في مشهد سريالي عرى بفظاعته الوجه الأسود للخطابات الممجوجة التي اعتاد السياسيون تكرارها، جاء خبر وفاة جريح الثورة طارق الدزيري يوم السبت 18 جانفي 2020، مخلفا وراءه استفهامات حول مدى نجاعة مسار العدالة الانتقالية في تونس. فمن قائمة جرحى الثورة، ينتقل طارق الدزيري بسبب الإهمال إلى قائمة شهدائها: تفاصيل الساعات الأخيرة من حياته تخط سطرا آخر من مسار انتكاس الثورة.
بعدما تلقى طارق الدزيري الذي أصيب يوم 12 جانفي 2011، رصاصتين ظلت أحداهما مستقرة في كبده طيلة تسع سنوات، حاصرته الخيبات بعد سقوط نظام بن علي. فقضيته حُفظت لعدم معرفة الجاني كما قيل في الملف القضائي، وظلت التقرحات تنهش جسده بعدما رفضت الدولة علاجه. كما بقي مهددا بالطرد من مسكنه الذي يأوي عائلته بتعلة نية السلطات هدمه. معاناة مستمرة طيلة ما يناهز العقد، لم تثنِ الشهيد طارق الدزيري عن التمسك بحقه في الاعتراف وحفظ كرامته، ولم تمنعه من أن ينزل إلى الشارع الذي خرج منه في شتاء 2011 مثخنا بالجراح ليكون أحد أبرز الوجوه في الحراكات الاحتجاجية بعد الثورة وخصوصا ضد قانون المصالحة وتبييض الفساد والمجرمين.
آخر فصول العذاب
تسع سنوات منذ إصابة طارق الدزيري، قضاها هذا الأخير بين الحراك الميداني والمرافعات في المحاكم والالتماس من المسؤولين لنيل حقه في العلاج الذي يكفله له الدستور التونسي. إلا أنه لم يظفر بشيء لتكون ليلة 17 جانفي 2020 تاريخ بداية النهاية. حول تلك الليلة، تروي والدة طارق الدزيري نزيهة بوزيد، للمفكرة تفاصيل الساعات الأخيرة من حياة الشهيد: "بدأ وضعه الصحي في التعكر منذ مساء يوم الجمعة 17 جانفي 2020 لتنقله سيارة الإسعاف إلى المستشفى الجهوري بزغوان بعد تدخل المعتمد (المسؤول المحلي) مجبرا مدير المستشفى توفير سيارة لنقله، على أمل أن يقدموا له الإسعافات اللازمة في الإبان. هناك وإضافة إلى غياب الحد الأدنى من المرافق الصحية اللازمة بالمستشفى، فوجئنا بسوء المعاملة الغريبة التي استقبلونا بها." فقد امتنع الطاقم الطبي حسب ما جاء على لسانها عن تقديم أي إسعافات واشترطوا أن يقيم في المستشفى أو أن يعودوا به في اليوم الموالي لغياب الأطباء الذين سيعاينون حالته. بعد جدال مطول استقرّ الرأي لدى عائلته على أن العودة به في اليوم الموالي في ظل سوء المعاملة وحالة المستشفى المزرية، إضافة إلى تعليمات آمال المستوري المكلفة بملف الشهداء لدى رئاسة الحكومة التي طلبت منهم لدى اتصالهم بها ذلك.
تواصل والدة الشهيد طارق الدزيري في سرد تفاصيل الساعات الأخيرة: "في الغد (يوم 18 جانفي 2020) ومنذ الساعة السادسة صباحا عدنا به إلى مستشفى زغوان الذي يبعد قرابة 20 كلم عن مسكن الشهيد، ولكن هذه المرة رفضوا قبوله أصلا معللين كلامهم بغياب المعدات اللازمة لعلاجه. وبعد مناوشات مع الفريق الطبي وشبه الطبي بالمستشفى، اتصلت بنا آمال المستوري لتطلب منا نقله إلى مستشفى الحرائق في بن عروس، ولكن تبين لنا أن خطة نقله لم تكن لأغراض طبية بل لإبعاده عن أنظار وزيرة الصحة التي ستزور المستشفى في ذلك اليوم. " خوف العائلة على حياته ورغبتها في إسعافه دفعتهم إلى نقله على وجه السرعة إلى هناك، إلا أن مستشفى الحرائق رفض قبوله هو الآخر بدعوى أن طاقة استيعاب المكان بلغت أقصاها. ثماني ساعات من الجدل والتوسل لم تشفع في تغيير رأي إدارة المستشفى التي لم تكلف نفسها عناء إخراجه من سيارة الإسعاف وهو الذي كانت جروحه تتقرح أكثر فأكثر مع كل لحظة تمر دون تدخل طبي عاجل. لتضيف نزيهة بوزيد: "بعد مكابدة وإلحاح وأمام تعنت إدارة مستشفى بن عروس، لم نجد من حلّ سوى الالتجاء إلى المستشفى العسكري بالعاصمة علهم يجدون حلا لطارق بعد تدهور حالته ولكن فوجئنا بصدّ آخر بدعوى أنه لا يملك موعدا مسبقا أي لا يمكن قبوله رغم حالته المستعجلة جدا. أمام انسداد كل الأبواب، اتّصلت بالمكلفة بشؤون شهداء وجرحى الثورة لدى رئاسة الحكومة آمال المستوري مرة أخرى علّها تتدخل لإيجاد حل إلا أنها طلبت منا إعادته إلى المستشفى الجهوي بزغوان ورغم إصراري على شرح حالته التي لا تتحمل المزيد من التأخير إلا أنها أنهت المكالمة ومن ثم أغلقت هاتفها."
