العبور إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان يتخطّى الانتقال الجغرافي. هو سفرٌ عبر طبقات من التهميش الإضافي. تستقبلك وجوه أهلها في الدكاكين بابتسامة فلسطينية، أو كربٍ فلسطيني يجتاح الوجوه. اللكنة هنا فلسطينية، كما الأسماء والشعارات والأعلام، والهموم فلسطينية، والأحلام فلسطينية فريدة ببداهتها، كلّ شيء هنا فلسطيني، لا ينقصه إلّا فلسطين، والعودة إليها.
داخل كلّ مخيّم تهميش يتجلّى بكلّ أبعاده، من وجوه الناس المتعبة إلى حياة الأطفال التي تحكي فقر الأهل، ومساحات لهوهم في الأزقة الضيّقة. ومن الشبّان الذين أكل الحرمان من العمل، قلوبهم ومستقبلهم، إلى الشوارع التي تبدأ ضيّقة، ثم تتناهى في الضيق كلما تقدّمت. زواريب تأخذك من حيّ إلى آخر، ومنازل رصفت فوق بعضها البعض، شبابيكها تلاصقت، ونور الشمس لم يزرْها البتة. وكي يكتمل المشهد تجذبك الصدفة في مخيّم برج البراجنة، مثلًا، إلى حيث يرفع العابرون بين الزواريب رؤوسهم لتشهد معهم كيف يتناقل عناصر الدفاع المدني الفلسطيني حمّالة عليها سيّدة داهمها طلق الولادة، من شرفة إلى أخرى، كونه لا طريق للسيارات حيث تسكن، ليصلوا بها، بعد عناء، إلى مكان ركن سيارة الإسعاف للإسراع نحو المستشفى.
إنّه البؤس المكثّف بالعيش اليومي هنا، لا يشبه أي بؤس خارجه، وإهمال يطوي حياة الآلاف من دون أن ينطوي عنهم مهما اختلفت ظروفهم السياسية والاجتماعية. العمل ممنوع، الخدمات محجوبة ومعها الحقوق، البلديات لا تكنّس داخل حدود المخيّم مترًا واحدًا، والكهرباء تصل عبر أسلاك تمرّ بين الناس أو تكاد تلاصق رؤوسهم مع قساطل المياه لتقتلهم أحيانًا، فيما التوسّع العمراني ممنوع بغض النظر عن تكاثر المجتمع، ويصبح تهريب كيس إسمنت من هنا وبعض الحديد من هناك خلسة، سمة العيش. والمخيّمات هي لا قرى ولا مدن، يشبه واقعها اسمها، ولو استُبدلت الخيم بهياكل إسمنت.
بهذه الظروف، يعيش نحو 250 ألف من نحو 500 ألف لاجئ فلسطيني مسجّل في لبنان، وفق تقديرات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى الأونروا، ومعهم أكثر من 30 ألف لاجئ فلسطيني نزحوا من حرب سوريا. بسبب هذه الظروف، حضرت “المفكرة القانونية” إلى مخيّمات لبنان تتلمسها قبل قطع تمويل وكالة تشغيلهم وإغاثتهم، قبل وقف المساعدات الغذائية لـ 114 ألفًا من بينهم ورفع الحماية الاجتماعية عن 142 ألفًا منهم، وكذلك تعطُّل تعليم 40 ألف تلميذ لاجئ، وانقطاع رواتب 3000 موظف مع الوكالة الدولية، ومعها العناية الصحية بكلّ هؤلاء، مع العواقب المتوقعة كافّة. حضرتْ “المفكرة” بينهم لتفتح لهم منبرها للفضفضة عن همّ جديد يثقل كواهلهم فوق الهموم الأخرى، وهم يشهدون كيف يتفرّج بعض العالم، ويتواطأ بعضه الآخر، فيما تستكمل إسرائيل إبادتهم كفلسطينين، شعبًا وقضية، بكل أنواع القتل ووسائله.
