بـ 300 غارة خلال شهرين من العدوان، وفق مصادر بلديّتها، ودمّر الجيش الإسرائيلي أجزاءً واسعة من السوق في قصف مباشر مساء السبت 12 تشرين الأوّل 2024، واستكمل التدمير لاحقًا، حتّى مسح ما تبقّى منه بسلسلة غارات في 14 تشرين الثاني. كما شمل التدمير المحال التجاريّة على طريق النبطيّة مرجعيون، ودمّرت أجزاء واسعة من أحياء المدينة السكنيّة، ومقرّها البلديّ حيث استشهد كامل أعضاء خلية الأزمة أثناء عملهم على توزيع المساعدات. وقد عثرت صحيفة “ذي غارديان” على جزء من الذخيرة الأميركيّة المستخدمة في تدمير السوق، وتسمّى (Jdam)، وهي التي تحوّل القنابل الغبيّة التي قد يصل وزنها إلى طنّ، إلى قنابل موجّهة بنظام تحديد المواقع العالمي.
هذا المقال يبدأ مع فاطمة، لكنه لا يتوقّف عندها عبر شهادات أهل النبطية الذين نسير معهم في سوق مدينتهم الذي تحوّل جزء واسع منه إلى أطلال. نحاول أن نفهم: ماذا يعني فقدان السوق؟ وماذا يعني أن تعود لتبني المكان الذي ارتبط بذاكرتك وذاكرة أجدادك، من الصفر؟
يعرف علي وهبي محل فاطمة للمناديل، كان يقصده قبل كلّ عيد أم لشراء الهديّة السنويّة، يقول، فترتسم ابتسامة حزينة على وجهه. لقد توفّيت والدة الشاب العشرينيّ قبل خمس سنوات: “كانت مريضة، ذبلت وراحت، كانت رح تتوجّع كثير لو شافت هالخراب”. وكان علي يستأنس المرور من جانب المحل، وأحيانًا لا يتردّد بالدخول وإلقاء السلام: “رؤيته مدمّرًا أعاد لي شعورًا خبرته أوّل مرّة بوفاة والدتي. أشعر أنّ شيئًا من أثرها مات اليوم”.
في شهادات الناس هنا، ترتبط الأماكن بأفراد من الأسر، أو بذكراهم، وتنجدل هذه العلاقات معًا، فتصبح نسيجًا واحدًا. حمل محل قاسم صفا للمناديل اسم ابنته لوسيانا، فأضاف طبقة جديدة من اللوعة لدى رؤية لافتة المحل محطّمة، والمحل مدمّر: “مسمّيه على اسم ابنتي”، يخبر من يسأله عن خسارته، فيظهر بعبارته هذه، عمق هذه الخسارة.
نظام عماشة، يزيد من رخامة صوته ضعفين وهو يقول: هذا المحل كان استكمالًا لمسيرة أبي، وأكملت أنا المسيرة، أردته استمرارًا لإرث عائليّ لا يمكن التفريط فيه. دُمّر محلّ الألبسة مع طبقاته الثلاث بفعل القصف الإسرائيليّ، لكن لا يعوز ابن النبطيّة الأربعينيّ شيئًا من الصلابة كي يجزم: “بدنا نبقى صامدين بهالبلد”، مقدّمًا الحجّة على كلامه بأنّ هذا المحلّ “دمّر بالـ 2006 وأعدنا إعماره، وسنعيد إعماره اليوم”.
ولجواد غندور، العشرينيّ ذي الإطلالة الحيويّة واللحية الخفيفة، كلّ هذا السوق هو مكان “الفتلة” التي قد لا تكون على هدى، لكّنها دائمًا ما تثمر: “كنا نشتري كل شي، والنبطية معروفة بسوقها”. والسوق بالنسبة لجواد “عجقة ناس النبطية وأهلها ومحيطها وأحبابها”، لكنّه أيضًا المكان المفضّل لجدّه الذي كان يأتي سوق اللحم (المنشيّة)، شأنه شأن كل أهل المنطقة، كما روى له والداه.
