أعلنت وكالة الأنباء الرسمية في تونس أمس 19 سبتمبر 2019 وفاة الرئيس الأسبق زين العابدين علي في المملكة العربيّة السعوديّة التّي لجأ إليها رفقة أفراد عائلته منذ 14 جانفي 2011 عقب الثورة التونسيّة. يأتي هذا الخبر الذّي تكرّر أكثر من مرّة خلال الأشهر الأخيرة مع تواتر الأنباء عن تدهور صحّة بن عليّ، في خضّم صخب الحملات الدعائيّة للانتخابات التشريعيّة في 06 أكتوبر القادم، وتواصل النقاشات التّي ازدحم بها الفضاء العام حول نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها في 15 سبتمبر 2019. الرئيس المخلوع كما دُرج على نعته منذ خروجه من تونس، ترك خلفه عشرات الملفّات المغلقة وعشرات الأحكام القضائيّة ووطنا منهكا لم يتعافَ بعد من إرتدادات حقبة حكمه.
العصا الغليظة لنظام بورقيبة
من الجيش والإستخبارات العسكريّة تحديدا بدأت مسيرة بن عليّ صلب أجهزة الدولة التنفيذيّة، في مناخ اتّسم بتصاعد التوتّر بين نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والاتحاد العام التونسي للشغل خلال سبعينيات القرن الماضي. نذر المواجهة الدموية المرتقبة، كانت فرصة لظهور الكولونيل زين العابدين بن علي الذّي تمّ استقدامه في تلك الفترة من المؤسسة العسكرية ليُعيِّن مديرا للأمن الوطني قبيل اندلاع أحداث 26 جانفي 1978 أو ما يُعرف في تونس بالخميس الأسود في سياق التحويرات الأمنية التي أجراها نظام بورقيبة قبل الأحداث والتّي يصفها البعض من الباحثين بعَسكرة وزارة الداخلية. أداء الضابط الجديد في تلك المواجهات الدمويّة التّي أدّت إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى بالرصاص الحيّ، كان سبب استدعائه مرّة أخرى إلى وزارة الداخليّة سنة 1984 بعد استبعاده إثر تعيينه سفيرا لتونس في بولونيا طيلة أربع سنوات ليواجه تصاعد موجة الغضب الشعبي من تدهور الأوضاع الإقتصاديّة والتّي تُوّجت بما يعرف بانتفاضة الخبز في جانفي 1984. تتعزّز مكانة زين العابدين بن عليّ ليكافأ بتولّي وزارة الداخليّة سنة 1986 في حكومة رشيد صفر، ثم الوزارة الأولى في أكتوبر 1987، قبل أن يطيح بالرئيس الحبيب بورقيبة في إثر انقلاب دستوري ”ناعم” في 7 نوفمبر 1987، مستندا إلى تبرير طبي يؤكّد عجز بورقيبة على مواصلة مهامه. ليستمرّ رئيسا طيلة 23 سنة حتّى هروبه من تونس إلى المملكة العربية السعودية رفقة عائلته يوم 14 جانفي 2011 تحت ضغط المظاهرات والمواجهات الدامية التي اندلعت ضد حكمه في جميع محافظات البلاد.
وهم الرفاه الإقتصادي لحقبة بن عليّ
تظلّ الصورة السائدة عن فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن عليّ هي القسوة والتنكيل بالمعارضة وفرض الصمت في تداول الشأن السياسي. فترة الحكم الشمولي الذّي امتدّ على 23 سنة وخلّف المئات من ضحايا القمع والتعذيبوانتهاك حقوق الإنسان، وفق ما كشفت عن جزء منه جلسات الاستماع العلنيّة لهيئة الحقيقة والكرامة التي انطلقت في 17 نوفمبر 2016. لكنّ مناصريه أو من يسعون إلى تلميع صورته ضمن موجة الحنين إلى عهده التّي غذّتها فشل حكومات ما بعد الثورة، ترتكز على سردية الرخاء الإقتصاديّ. سرديّة أسقطت من بين سطورها عن قصد أو دون قصد الفساد الإقتصاديّ الذي كانت تعاني منه البلاد خلال العقدين الماضيين وخصوصا في العشريّة الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق. في هذا الإطار، يكشف التقرير الصادر عن البنك الدوليّ في مارس 2014 تحت عنوان؛ “كلّ شيء في العائلة: الاستيلاء على تونس”، كيف تمّ تسخير السلطة السياسيّة لاختراق الإقتصاد التونسيّ ووضع القطاعات الإنتاجية الكبرى وذات المردوديّة العالية تحت سيطرة الحاشية الخاصّة ببن عليّ وعائلته خلال الفترة الممتدة بين سنوات 1987 و2010. فقد تمكّنت أسرة الرئيس التونسي الأسبق من الإستيلاء على أكثر من 21% من أرباح القطاع الخاص في البلاد بنهاية سنة 2010 عبر امتلاك 220 شركة مرتبطة بها وفق إحصائيات لجنة المصادرة. كما تم إصدار 25 مرسوما خلال فترة حكمه لتحديد شروط الترخيص في 45 قطاعا مختلفا وقيودا على الاستثمار الأجنبي المباشر في 28 قطاعا. وقد أحصى التقرير قائمة الأملاك المُصادرة ما بعد الثورة والتّي توزّعت بين 550 ملكية عقارية و48 سفينة ويختا و367 حسابا مصرفيا وحوالي 400 شركة كانت جميعها تتبع لعائلة بن علي الموسعة ويقدر عددها بـ114 شخصا.
إرتدادات الفساد، ما يزال يدفع ثمنها التونسيّون حتّى اليوم، بعدما طالت يد العائلة الحاكمة البنوك العموميّة التونسيّة لتخلّف وضعا كارثيا للقطاع المصرفيّ العام، لعلّ أبرز عناوينها قضّيّة البنك الفرنسي التونسي الذّي تمّ تسخيره لتمويل مشاريع العائلة والمقرّبين منها من أصحاب الأعمال بقروض غير مسدّدة بلغت 700 مليون دينار وقضيّة دوليّة قد تجبر تونس إذا ما تمّ البتّ النهائيّ فيها بدفع غرامة تتجاوز 3 مليار دينار.
رحل زين العابدين بن عليّ، في منفاه الإختياري في المملكة العربيّة السعوديّة لينجو من مذكّرة توقيف دوليّة وعشرات الأحكام الغيابيّة التي بلغ مجموعها 5 أحكام بالمؤبد وأكثر من 207 سنة سجنا و218 مليون دينار تونسي كخطايا ماليّة. لكنّ ذكراه ستظلّ محفورة في أذهان التونسيّين لأجيال قادمة بتاريخ وخيارات تركت ندوبا عميقة في الذاكرة الجماعيّة والمناخ السياسيّ وديونا ستدفعها أجيال كثيرة من بعده.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.