أغربت الشمس على العائدين في سيّاراتهم على طريق الجنوب يوم 27 تشرين الثاني
تزامن موعد وقف إطلاق النار مع الموعد اليومي لتقنين تشغيل مولّدات الكهرباء في بيت نزوحنا في رأس بيروت: الساعة الرابعة فجرًا. تفقّدت شقيقي محمّد في إحدى غرف هذا المنزل القليلة، بعد أن تحوّلت كل غرفة فيه إلى مأوى لأسرة كاملة. لم أجده في الغرفة. اتصلت به، فأخبرني أنّه مع المتجمّعين عند دوّار السفارة الكويتيّة، استعدادًا للعودة. فتوجّهت إليه بسيارتي.
طرقات بيروت كانت مقفرة، بعد ليلة عنيفة من القصف المركّز على أحياء العاصمة، للمرة الأولى منذ بداية الحرب. بدأت حركة السيّارات تنتعش عند دوّار السفارة. عشرات وصلوا باكرًا، رغم أن مبنى هنا تحديدًا استُهدف بغارة مدمّرة قبل ساعات قليلة.
توجّهت بنيّة نقاشه في قراره، إذ كنّا كأسرة في حاجة لتنظيم أمورنا قبل العودة. ولكن في وسط النقاش، دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ. ضحكت وجوه الجميع بدون استثناء، وهنّأ الناس بعضهم بسلامتهم. في إحدى السيّارات، كانت حاجّة تجادل ولدها في مقعد السائق. هو يريد أن يبدأ طريقه نحو زبقين، وهي تريد أن تخرج من السيارة لتطلق زغرودة واحدة ثم تعود. انتصرت كلمتها، زغردت فسمعها الجميع، وعادت إلى سيارتها: “إمشي يا إبني”.
شغّل أحمد السيّارة، وقبل أن ينطلق، وفي وسط الابتهاج، جاء تهديد متحدّث باسم الجيش الإسرائيلي عند الساعة 4:12 تحديدًا: “إنذار عاجل إلى سكان جنوب لبنان، يحظر عليكم التوجّه نحو القرى التي طالب جيش الدفاع بإخلائها أو باتجاه قوات جيش الدفاع في المنطقة…”. نظرنا إلى بعضنا، فأطلقت أم أحمد ضحكة، ورمت على المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دعوات من النوع الذي لا نسمعه إلّا من أجدادنا. ضحك الجميع مجدّدًا. رماني شقيقي بنظرة فهمت منها أنّ النقاش انتهى. كنت قد تراجعت عن نيّتي في النقاش أساسًا، أمام هول التهديد، وإرادة الجميع في تحدّيه وكسره. انطلق هو مع الموكب في عتمة الليل، وأنا عدت إلى المنزل لاستكمال الترتيبات اللوجستية. في الطريق، كانت مدارس النازحين مضاءة، وكخليّة نحل، تستكمل السيّدات حزم الحقائب على بابها، ويربط الرجال الحقائب على سطوح السيّارات.
وقد أضاف التهديد الإسرائيليّ طبقة جديدة من عدم اليقين على إعلان وقف إطلاق النار، وبدا أنّ الناس الذين يستعجلون عودتهم، يمسكون بأنفسهم اليوم بزمام المبادرة. من هنا ربّما، خاطبهم الاحتلال مباشرة. لا سيّما أنّ “التحذير من العودة” يشمل جميع قرى الجنوب، ولا أحد مستعدّ للانصياع له بعد أكثر من شهرين من انتظار إعلان وقف النار.
وكان مضى 66 يومًا على الاجتياح الجوّي الأكثر دموية في تاريخ لبنان الحديث، يوم الإثنين 23 أيلول 2023. والذي بدأ معه عدوان شامل هجّر أكثر من 1.7 مليون إنسان ولاحق النازحين إلى مراكز نزوحهم. وكان هذا التصعيد بدوره المرحلة الأكثر عنفًا ودمويّة ضمن عدوان بدأ في 8 تشرين الأوّل 2023، بالتزامن مع حرب الإبادة الجماعيّة على غزة، بحصيلة غير نهائيّة بلغت 3961 شهيدًا و16520 جريحًا، بحسب آخر بيانات وزارة الصحّة اللبنانيّة اليوم الخميس.
وخلال العدوان على الجنوب، استهدفت 3 أقضية هي صور ومرجعيون وبنت جبيل، بأكثر من 9000 غارة، بحسب أرقام المجلس الوطني للبحوث العلميّة، تشكّل أكثر من 70% من مجمل عدد الغارات التي شنّت على كامل البلاد. وكان التدمير الممنهج للمنازل والوحدات السكنيّة، أبرز التحدّيات التي كان يتوقّع أن تواجه عودة النازحين حال وقف إطلاق النار.