الدمار في كلّ مكان في السوق
ومن بين الشهادات، تتمرّد شهادة أبي محمود، الذي يوسّع من أهميّة السوق بالنسبة له، ليكون الرابط الذي يجمعه “بكلّ الناس”. يشير الرجل الستّينيّ إلى “ساحة التبسيط”، حيث سوق الإثنين الشهير: “كانوا يجوا يبسّطوا فيه من كل البلاد” يقول، مستخدمًا كلمة “البلاد” بمعنى القرى المحيطة بالمدينة، عاصمتهم، في لهجته الخام.
ويبرز السوق كمكان تجمّع وتواصل بين الناس. وسوق الإثنين المدمّر اليوم، عمره قرن من الزمن، “وليس في الجنوب كبير سنّ لم يأته بائعًا أو شاريًا مرّات في حياته، سلوا كباركم يخبروكم”، يجزم أبو محمود.
وقد تأسّس سوق الإثنين عام 1910، ليكون محجّة المزارعين والتجّار والحرفيّين من أهل الجنوب كلّ يوم إثنين، لكنّ تاريخ السوق يُعتقد أنّه يعود لفترات أقدم، وكان يأتيه الناس من مختلف مدن لبنان وفلسطين وسوريا في عهد المماليك، بحسب الروايات المتناقلة: “ليست الجدران والسقوف ما يجعل هذا المكان مهمًا فقط، بل الناس الذين يملؤونه حياة، بحكاياتهم، بتاريخهم المشترك وعلاقاتهم”، تقول فاطمة، وهي تستمع إلى أبي محمود ينتفض على القصص الفرديّة المتناثرة ليصهرها في السياق الجمعيّ العام.
مدخل مسجد الإمام الحسين الذي لم يسلم أيضًا من الغارات
قبل خمسة أيّام، وفي ليلة ملؤها الخشوع، اخترق أهل النبطية أطلال السوق في مسيرة شموع حدادًا على أرواح شهداء المدينة. زينب بدر الدين، إحدى المشاركات، حملت شمعة تتراقص ألسنة لهبها وتضيء مع أخواتها ركامًا وتبدّل لونه من الرماديّ المغبّر إلى الناري المتوهّج: “المسيرة لم تكن فقط لتكريم من رحلوا عنّا بل ولإعادة التذكير بأنّ كلّ زاوية من هذه المدينة تحكي قصة عنهم”، تقول زينب. وتشرح أنّ “الأماكن التي نخسرها تحزننا ليس لأنّنا لا نستطيع استعادتها، بل لأنّها تحمل ذكريات لا تعوّض عن البشر الذين نحبهم، عن تراث أجدادنا، وعن الخطوات الأولى لأطفالنا”. وهذه الأماكن “تذكّرنا بأوّل قصة حب، وبأوّل كزدورة بالسيارة من دون إذن والدينا، وهي شهادة حيّة على حياتنا”، تقول النبطانيّة ذات الأربعين عامًا.
في نهاية اليوم، كان صخب آليّات رفع الركام يزداد حدّة، جلست فاطمة على مدخل السوق، تنتظر ولدها كي يأتي لاصطحابها، وهي تحتضن ما أنقذته من المناديل كأنّها كنزها الأخير. وفي هذه الليلة، فإنّ النبطية، مثل مناديل فاطمة، قد تبدو وكأنّها بهتت، لكنها تحمل في طياتها وعدًا بأن تزدهر من جديد، وفق خلاصة دردشة أخيرة جمعتني مع بائعة المناديل عند أطلال سوق تاريخيّ عريق دمّرته إسرائيل في ليلة واحدة.
وبدت هذه الشهادات، المجبولة بمشاعر أهل النبطيّة وهم يفكّكون علاقتهم بحجارة شاهدهم العالم يبكونها في الصباح التالي لليلة القصف الأولى، جزءًا من قصّة أكبر، وهي قصّة تدمير المدن، ومسح القرى، في نهج إسرائيليّ بدأ في المنطقة الحدوديّة جنوبًا ووصل إلى أقصى البقاع شمالًا، مرورًا بضاحية بيروت الجنوبيّة، ولم تسلم منه النبطيّة، إحدى أهم حواضر الجنوب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.