والأونروا، لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (6 ملايين لاجئ) في دول الشتات الخمس، وفق القرار الدولي 302 (1949)، حضرت منذ كانت الخِيَم، لتتولّى مسؤولية تقديم الخدمات للفلسطينيين، من الإغاثة إلى التغطية الصحية، وكفالة التعليم، وصيانة البنى التحتية، والترميم، والتوظيف، وتنفيذ برامج التشغيل، وصولًا إلى جمع النفايات، وهي خدمات ظلّت كلها قاصرة، مع تقليصها المستمر، عن توفير حدّ أدنى من الحياة الكريمة.
80 إلى 90% من الفلسطينيين في غزة ولبنان وسوريا يعيشون تحت خط الفقر وفق الأونروا في 2022، قبل أن تقرّر إسرائيل استهداف المنظمة الدولية في حرب إبادتها فلسطينيي غزة والقضية الفلسطينية برمّتها، متّهمة 12 موظفًا من أصل 30 ألفًا (13 ألفًا من بينهم في غزة)، تشغّلهم الأونروا في دول الشتات، بالمشاركة في هجمات 7 أكتوبر. والاتهامات الإسرائيلية التي تلقّفتها الدول للإجهاز على الأونروا، قال كبير مسؤولي المساعدات الإنسانية بالاتحاد الأوروبي إنه لم ير أي دليل من إسرائيل يدعمها.
وقبل انتهاء التحقيقات في الاتهام المزعوم، تلقّفت 16 دولة من دول الشمال السياسي في مقدمتها الولايات المتحدة، المانح الرئيسي للأونروا، الذريعة الإسرائيلية لتعلّق 70% من التمويل، ما هدّد بوقف خدمات الوكالة في نهاية آذار، وفق مديرة شؤونها في لبنان دوروثي كلوس. وقد أعلن عدد من الدول لاحقًا استئناف التمويل، ليُصبح آخر أيّار الموعد الجديد لوقف الخدمات ومعه خطر انتقال مخيّمات لبنان من البؤس المدقع إلى السقوط الحر في الكارثة. خطر يتفاقم مع موافقة الكونغرس الأميركي على اقتراح يحظر أي تمويل حتى عام 2025 على الأقل.
التجويع من غزّة إلى مخيّمات لبنان
عند نهاية الدرج الصغير المؤدّي إلى منزلها في مخيّم البداوي، تقف أم مصطفى على شرفتها، تراقب بحذر مائدة إفطار فقيرة تنتظر آذان المغرب. مع هبوط الليل، يغرق بُنّي الفول وأسود الباذنجان المشوي في ظلمة المساء. تغيب عصائر الجلاب والليمون والسوس، وتختفي السلطات واللحوم: “من حواضر البيت التي لا تُسمن ولا تغني عن جوع”، تخبرنا الأرملة الثلاثينية، متردّدة في كشف المزيد: “مستورة”. هنا الحال لم تعدْ هي الحال منذ أوقفت الأونروا مخصصاتها المالية الشهرية للأسرة ربطًا بتعليق التمويل.
وفي مخيّم البداوي، يتزاحم العمران العمودي عشوائيًا مع الشعارات الموزّعة في كلّ ركن من أركانه وعلى طول شوارعه وضيق زواريبه، بعضها سياسيّ يعكس تعدّد التنظيمات هنا، وجميعها وطني يعبّر عن شعبٍ سُلب وطنه فجسّده في شعارات على الجدران. وتمتزج زينة رمضان مع أسماء الشهداء، وآمال النصر وأحلام العودة. هو تكثيف للحالة الفلسطينية في نحو كيلومتر واحد هي مساحة المخيّم المطلّ على طرابلس.