على طريق العودة
في ساحة الشهداء، غادرت أسرة قبيسي منزل نزوحها في الباشورة ليلًا، على وقع تهديد إسرائيلي بالقصف. تواصلت معي، وأخبرتني بأنّها لن تلبّي دعوتي إلى منزلي، لأسباب عدّة، أبرزها ازدحام غرفه، وقرب موعد وقف إطلاق النار خلال ساعتين. لاحقًا، اتفقنا على السير خلف بعضنا، بعد اكتمال تجهيزات العائلة.
الساعة 12:00 ظهرًا، انطلقنا، كلّ بسيارته. بدأت رحلة العودة التي عادة تأخذ ساعة ونصف، لكن الطريق من بيروت إلى صور ستستغرق هذه المرّة أكثر من 9 ساعات.
المخارج من بيروت مزدحمة، وتزداد ازدحامًا مع الوصول إلى الطريق السريع باتجاه الجنوب. بحر من السيّارات، وعجلات السيّارت تتقدم ببطء شديد، لكنّ طابع العودة الجماعيّة يخفّف عنك التعب الفرديّ. والتفاصيل الصغيرة تعطي صورة عن المشهديّة الكبيرة.
في كلّ سيّارة، أسرة أو اثنتين، أو أكثر. جدّات جلسن في المقعد الأمامي وفي أحضانهنّ أحفادهنّ. كثير من الأطفال أخرجوا رؤوسهم من النوافذ: بعضهم يرفعون إشارات النصر، كثير منهم يرفرفون بالأعلام. وتختلط الأناشيد بين سيّارة وأخرى.
قبل الجيّة بقليل، وبعد 3 ساعات من الانطلاق من بيروت، اختنق السير تمامًا. ركنت السيارة حيث هي، ونزلت. بيدي جهاز تسجيل، أقترب فيه من الناس، فتبتسم وجوههم المتعبة من طول الطريق: “كان التهجير أقسى، والحمدلله راجعين على بيوتنا”، يقول محمّد مصطفى، خمسينيّ من الغازيّة: “بدي بوس تراب الغازية وحطّه على راسي”، يقول بانفعال.
أرى على بعد ست أو سبع سيارات، سيّدة مسنّة تراقبني وأنا أسأل الناس، فأقترب منها، ويشرق وجهها: “فرحة يا إبني، راجعين على ضيعنا وأرضنا، عزيزين ومنصورين”، تقول بلهفة، فأسألها عن البيت: “البيت راح”، ثم تشير إلى بناتها، “وبيوتهن كمان راحت”، لتستدرك أم علي: “منرجع وبتتدبر، أرضنا بتحضنا ببيت ومن دونه”. فيتدخّل السائق -الذي عرفت لاحقًا أنّه جار لهم في القرية – ويقول: “بيتي بعده واقف، بس العفش مكسّر. بس رح نقعّدكم بقلبنا يا حجّة”، فترد بعفويّة ومع ضحكة أعرض: “إيه يلا أغراضنا معنا ما منكلفك شي”. وتشير إلى الحقائب والفرش المثبّتة على السيّارة.
وعلى أسطح السيّارات، وفي الصناديق، تمّ تربيط أثاث بسيط: فرش، حرامات، طاولات بلاستيكيّة، بعض الصواني وأباريق الشاي. باختصار، كلّ ما يمكن حمله. يعود الناس محمّلين بأغراضهم، غير متأكدين من سلامة منازلهم، أو عارفين بتدميرها، لكنهم يعودون على أي حال. رغبتهم في العودة أقوى من الخوف من المجهول.
الحاجة أم علي التي كانت في السيارة مع اثنتين من بناتها وأطفالهما، وزوجة السائق وابنه، لم تناقش مع أولادها أين سينامون. كانت العودة أهم من كل شيء آخر، أهمّ حتّى من الحذر الموجود مع التهديد الإسرائيليّ الصادر فجرًا ضدّ العائدين.
تهديد جديد
تحرّك السير، فحرّكت سيّارتي. عدت من صحافيّ يستصرح الناس، ويقتحم عليهم تكدّسهم في طريق عودتهم، إلى عائد آخر مثلهم في سيّارة من آلاف السيّارات التي ملأت الطريق السريع وكذلك الطريق البحريّ. كانت الساعة 4:29 من بعد الظهر، حين وصل تهديد جديد. نشر المتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ عينه بيانًا حذّر فيه الجنوبيّين من الانتقال من شمال الليطاني إلى جنوبه بعد الساعة الـ 5:00 مساء وحتّى صباح اليوم التالي، كما حذّرهم من التجوّل جنوب الليطاني.
