في خريف العام 1984، كان حال البلاد مُضطربًا: “الرّجل المريض” حينها، الرئيس الأوّل للجمهوريّة الحبيب بورقيبة، يعيش فُصول سنواته الأخيرة في السُّلطة، بعد أشهر من “ثورة الخُبز” التي هزّت أركان حُكمه الطّويل بعنف. وفي ذلك الخريف -أيضًا- بدأ شابٌ يُدعى بلقاسم بُوقنّة، فُصول سنته الجامعيّة الأولى -والأخيرة- في شعبة الحقوق في تونس العاصمة. شابٌ آفاقيٌّ ريفيٌّ وخجول، قادمٌ من مضارب البداوة والصّحراء من عمق جنوب البلاد. إلّا أنّ الحظَّ لم يُسعفه لمواصلة دراسة القانون الذي حلم بالتخصّص فيه. حيثُ لم تتلاءم أوضاع البلاد المُضطربة ولا أجواء العاصمة، مع طبيعةِ ونفسيّة الشّاب ولا ظُروفه العائليّة. بَيد أنّ ذلك الشّاب نفسه سيصير لاحقًا، بتحصيلِ سنته الجامعيّة الوحيدة تلك، مُعلّمًا في المدارس الابتدائيّة في مسقط رأسه بقلعة دوز جنوب غربي البلاد، الواقعة على تُخوم العرق الصّحراوي الكبير. وحيث سيقضي بقيّة حياته، مُراوحاً بين التعليم كمهنةٍ والفَنِّ كهواية.
مساء الأحد (05 ماي 2024)، وبعد أشهرٍ من إحالته على شرفِ المهنة، رحلَ بلقاسم بُوقنّة. رحلَ بصمتٍ وبهدوءٍ بعد معاناة ثقيلة وطويلة مع قُصورٍ في الكلى. رحلَ الرّجلُ تاركًا سيرةً لم تُكتب، ولكنّه تركَ أيضًا مُنجزًا فنيًا استثنائيًا. وربّما تلك هي الميزة الجوهريّة التي تصنع “قصّة” بلقاسم بُوقنّة: رجلٌ زاهدٌ في المجد والظّهور ومُتعفّفٌ عن النّجوميّة، يُحبُّ الظّلال والهوامش. لكنّه ينتجُ بغزارةٍ وبكثيرٍ من الشّغف والإتقان والجّودة الفنيّة، مشاريعَ غنائيّة ببصمةٍ مُتفرّدةٍ جدًا. حتى راكم مع السّنوات ما يُمكن اعتباره -فعليًا ومن دون تردّد- مدرسةً خاصّةً في الفنِّ البدوي التّونسي. مدرسةٌ بطابعٍ متميّزٍ على صعيد الكلمة واللحن.
عرفتُ بلقاسم بوقنّة، في سنواتِ مُراهقتي الأولى، نهاية التسعينات. وكان نجمه قد صعدَ منذ منتصف ذلك العقد الأخير من القرن الماضي. كان فنّاني المُفضّل والأوّل، وكان -على كلّ حالٍ- أيقونة جيلٍ بأكمله هنا في الجنوب. حضرتُ له أوّل حفلةٍ، بداية الألفية الجديدة، في محطّة لسيّارتِ الأجرة (اللوّاج) في تطاوين، ضمن تلك المهرجانات الطّويلة التي كانت تُقام كلّ عامٍ بمناسبة السابع من نوفمبر. بدا لي بسيطًا حينهَا، وبعيدًا عن تلك الصّورة التي رسمتُها عنه في خيالي انطلاقًا من أغانيه. كانت تلك الحفلة الأولى -والأخيرة أيضًا- التي أحضرها، ولم ألتقِ به بعد ذلك أبدًا، رغم ما صار يجمعنا لاحقًا من أصدقاء مُشتركين. كُنت أرسلُ له السّلام، وأطمئنُّ على أخباره من بعيد. كان بُوقنّة بالنّسبة لي شيئًا رمزيًا أكثر من كونه حقيقةً شخصيّة ماثلة. ذلك الصّوت الذي رافقني في مراهقتي، وتقاسم معي قصص الحُبّ الطّفوليّة الصّغيرة. كانت أغانيه مُترعة بالمعاني الوجدانيّة والصّور الشّعريّة الثّقيلة بالشّجن والعاطفة. وللأبد، سيبقى بُوقنّة، واحدًا من أولئك الذين منحوني -باكرًا- تعلّقًا بالكلمة والشّعر والصّورة والرّمز، وأخصَبوا خيالي، ومنحوني قُدرةً على تذوّق الجمال.