اليوم، يعكّر شبح الجوع وجه ربّة الأسرة التي كانت تستخدم مساعدة الأونروا كلّ 3 أشهر لسداد ديون دكان الحي للحد الأدنى من الغذاء. تقول الأمّ لطفلين إنّ الامتناع عن الطعام في رمضان “فرض، لكن جوعنا متواصل. وها أنا أستعيض عن إكمال إفطاري بالقهوة كي أوفّر الطعام للأولاد”. والجوع هنا هو امتداد لتجويع أهل غزة، وإن كان السؤال القديم قِدم النكبة: أين يمكن أن يقف إجرام إسرائيل على الفلسطينيين؟ فإنّ الجواب يتكشف لك وأنت تسير في مخيّمات لبنان: إنّها حرب تدمير لكلّ الفلسطينيين. هنا، ليس قطع تمويل الأونروا تفصيلًا، بل “شريان حياة أخير” لهؤلاء المسكونين بإرادة العودة إلى بلادهم، إلى حياتهم وأرزاقهم التي بها يستغنون عن هذا العالم الذي يعاقبهم حتى برغيف الخبز، كما تصف ما يحصل العشرينية عبير، الحامل في شهرها الرابع، في مخيم الرشيدية جنوب لبنان.
أجسام الفلسطينيين وصحتهم على المحك
كانت عبير وحدها في البيت عندما سمعت من التلفاز نبأ قطع تمويل الأونروا: “حطّيت إيدي على بطني وقلت تدمرنا”. شهادة عبير في التمريض لم تخوّلها العمل بسبب ندرة الفرص، لتعتمد على الأونروا لتأمين فيتامينات الحمل: “غالية كتير بالصيدليات وعمل زوجي من الحدادة تراجع”. لكن ما يثير قلقها بالفعل هو “تكلفة الولادة، ولقاحات مولودها، باهظة الثمن”، وهي أعباء تتكفّل بها الوكالة الدولية.
ومع المساعدة المالية والغذائية، تمثّل الأونروا لأم أحمد، أدوية الضغط والقلب. وأم أحمد اللاجئة في الرشيدية توارثت العمل في الزراعة من أهلها في سهول عكا إلى تراب صور. تقول لـ “المفكرة”: “وقف أدويتي، قد يقتلني أو يقعدني عن العمل”. ورغم أنّ تغطية الأونروا ليست شاملة، إذ تتكفّل بمروحة من الخدمات الصحية الأساسية، وتوفّر عددًا كبيرًا من الأدوية، وتدعم جزئيًا قائمة محدودة من العمليات الجراحية، وتتواضع مراكزها الصحية عن تغطية الحالات الأكثر تعقيدًا، أو إجراء صور وتحاليل يضطر المرضى إلى دفع ثمنها غاليًا في المراكز اللبنانية. تذكر أم أحمد مثلًا أنّها باعت بعض معدّاتها الزراعية يوم احتاجت إلى تمييل لقلبها. ويطال الشحّ تغطية أمراض السرطان والهيموفيليا، على سبيل الحصر وليس البيان، وهنا تلجأ عائلة فلسطينية إلى منح ولديها المصابين بالهيموفيليا عقاقير منتهية الصلاحية، لا تؤذيهما لكنّها ضعيفة المفعول، فيزداد وضعهما سوءًا مع الوقت، ويذوبان تحت أنظار العائلة. حال الطفلين وغيرهما، سيصبح حال الجميع مع قطع تمويل الوكالة الدولية: “يأخذ الناس أدوية منتهية الصلاحية، ثم يقلّصون الجرعات، لينقطعوا عن الدواء نهائيًا، ويواجهون مصيرًا محتومًا”، تقول إحدى الطبيبات لـ “المفكرة” في المركز الصحي التابع للأونروا الوحيد في مخيم الرشيدية هنا.
التعليم: العقل الفلسطيني مستهدف أيضًا
ومنذ نكبتهم، تولّت الأونروا حقّ صغار اللاجئين في الوصول إلى التعليم في خيم وبيوت “تنك”، وظلّت مدارسها المدارس الرسمية لهم. ومع هذا، ظلّ تقليص التمويل يضيّق الخناق على نوعية هذا الحقّ ومترتّباته. وخلال 3 عقود، اكتظّت الصفوف (أكثر من 50 تلميذًا وتلميذة في القاعة الصغيرة)، وتراجع دعم الكتب المدرسية والقرطاسية وانقطع هذا الدعم عن الملابس المدرسية، وغابت وجبات الغداء التي كانت تقدم للتلامذة.