بدا التهديد الإسرائيليّ أشبه بنعيق غراب، يريد أن يكسر مشاهد الفرح العارمة، وأن يحدّ من مواكب العودة المتدفّقة، منذ الـ 4:00 فجرًا، وحتّى الساعة.
التهديد الأوّل، لم يؤت أكله. وصل الناس الذين انطلقوا فجرًا إلى قراهم كلّها، المهدّدة بالإخلاء منذ 66 يومًا، والتي تجدّد تهديدهم إذا ما توجّهوا إليها فجرًا، حتى تلك الحدودية، والتي لا يزال الاحتلال الإسرائيليّ متمركزًا فيها. اقتحموها، متجاوزين التهديدات، وفوهات المدافع المصوّبة نحوهم. كانت مشاهد استعادة الأرض تتوالى. رأينا على هواتفنا ومن سيّاراتنا المتكدّسة على طريق الجنوب، مشاهد وصول أهل عيتا الشعب إليها، ونزعهم الأعلام الإسرائيليّة عن معالمها، ثمّ إحراقها. هناك من وصل إلى الجدار الحدوديّ في كفركلا، والتقط صورة، وفي الخيام، حيث كانت أمّ المعارك، وعجز الجيش الإسرائيلي عن السيطرة عليها، وصل الناس فوجدوا قوات الاحتلال لا تزال متمركزة إلى حيث وصلت، لكنّهم دخلوا بيوتهم على كلّ حال. وفي بليدا، وميس الجبل، التقت الأسر بأولادها الذين ظلّوا يقاتلون فيها، وبين هؤلاء، من تمّ نعيهم سابقًا على أنّهم شهداء، بعد أن انقطع الاتصال بهم لشهر وأكثر. وظلّت هذه المشاهد وأمثالها تتوارد، رغم إطلاق النار من قبل الجيش الإسرائيلي على مواطنين وصحافيّين، وحتّى اعتقال بعضهم.
كان المشهد واضحًا، بأنّ هناك إرادتين تتصارعان الآن في الميدان، أهل الأرض، يريدون أن يعودوا، ليستعيدوا بعودتهم أرضهم، والاحتلال، بجيشه، وبمتحدّثيه، وبمدافعه وببياناته، يريد أن يكسر لهم هذه الإرادة. لكنّ الواجب كان يقتضي أن أبلغ الأسرة التي سارت خلفي من بيروت. توجّهت إليهم: “وصل تهديد جديد، ولن نصل الليطاني قبل ساعتين أو ثلاثة، وربما أقلّ أو أكثر، فماذا أنتم فاعلون؟” نهرتني كبيرتهم، مجدّدًا: “متّكلين على الله، إذا ما رجعنا اليوم ما رح نرجع بعمرنا”، ردّت بحزم، قبل أن تبتسم، كأنّها تعرف أن رغبتي في مكان، وواجبي بإبلاغها وأسرتها بآخر المستجدّات، في مكان آخر.
وصلنا صيدا عند الـ 7:00، ومن صيدا، استلمنا أوتوستراد الجنوب، نحو الليطاني ثمّ صور، المواكب على حالها، والسيّارات تتدفّق، رغم أنّ السير بات أسهل، مع تجاوز حاجز الأوّلي والطريق الساحلي الضيّق في صيدا. وهنا، فصل جديد. حيث اكتملت العودة، ووصلنا الجنوب، ودقائق قليلة تفصلنا عن عبور الليطاني، النهر الذي لا نعرفه سوى مصدرًا لمياه الري، وفسحة للتنزّه والسباحة، وقضاء الأوقات العائليّة الحميمة، لكنّه في القاموس الإسرائيليّ، حدّ يرتبط بأطماع تاريخيّة ومرجع جغرافيّ في تهديداته لنا.
قبل بلوغ النهر، عرّجت على منزل شقيقتي، عارف بأنّ التدمير الإسرائيلي نال منه، لكنّها كانت ربّما رغبة في إلقاء نظرة أخيرة على ما بقي، وحسنًا فعلت. وجدت فيه ملابس أبنائها المبعثرة، تعوّضني عن اشتياقي لهم، بعد أن أبعدهم درب نزوحهم عنّي لشهرين ونيّف. أخذت الصور التوثيقيّة، ولم أرسلها إلى شقيقتي بعد، ولم أخبرها بأني وصلت قبلها إلى منزلها المدمّر، وتابعت مسيري.