بدأ بُوقنّة مُمارسة الفنّ صغيرًا، منذ الثمانينات، يُغنّي مع أصدقائه في الجلسات الخاصة. ثمّ بعد عودته إلى مسقط رأسه، إثر سنته الجامعيّة اليتيمة، واستقراره مُعلمًا بالمدارس الابتدائيّة في دوز، دخلَ بُوقنّة طورًا آخر من مراحل حياته الفنيّة بإصدار أوّل ألبوماته سنة 1995. لكنّ البداية لم تَكن سهلةً أبدًا. عَرضَ مشروعه على شركتيْ كاسيت، فرضتْه الشّركتان بحسمٍ قاطعْ. فقد رأتْ فيه نمطًا جديدًا، غير مضمون النّجاح بالإضافة لصعوبة الكلمات في الأغاني المُقترحة. بدا بُوقنّة وهو يحكي تلك التفاصيل بعد سنواتٍ بعيدةٍ، مُتفهّمًا ومتسامحًا مع تلك العراقيل. تحدّثَ بنبلٍ وبتفهّم عن الطّبيعة التّجاريّة لشركات الكاسيت وحقّها في ضمان استثمار ناجح.
في كلّ حواراته، يُصرّ بُوقنّة على الابتعاد عن المظلوميّة، وكذلك التخفّف من “المَلحميّة” في مسيرته. بطُفوليّة يحكي كيف استلفَ قرضًا من البنك، لإنتاج ذلك الألبوم الأوّل على حسابه الخاص. كان يُحرّكه الشّغف وحُب الفّن: “واللّه حُبْ في الفَن وفي بعضْ القصايِدْ من الشِّعر الشّعبي، لا أكثر ولا أقلّ” كما قال. ومع ذلك رفضت الشّركات مرّة أخرى حتّى مُجرّد توزيع الألبوم. ورغم كلّ تلك العراقيل، حقّق المشروع نجاحًا كبيرًا وفتحَ له باب الشّهرة والانتشار بشكلٍ واسع. ليبدأ بُوقنّة منذ تلك السّنة صناعة “أسطورته الشّخصية” (بتعبير باولو كويلو)، وتبدأ مسيرة النّجاح، ببصمةٍ ونمطٍ خاصين ومُتفرّدين. ولتولدَ ما ستصير لاحقًا، مدرسةً جديدة واستثنائيّة في الفن التّونسي.
صنع بُوقنّة لنفسهِ علامةً فنيّة خاصة. فعلى صعيد المظهر، كان يحرصُ على ارتداء “القشطة” (العمامة) في حفلاته وفي حضوره الإعلامي. وعلى الرّكح كان يتّسمُ بخُمولٍ خجول. لا يتحرّك كثيرًا، ويُمسكُ الميكرفون بكلتا يديه، كطفلٍ شغوف بلعبته المُفضّلة. ويدخلُ أحيانًا في حالات من التسلطن الوجداني، حتّى يُغمضَ عينيه في بعض المقاطع ذات المعنى الشّعري الثّقيل. أمّا على مستوى المضمون، فقد كان الشّيء الذي صنع فرادة مشروعه الفنّي -حقًا- هو قُدرته على انتقاء النّصوص الشّعرية والكلمات.
في كلّ مرّة يتكلّم فيها إعلاميًا، يُشدّد بوقنّة على ولعه بالكلمة، وبالصّورة الشّعرية. ويؤكّد دومًا على ارتباطه الوجداني والذّوقي بالشّعر. وفي الحقيقة، لا يُمكن لأيّ متابعٍ لأغانيه أن يُخطئ هذه الميزة الفنيّة في أعماله. أعني جودة النّصوصِ، وتوفيقه الدّائم في اختيار القصائد وكلماتِ الأغاني. وهُنا، لم يكن بُوقنّة يخدمُ فَرادةَ مشروعه الفنّي الشّخصي فقط، بل كان يقدّم أيضًا تلك الخدمة الكبيرة للثقافة التّونسيّة كلّها، بإحياء نصوصٍ مندثرة من التّراث البدوي، وينفخَ الرّوح -بفنّه- في أعمال كبار الشّعراء من أساطين “الملحون” وعلى رأسهم العُرف أحمد البرغوثي، الشّاعر القامة الذي يُعتبر عمودًا رئيسيًا من أعمدة الشّعر الشّعبي، لا فقط في تونس بل في كلِّ المغرب الكبير.