وفي متاهة زواريب مخيّم برج البراجنة، حيث يبلغ عرض بعضها 40 سنتيمترًا ليضطرّ اللاجئون للسير بشكل جانبي لإفساح المجال لعبور شخص آخر، يشقّ التلاميذ طريقهم كلّ صباح بمراييل الأونروا، أفواجًا تحت خطر أشرطة الكهرباء وقساطل المياه التي تتشابك لتحجب ما تبقّى من نور شمس قد يتسلّل، وتحصد ضحاياها في كل شتاء، كي ينتظروا الباص على باب المخيّم، مع المعلمين والمعلّمات. وهؤلاء، حوّل أهاليهم تظاهرات المطالبة بتحسين خدمات الأونروا إلى احتجاجات تضامنية للمطالبة بالتمويل حفظًا لحق أطفالهم في التعليم. تقول ربى، خرّيجة مدارس الأونروا، والمعلّمة فيها اليوم، حيث يتعلّم أطفالها: “إذا حرمونا العلم بيجرّدونا من كلّ شي”، تجزم لـ “المفكرة”، متحسّرة على استهداف أكثر الحقوق بداهة: “يراد لنا أن نلهث وراء الحرف ورغيف الخبز حتى”، تضيف جارتها بحزن وإحساس كبير بالظلم.
والحاجة إلى تعليم الأونروا تتفاقم مع الانهيار الاقتصادي في لبنان حيث انتقلت قلّة ممّن كانوا يتلقّون تعليمهم في القطاع الخاص إلى مدارس الوكالة، ومن هؤلاء أسرة سلوى التي تضمّ ثلاثة أبناء. تقول الأم لـ “المفكرة” إنّ جودة التعليم والتربية هي أفضل في المدارس الخاصّة، “لكن فقدان قيمة الدخل بسبب الأزمة الاقتصادية حتّم علينا العودة إلى مدارس الأونروا”.
في مخيّم الرشيدية، وعبر زواريبه، تصحبنا نور، طالبة في الثالث ثانوي إلى مدرستها: “هنا بيتي ومدرستي وعالمي، أحبّه وأغضب تجاهه”. تعتاش نور، وتساعد عائلتها من دروس خصوصيّة لبعض التلامذة بعد الدوام المدرسي. تشير نور إلى المبنى المميّز بألوانه البيضاء والزرقاء: “مشاعري متضاربة تجاه هذا المكان، كما تجاه كلّ ما يربطنا بلجوئنا وبعدنا عن وطننا”. تشرح ابنة الـ 17 عامًا لـ “المفكرة”: “هوية المكان فلسطينية، وتلامذته والمدرّسين، هنا لهجتنا ومعاناتنا وهمومنا المشتركة، قضيّتنا واحدة، وهنا حقنا في التعليم محفوظ، وهنا أيضًا خريطة فلسطين تكاد تختفي وهنا كتاب تاريخ لا يحكي عنّا وعن نكبتنا”، حيث تعتمد الأونروا المناهج اللبنانية.
وفي الثانوية معلّمات ومعلمون لا يصرّحون في ظلّ تقييد حرّية موظفي الأونروا في التعبير عن آرائهم. ومعلّمو الوكالة يجهلون مصير رواتبهم مع تعليق التمويل: “نعيش على أعصابنا”، يقول خالد الذي تعمل والدته مدرّسة مع الأونروا. يقول خالد، إنّ أمه بَنَت منزلهم على “كتفيها، وسننهار إذا انقطع راتبها”، ليشرح أنّ عائلته محرومة من أيّة مساعدات لأنّ أمّه معلّمة: “راتبها بيعيشنا ومناكل ومنشرب بس مش أغنياء نحن، ورح نجوع إذا بيوقف”، يضيف لـ “المفكرة”.