على حاجز القاسميّة، كان جنديّ من الجيش اللبنانيّ يقف مبتسمًا للقادمين: “عوافي يا وطن”، فيردّ السلام بأحسن منه، وأتابع طريقي، إلى صور، أمامي وخلفي سيّارات لا أعرف لها بداية أو نهاية، ننتهك جماعيًّا الخطوط الإسرائيليّة المرسومة لنا، على طريق عودتنا.
في صور وقراها
كلما اقتربت من المدينة الأم، صور، كان الدمار يتعاظم، مغطّيًا معالم الحياة التي كانت تعرفها المدينة. على مدخل صور، فتح أهل مخيّم البص للاجئين الفلسطينيّين ممّن صمدوا في المخيّم، بعض محالهم التجارية، بينما كانت أضواء السيارات تضيء الظلام المحيط، كاشفةً عن حجم الدمار الكبير.
توجّهت إلى المنزل الأصل، منزل جدّتي، ومنزل العائلة، في حي الأليسا، حيث كبرتُ، وكبر والدي. مجزرة ارتكبت هنا، مع تهديم مبنى آل مسلماني على رؤوس أهله، وفي مكان الغارة، تشكّلت تلّة من الرمل تحجب مدخل بيت جدّتي، وإذا صعدتها يبان لك دمار مهيب تراه على ضوء الهاتف. عدد من الأبنية المحاذيّة دمّرت بدورها، فأسمع أسرة من العائدين تثني على صلابة أساسات المنزل.
على الأرض، حجارة رمليّة عمرها من عمر توسّع صور خارج الحارات القديمة، منتصف القرن الماضي. المنزل صامد هنا، لكنّ التشقّقات لا تبشّر بالخير. ألتقي بعائلة من عوائل الجيران، وصلت قبلي، فخافت البقاء من دون التأكّد من سلامة المبنى. نخاطر سويّة، يدخل شابّان من الأسرة إلى مبناهم المقابل لإحضار بعض الفرش، وأدخل أنا، مستطلعًا، ومكتشفًا تحطّم الاثاث، وانتشار المزيد من التشقّقات في المبنى. تحطّم كلّ شيء هنا، لكنّ صورًا قديمة نجت، أجدها موضّبة وقد وضعت على جنب. لم أعرف من وضّبها، لعلّه أحد من أبناء عمومتي جاء قبلي. وجدتها أنا موضّبة، تصفّحتها، وأعدتها حيث كانت.
تأخّر الوقت هنا، فتوجّهت إلى الحوش. إلى منزل جدّي لجهة أمّي. أدخل الحي على حذر، وأسير فوق الزجاج المتناثر على كلّ الطريق. أبحث بنظري عن المبنى المستهدف، أجده هو مبنى بيت جدّي. الغارة خلّفت دمارًا كبيرًا لكن المنبى صمد ولم ينهَر. ومنه يخرج خالي. لا أميّز ملامحه في العتمة، لكنّه يعرفني، فأجده ينقلب طفلًا صغيرًا بين يديّ. مندفعًا جاء ليحضنني. أهنّئه على سلامته فينهار باكيًا. لقد نجا خالي من هذه الغارة، ولمّا رآني، شعر بحاجة للفضفضة. بكاؤه كان لأنّه منذ تلك الغارة، أرسل ولده مع والدته، وظلّ صامدًا، وإن خائفًا. وقد عادت إليه الروح لمّا رأى قريبًا من عائلته أتى يتفقّد حاله.
تصل سيّارات العائدين تباعًا، حاملة العوائل إلى الحيّ، عادوا، وعدنا، إلى حيّ نهشته الغارات، لكنّ الناس لا تتردّد بالدخول إلى ما صمد من مبانيه، وبدء أعمال التنظيف بسرعة.
يتكرّر المشهد من حيّ إلى آخر، ثمّ من قرية إلى أخرى. غياب تامّ للكهرباء، مبانٍ في الأرض، وأكثر منها، تلك التي تحطّمت أبوابها ونوافذها، لكن رغم هذا الواقع، يبدي العائدون تصميمًا واضحًا على الحياة، كما لو أنّ الدمار الذي يكتشفونه ليس سوى اختبارًا جديدًا لإصرارهم على العودة.