وقد ختمت والدة طارق الدزيري: "أمام هذا الصد، عدنا به إلى مستشفى زغوان فوجدنا امتناعا عن تقديم العلاج معاقبة لنا لأن أخت طارق الدزيري قد عاتبت الوزيرة التي كانت تزور المستشفى، لما آلت إليه وضعية أخيها. ليقترحوا علينا إما تركه ليقيم في المستشفى إلى حين إسعافه أو إمضاء وثيقة تنصّل من المسئولية للسماح لنا بإخراجه. لم يكن أمامنا من خيار سوى الحل الثاني كوننا لا نثق في الإطار الطبي والخدمات الصحية في مستشفى زغوان، لم يستطع ابني الصمود أكثر، ليلفظ أنفاسه في حدود الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم."
تسع سنوات من الركض وراء السراب
لئن كانت آخر ثماني وأربعين ساعة من حياة طارق الدزيري هي الأكثر إيلاما ومأساوية، إلا أن بداية المعاناة انطلقت منذ سنة 2011. فإصابة الشهيد وانعكاسات الرصاصة التي لازمت جسده كلفته الكثير بعدما بدأت جروحه في التعفن وتدهور جهازه المناعي شيئا فشيئا، مما اضطر الدولة بعد الضغط عليها من قبل العائلة ومحاميه للإسراع بنقله إلى فرنسا لتلقي العلاج.
مصحوبة بفيديو لأنين وصراخ ابنها من الأوجاع، جالت والدة طارق الدزيري بين الرئاسات الثلاث سنة 2012 وطلبت آنذاك من نائبة رئيس المجلس الوطني التأسيسي محرزية العبيدي أن يتم التكفل بعلاج ابنها في فرنسا. بعد أخذ ورد، وافقت السلطات على طلبها وتمّ تسفير طارق إلى فرنسا ليبقى هناك ثلاثة أشهر حيث تلقى بعض الإسعافات اللازمة. أفضى هذا العلاج إلى تحسن وقتي في وضعه الصحي شريطة أن يلتزم بالمواظبة على مجموعة من الأدوية التي تجلبها الدولة من فرنسا. لم يطل الوقت حتى تدهور الوضع الصحي لطارق من جديد بعد تخلف الدولة عن تمكينه من الدواء طيلة الأشهر الخمسة التي سبقت وفاته. ورغم تقدمه بشكاوى في الغرض واتصاله المتكرر بوزيرة الصحة سنية بالشيخ إلا أنه لم يتمكن من استئناف علاجه. في هذا السياق، توضح زوجته راضية الدزيري للمفكرة أن طارق كان على اتصال دائم بالمكلفة بملف جرحى الثورة برئاسة الحكومة آمال المستوري إلا أنها وفق وصفها كانت تبيع الوهم لعائلات الجرحى، فرغم إلحاح طارق عليها طيلة الأشهر الخمسة الأخيرة، إلا أنها لم تستجب لطلبه بجلب الدواء مما عكر وضعه الصحي، وأدى إلى انهياره كليا.
تنكّر الدولة للمطالب المشروعة لطارق الدزيري لم يكن استثناء، حيث تعهدت الدولة بأن يتم علاج باقي الجرحى في الخارج. إلا أنها لم تفِ بوعدها لهما وفق تصريح الأستاذة لمياء الفرحاني محامية شهداء وجرحى الثورة التي كشفت للمفكرة أنه ومنذ حكومة الباجي قائد السبسي الأولى، طالبت رئيس الجمهورية السابق (بعد وفاة الباجي قائد السبسي) محمد الناصر الذي كان وزيرا للشؤون الاجتماعية حينها، بضرورة توفير علاج خاص للجرحى المقعدين وعقدت جلسة مع مدير ديوان الوزير لتستغرب آنذاك من الموافقة المباشرة للوزارة، ولكن هذا التعاون الفوري لم يكن سوى ذر رماد في العيون، حيث لم يسجل أي تقدم في هذا الملف ولم يتوفر العلاج لجرحى الثورة.