السكن والترميم وإعادة الإعمار في ظلّ التهميش المكاني
ومن الغذاء والصحة والتعليم، تبقى الأونروا ضمانة إبقاء سقف فوق رؤوس السكان. تتخوّف السيّدة هبة من أن يؤدّي وقف خدمات الوكالة إلى انهيار وعدها بترميم نصف منزلها المهدّد بالانهيار في برج البراجنة بعد أن انهارت أجزاء من أحد الأعمدة قبل 7 سنوات. تؤكّد السيّدة الفلسطينية عدم قدرتها على الترميم: “وعايشين على وعد الأونروا، بسهر بالليل حتى إذا سمعت طقطقة إحمل الأولاد وأهرب فيهن”. والمنزل بالأساس عبارة عن ثلاث غرف ومطبخ، تعيش الأسرة حياتها بشكل عادي في النهار، لكنّها تنام في غرفة الجلوس مخافة أي انهيار قد يباغتها ليلًا.
بنيت المخيّمات الفلسطينية في لبنان على مراحل ومن الخيَم التي وُزّعت مجانًا عام النكبة وسكنها الفلسطينيون حتى اهترأت، إلى الجدران المهرّبة حجارتها التي أضيفت إلى الخيم ثم أسقف “الزينكو” التي شرّعتها الدولة اللبنانيّة بحكم الأمر الواقع، وصولًا إلى بيوت اسمنتية متراصّة عشوائيًا في غمضة عين وبالسرّ معظم الأحيان، يرتفع استمرار خطر انهيار بعضها دائمًا. وبذلك نشأت المخيّمات الفلسطينية بخصائص عمرانية جعلتْها أماكن غير مناسبة للعيش، موصومة بأنّها “خارج سلطة الدولة”. تتولّى الأونروا مسؤوليّة برامج تحسينها والبنى التحتية فيها، فضلًا عن ترميم المتصدّع منها، وصولًا إلى قنوات تصريف المياه وجمع النفايات. مشاريع لم تنشلْ المخيّمات من وضعها التعيس، لكنها تبقى ضرورية لردّ الموت اليومي، طالما أنّ البديل عنها هو تصفير الخدمات والسقوط الحرّ نحو المجهول.
من بين هذه المنازل، 800 وحدة سكنية مهدّدة بالانهيار في برج البراجنة وحدها، وأخرى يغزوها البحر وملحه كلّ شتاء في الرشيدية، أو دمّرت كليًا كما في معركة مخيّم نهر البارد، أو تضرّرت بفعل جولات العنف المتكرّرة بين الفصائل المسلّحة داخل المخيّمات لاسيّما في مخيم عين الحلوة. كلّ هذه المنازل، يُخصّص لها برامج تموّلها الدول المانحة من خارج موازنة الأونروا، وبسعي وإدارة من الأخيرة، وكلّ هذا اليوم في مهبّ ريح الاستهداف الإسرائيلي لكلّ ما هو فلسطيني وبتواطؤ دول الشمال.
“نريد الأونروا ولو كانت علمًا على مبنى”
ورغم الأخطار الاقتصادية والاجتماعية المحدقة بالفلسطينيين كأثر مباشر لوقف التمويل، يشكو أحمد، العامل المياوم، من تقليص خدمات الأونروا والملاحظات على أدائها. لكنه يقول: “نتمسّك بالأونروا ولو لم تقدّم سوى حبة أسبيرين، ونريدها ولو كانت مجرّد علم على مبنى”. يعيد أحمد موقفه إلى ارتباط الأونروا بحقّ العودة للفلسطينيين “وهو أساس قضيّتنا، نحن في النهاية راجعين”، يضيف.