وطرقات القرى تزداد ازدحامًا، مع وصول المزيد من السيّارات إلى قرانا، “قرى جنوب الليطاني”، تلك التي هدّدها الجيش الإسرائيلي قبل ساعات. ظلّت هذه التهديدات في يوم العودة، حبيسة مطلقها. وأنا، بين هؤلاء، أتجوّل بين القرى، وبين البيوتات التي أعرفها. أطمئنّ عليها، وأوثّق شهادات العائدين.
على الطريق إلى عين بعال، كان شبّان قد وصلوا وتجمّعوا. يرحّب علي، العشرينيّ، بالعائدين، يقدّم الماء للكبار والحلوى للصغار. تحوّلت شرفته المحاذية للطريق العام، إلى محطّة جديدة على طريق العودة. أحاديث المتوقّفين هنا: تهاني متبادلة بالسلامة، واستفسارات عن حال البيوت، وأسئلة تتكرّر: “متى يتم تشغيل مولّدات الكهرباء؟ ومتى يتم إصلاح الكهرباء؟ والمياه؟ والاتّصالات؟” كان الناس يطوون المراحل، بأسئلتهم، ويتمسّكون باستعادة مقوّمات الحياة الأساسيّة في قراهم، تمسّكهم بعودتهم.
استعادة الأرض
بعد يوم طويل في رحلة العودة، وصلت إلى منزلي المتروك منذ أشهر على تلة عالية بين قرى عين بعال وحناويه وعيتيت والبازورية. وجدته صامدًا لكنه لم ينجُ من القصف، يختبئ فيه 4 كلاب دخلته بعد تضرّره الجزئيّ، وظلّت تحدّق بي، من دون أن تغادر دفء الكنبات التي احتمت فيها، فخرجت من دون أن أزعجها. أما الحديقة، فقد كانت منتعشة كما لم أرها من قبل. على الباب الرئيسي الذي انهار زجاجه، كما سقط زجاج باقي المنزل، تسلّقت شجرة البوغانفيليا التي سدّت المدخل، حملت هاتفي، وحاولت الاتصال بوالدتي لولا أنّه لم يكن هناك إرسال، فصوّرت لها حال الحديقة، وهي كانت تخاف عليها أكثر من المنزل. رغم الحياة التي ملأت المكان، المنزل غير صالح للمبيت، وقد باتت غرفة الجلوس تطل مباشرة على الحديقة – وهو الوصف الذي قلته لوالدتي من باب التخفيف عنها لإخبارها بوجود أضرار تحتاج للترميم – من دون جدار أو نوافذ. بات شقيقي في منزل صديق له، وستعود والدتي غدًا، وسنرمّم بعد غد، أمّا اليوم، فكان عليّ أن أجد مكانًا للمبيت.
عاد الإنترنت مع مغادرتي المكان، أرشدني صديق إلى منزله في قرية طيردبّا، وأرسل لي تسجيلًا صوتيًا من والدته فيه وصف مفصّل لمكان المفتاح. وصلتُ، ووجدت المفتاح، لكنّ أضرارًا في غرف النوم، وتحطّم ألواح الطاقة الشمسيّة جرّاء الغارات المحيطة، جعلت المبيت صعبًا. فعدت إلى صور، إلى منزل قديم في حاراتها، أويت إليه، بدعوة من صديق، ونمت على صوت أمواج البحر المتكسّرة عند أعمدة أثريّة ملقاة على البحر. للمرّة الأولى، نمت في الجنوب، وفي صور، من دون صوت الطائرات المسيّرة الإسرائيليّة. ولعلّ صمت هذه الطائرات، هو التفصيل الأهم الذي رافق رحلة العودة هذه، ولم أذكره سابقًا، لأنني كنت طوال هذه الرحلة، أخاف عودتها، حتّى نمتُ.
على الطريق، كانت لا تزال قوافل النازحين تتدفّق، وتختنق جميعها عند الجيّة لتنفرج بعد صيدا، وكنّا نعرف جميعًا، أنّ أسئلة كثيرة تختزنها الأيام المقبلة، عن عودة الخدمات، وإعادة الإعمار، ومستقبل وقف إطلاق النار وسط التهديدات الإسرائيليّة الشاملة ضدّ جنوب الليطاني، والخروقات الإسرائيليّة المتكرّرة ضد الناس والمناطق، لكن إجابة واحدة كانت تبدو واضحة في يوم العودة، وهي أنّ الجنوب شهد على قيامة الحياة فيه رغم التهديد، يوم 27 تشرين الثاني 2024، وأنّ الناس، بعودتهم، ثبّتوا استعادتهم للأرض، بانتظار إعادة بناء البيت.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.