عن ثراء هذه المُدوّنة الشّعرية التي ينهل منها، يُشير الباحث في التّراث الأستاذ يلقاسم بن جابر للمفكّرة القانوُنيّة إلى أنّ بوقنة في مشروعه الفنّي “لم يتّكل فقط على حنجرته الصادحة وطبقات صوته العالية. بل كان أيضًا يتخيّر عيون القصائد من الشعر الشعبي التونسي من شعر أحمد البرغوثي وعمر البازمي وبلقاسم عبد اللطيف والجيلاني العذري ومحمد الطويل المرزوقي وسالم بوخف وكذلك قصائد تراثية لا يُعلم قائلها ولكن حَفظتها الذاكرة الشعبية، ولم يستنكف من غناء نصوص غنائية خفيفة لبعض رفاقه كالبشير قريرة”.
غير أنّ هذه الانتقائيّة الشّديدة والحريصة للنّصوص الشّعريّة، بقدر ما تعطي ميزةً لمشروعه الفنّي، وقيمةً جماليّةً عالية ومُتفرّدة، إلاّ أنّها قد حدّت -في المُقابل- من انتشار أعماله ووصولها لقاعدة جماهيريّة أوسع. إذ أنّ ميزة نُصوص بلقاسم بُوقنّة المختارة، هي جودة التّصوير الشّعري النّابع من مناخات صحراويّة وبدويّة شديدة الخُصوصيّة، مع ارتباطها بسياقات تاريخيّة قديمة لم تعدْ معالمها مُعاشة بكل تفاصيلها في زمننا الرّاهن، وكذلك صُعوبة كلماتها المُوغلة في التّراثيّة والقِدَم. لذلك فإنّ شرائح واسعة من المجتمع الحَضري التّونسي وأغلب فئات الشّباب، لا يُمكنها أن تفهمَ وتستوعب معاني الأغاني وصورها الشّعريّة. فمثلاً يصعبُ على مُعظم الأشخاصِ (من غير بدو الجَنُوب) أن يفهموا المعاني في أغنية “يا سمح الصّيفة”، وهي واحدة من أجمل وأثرى أغانيه على الإطلاق. فكلمات الأغنيةٌ ترسم رحلةً عبر خارطة “الظّاهر” الصّحراوي، بمسارب لا يُمكن أن يستوعبها إلاّ من عرف الصّحراء التّونسيّة وجغرافيتها وأماكنها وطوبونوميتها المُعقّدة.
لهذا ربّما، يُمكن -على النّقيض- فَهم النّجاح الكبير الذي حقّقته أغنية “على الله يا أُم الغثيث الحِمالي” التي غنتها أمينة فاخت، ولاحقًا إيمان الشّريف، ثمّ أدّاها بتوزيعات مُتنوّعة مجموعات أخرى متتابعة من الفنّانين. فتلك الأغنية حقّقت نجاحًا واسعًا بسبب بساطة كلماتها (مُقارنة ببقيّة أغانيه) وبسبب إيقاعها الذي يمنحها روحًا خفيفةً و”استهلاكيّة”. غير أنّ تلك الأغنية تطرحُ -أيضًا- نقاشًا آخر، أعمقَ، حول الفنّ البدوي، وموقعه في الأغنية التّونسيّة وشُروط نجاحه وفشله، الموضوعيّة والذّاتيّة.
ظلّ الفنُّ البدوي طيلة عُقود، منبوذًا من قبل الثقافة الرّسميّة التّونسيّة. وظلّ بمختلف أنواعه يترَعرع على هامش تلك الثقافة وفي هوامش البلاد الطّرفية وفي دواخلها القبليّة والرّيفيّة. وظلّ مَوصُومًا أيضًا من قبل “الثقافة العالمة” التي كانت تَزدريه وتقمعهُ تحت أوهام (أو أحلام) التّحديث الاجتماعي والثقافي. غير أنّ فلتات عبقريّة قليلة تمكنّت من اختراق تلك الجّدران السّميكة والعالية للثقافة الرّسمية مثل إسماعيل الحطّاب بنمط الصالحي المثلوثي، الذي صنع بدوره مدرسته الخاصة التي تخرّجت من ظلالها أسماء كبيرة في الفن التونسي. كما تحقّقت أيضًا اختراقات مُتباعدة تمكنّت فيها بعض المشاريع الفنيّة المتميّزة من كسب بعض المساحات الصّغيرة لصالح “الثقافة الشّعبية” مثل “عرض الفن الشّعبي” على مسرح قرطاج في العام 1980 ثمّ عرض “النّوبة” على نفس المسرح في العام 1991. بوقنّة، برغم عوائق اللهجة و”ثِقل” مُتونه الشّعريّة حقّق هو الآخر اختراقًا مُهمًّا، منح به مساحاتٍ إضافيّة للفن البدوي على خارطة الثقافة الوطنيّة.