معاناة اجتماعية بحجم الجراح المفتوحة
لم تكن الحالة الاجتماعية للشهيد طارق الدزيري أفضل من وضعه الصحي بل ساهمت ظروفه المعيشية في تأزيم الوضع بعد تشريده رفقة عائلته. فوفق شهادة زوجته راضية الدزيري وبعد تعكر حالته الصحية، لم يعد طارق قادرا على العمل وتسديد معلوم الكراء مما اضطره للبحث عن مسكن جديد وقد تم التحيل عليه في قضية تمكينه من السكن. حيث جاء مهدي جمعة رئيس الحكومة آنذاك وأعطاه مفاتيح منزل جديد والذي كان سابقا مقرا جهويا لحزب التجمع الدستوري المنحل. لتضيف: كنا نظن في البداية أنه أعطاه منزلا مرفقا بشهادة ملكية كاملة ولكن تبين لنا في النهاية أننا عرضة للطرد في كل وقت. علاوة على ذلك قام رئيس البلدية السابق رمزي الحمبوسي بتهديده في مناسبات متكررة بالطرد إضافة إلى تعدد مضايقاته التي وصلت حد قطع التيار الكهربائي والماء الصالح للشراب عن المنزل مما جعل العيش في هذا المسكن أمرا مستحيلا. لقد عشنا طيلة خمسة أشهر في حالة رعب شديدة.
وضعية قانونية مركبة تزيد من تعقيد الإجراءات
ملف طارق الدزيري لا يختلف عن بقية ملفات جرحى الثورة الآخرين الذين هضمت حقوقهم ولم ينالوا سوى الوعود وبيع الأوهام طيلة عقد من الزمن. حيث اعتبرت محامية طارق الدزيري أن الوضعية القانونية المعقدة لهذا الأخير لا تختلف عن باقي ملفات شهداء وجرحى الثورة. فبالرغم من كونه جريح ثورة إلا أنه لم يتلقّ العناية اللازمة. وهنا تتحمل الدولة المسؤولية الكاملة لأنها أخلت بالحق في العلاج وهو حق طبيعي يكفله له الدستور والمواثيق الدولية، خاصة في حالة ممارسة الدولة للعنف ضد مواطنيها فإن أبسط حقوقه تتمثل في توفير مسكن له ومساعدته بجراية وهو ما طالبنا به إلا أنه لم يتحقق شيء إلى حد الآن.
وبخصوص التحيل عليه في المسكن فقد اعتبرت الأستاذة لمياء الفرحاني أنه لا يمكن أن ننكر أن المسكن لا يملك صبغة قانونية نظرا لتعقيدات عقارية سابقة فحزب التجمع قد افتكه من مالكه، لكن كانت هناك وعود من قبل السلطة لتسوية وضعية هذا العقار، وإسناد منازل بعقود ملكية للباقين، وهو لم يحصل. كما كنا اجتمعنا سابقا بالوالي والمعتمد على أساس تسوية مشكلة السكن بالنسبة لطارق الدزيري وتعهدوا بمنحه منزلا يأويه، لكنهم ظلوا يماطلون حتى فارق الحياة.
لتختم المحامية لمياء الفرحاني قائلة؛ بشكل عام، مصير طارق ومسار معاناته هي انعكاس لما آلت إليه الأمور في مسار العدالة الانتقالية وملف شهداء الثورة وجرحاها.
طارق الدزيري ناشط سياسي رغم المعوقات
رغم الإصابة التي كانت تعيق طارق الدزيري عن الحركة، وقساوة ظروفه الاجتماعية، إلا أنه كان متمسكا بمواصلة النضال بعد الثورة، حيث كان دائما أحد الوجوه الحاضرة في الاحتجاجات الكبرى ومن أهمها حملة مانيش مسامح ضد قانون المصالحة مع المتورطين في الفساد، حيث تحولت صورته وهو محمول على الأكتاف أحد أجمل وأشهر الصور عن تلك الحملة في وسائل التواصل الاجتماعي. الشهيد وبحسب محامية شهداء وجرحى الثورة لمياء الفرحاني؛ تحدى الإعاقة والفقر، وأصر على أن لا يغيب عن أي تظاهرة احتجاجية أو ندوة حول موضوع شهداء وجرحى الثورة.
حتى تلك التحركات الجهوية المطالبة بالتنمية، كان طارق الدزيري حاضرا في المقدمة دائما حيث اعتبر الناشط في المجتمع المدني بمدينة الفحص صالح بن مبارك في حديثه للمفكرة أن الرصاصة التي اخترقت جسد الشهيد وما سببته من معاناة صحية طيلة السنوات التسع الفارطة التي لم تكسر إرادته ولم تطفئ لهيب الثورة في داخله، وهو الذي عُرف بأفكاره الثورية منذ ما قبل الثورة ولم يتردد في الانخراط في المظاهرات ضد نظام بن علي منذ بداياتها. ليختم؛ ستظل مدينته الفحص وسكانها يذكرون طارق الدزيري الذي دافع عن حقوقنا حتى الرمق الأخير.
عرّت وفاة طارق الدزيري كمّ التعقيدات التي تشوب مسار العدالة الانتقالية وملف شهداء وجرحى الثورة الذين سقطوا حتى من البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية خلال الانتخابات الأخيرة. فهؤلاء الذين فتحوا أبواب الحرية للعمل السياسي، وجدوا أنفسهم على هامش أوليات السياسيين وخارج أسطر برامجهم. ليمثل هؤلاء بمعاناتهم الوجه المأساوي لمسار ثورة كانوا هم صانعي فصولها إبان دروة حملة القمع.