يرى الباحث الفلسطيني في مجال اللجوء جابر سليمان أنّ وقف الخدمات هو تفريغ عملي لقرار إنشاء الأونروا رقم 302 من مضمونه، ليستهدفوا حقّ العودة المصان في قرار سابق لإنشائها ويحمل الرقم 194. ويضع الحملة على الأونروا في سياق شطب الوكالة الدولية ممّا يسمّى “ترتيبات اليوم التالي”، بعد حرب غزة، وتفريغ قرار إنشائها من مضمونه بتصفية خدماتها.
وفيما لا ينتظر من ألمانيا مراجعة موقفها قريبًا، تتحدّث تقارير أميركيّة عن استعداد مسؤولين إلى تحويل تعليق التمويل إلى وقف دائم، بالتزامن مع طرح مشروع قانونٍ في الكونغرس لتمويل مساعدات عسكرية لتل أبيب وكييف تدعمه إدارة بايدن. ويتضمّن مشروع القانون بندًا من شأنه أن يوقف تمويل الأونروا بشكل دائم.
ويشكل وقف تمويل الأونروا عقابًا جماعيًّا لـ 6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجّل لدى الأونروا، ربعهم في غزّة، وهو يشكّل في توقيته وأبعاده انتهاكًا لقرار محكمة العدل الدولية القاضي بـ “السماح بمساعدات إنسانية فعّالة”.
يشرح أستاذ الفلسفة الفلسطيني في جامعة سيتي يونيفرسيتي والباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية محمد علي الخالدي لـ “المفكرة” أنّ “وجود وكالة أمميّة خاصّة بلاجئي فلسطين ليس صدفة، وليس مجرّد مسألة إنسانيّة، بل هو نابع من أنّ الأمم المتحدة عينها هي التي أقرّت تقسيم فلسطين وقرارها هذا كان هو الذريعة التي تسلّحت بها القوى الصهيونية لتحتلّ أكثر ولتهجّر الفلسطينيين. وهو يؤكّد أنّ الأمم المتحدة تصبح بذلك مسؤولة مباشرة “إذ أعطت الذريعة”، وبالتالي ثمّة مسؤولية مباشرة عن تدارك الخطأ الجسيم، وليس هذا توجهًا خيريًا ولا مجرّد جهود إنسانيّة”. رغم هذا يؤكد أستاذ الفلسفة أنّ “الواضح أنّ هذه الدول لا معايير ولا موازين أخلاقية تحكم قراراتها وسياساتها”.
وقد ولدت الأونروا ضمن سياق سياسي، على ما يؤكد الباحث سليمان، التوجّه الأول فيه كان يصاغ في وزارة الخارجية الاميركية، ويرى أنّ لا مجال لتثبيت الوضع القائم لمصلحة إسرائيل سوى بدمج اللاجئين واستقرارهم/ توطينهم في البلدان المضيفة. وبالتزامن، أدّى تمسّك اللاجئين والدول العربية، بحقّ العودة، إلى إدراج إحالات إلى القرار 194 الذي ينصّ على حق العودة، في قرار إنشاء الأونروا الذي يحمل الرقم 302. وفي كلتا الحالتين، أجمعت الأطراف على وجوب تأمين الإغاثة، والتي بطبيعتها تكون فورية ولا تحتمل التأخير، لكن الهدف الأساس كان التشغيل والدمج.
وعليه، لبست الأونروا رداء إنسانيًا غير سياسيّ، فكانت بمثابة محطّة في منتصف طريق باتجاهين متناقضين كلاهما ينتهي إلى “حلّ دائم” ما. بالنسبة إلى اللاجئين، هي إجراء مؤقّت حتى تجسيد حقّهم في العودة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره عملًا بالقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان. وبالنسبة لإسرائيل وحلفائها، هو إجراء مؤقّت بانتظار إنهاء القضية وتصفيتها على نحو يكلّل هيمنتها وخططها في تدمير الشعب الفلسطيني وإبادته ومعه الكثير من قيم الإنسانية والقانون الدولي.
نشر هذا التحقيق في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لتحميل العدد بصيغة PDF