غير أنّ بُوقنّة، لم يكُن يُتقن صناعة “الصّورة”. ولم يدخل لعبة الدّعاية ولم يكن جزءًا من صناعةٍ ما. كان “علامةً فنيّة”، أكثر من كونه “علامةً تجاريّة”. نحتَ على مدى عُقودٍ مدرسته الخاصّة، وسيّج نفسه داخل طباعٍ ذاتيّة سِمتها الخجلُ والتواضعُ والتعفّف. وحتى حين اندلع الصّراع بين أمينة فاخت وإيمان الشريف حول أغنيته “على الله”، ترفّع عن دخول المعركة وعن الانحياز. قال كلامًا وَدُودًا عن الجميع ومنح فنّه مُشاعًا لكل من أراد غناءه، ثمّ صمتَ بخجل الأطفال وتواضع الكبار.
لذلك بقدر ما كانت طباعهُ الشّخصيّة أيضًا ميزةً تصبغ “علامته الفنيّة”، بقدر ما كانت عائقًا أمام صناعة “العلامة التّجارية”. حيثُ لم يسعَ نحو النّجاح أبدًا. يعملُ بشغفٍ وصمتٍ وبزُهدٍ أيضًا، يقدّم أعمالهُ ثمّ يعود مُسرعًا نحو الظّلال والهامش. عاشَ زاهدًا في الشّهرة والنّجوميّة والظّهور. وتركَ للفنِّ، للفنِّ وحدهُ أن يتكلّم باسمه، وأن يحكي قصّته لاحقًا.
حين رحلَ بُوقنّة، ظهرَ نجاحهُ ماثلاً. بدا كنجمٍ حقيقيٍّ، محبوبٍ ومشهور. تداول الجميعُ على مواقع التّواصل الاجتماعي أغانيه وذكرياتهم معه. أجيال من المراهقين والشباب ظلّوا لأيّامٍ يحكون قصص آبائهم مع بلقاسم بُوقنّة. وحتّى أولئك الذين لم يتذوّقوا فنّه ولم يعرفوه كفنّان، حزنوا على الإنسان الذي كان.
نحتاجُ لعمل بحثيٍّ، وتوثيقيٍّ، بمناهج علميّة لمشروعِ بُوقنّة. نحتاج أن نُبوّبَ أعماله، تواريخ إنتاجها، ونجرد قوائم الشّعراء والأغاني والعازفين، لنكون أمام مشهدِ المُنجزِ كاملاً وواضحًا. وهذا عمل لا بدّ أن تسعى إليه هيئات حكوميّة أو مدنيّة، وربّما أصدقاؤه أو مجموعة من الباحثين. سيكون من المفيد جدًا، حتّى للمعرفة الأكاديميّة نفسها، العمل على مشروع فنّان نحتَ مدرسةً خاصة في الفنّ البدوي التّونسي وصَنعَ علامة فنيّة مميزة في تاريخ الثقافة الوطنيّة. مشروعٌ غزيرُ وطافح بالثراء الأنثروبولوجي والأدبي والتاريخي.
تنوّعت أعمال بُوقنّة بين مختلف الأغراض. غنّى في العاطفي وغنّى للقيم والبداوة وللوالدين وللرسّول الأكرم. لا يُمكن أن تجدَ إجماعًا على أغنية مُعيّنة بين جُمهوره. ورغم أنّ شهرته الواسعة، واختراقاتهُ الكبيرة قد صنعتها أغنية “على الله”، إلاّ أنّ أغنيّة “يا والدة كانك علي دمّاعة” قد حازت شُهرة واسعة لمضمونها الإنساني وكلماتها العاطفيّة الشّفيفة. تكلّم ذات مرّة عن أُمّه في برنامجٍ تلفزيٍّ قبل أداء الأغنية، وهي التي رحلت قبلهُ بأشهرٍ قليلة. غنّى للحُب والفراق والبداوة والجمل والقافلة والنّجع والرّحلة والشّمس والفقد والفرس واللّيل والحبيبة. تزوّج بُوقنّة كما قال “زواجًا تقليديًا” سمته العرف والحُب، وبنى عائلةً من أربعة أطفال: ولدين وبنتين. أحدهم اسمهُ علاّم حضر معه برنامجًا تلفزيًا، قدّمّه فيه للنّاس بحبٍّ وفرح.
ظلّت دومًا أغنية “حسّ القطَا” هي أغنيتي المُفضّلة، لجماليّة نصها الشّعري وقوّته التصويريّة، وجماليّة أداءه له أيضًا. وعن ذلك النّص يقول الباحث الأستاذ بلقاسم بن جابر أنّها “نصٌّ بلغ من الشعرية العالية وقوة الصورة وجمال المعاني وتطريب الإيقاع، وكاد أن ينسى كما نُسِي شاعره المجيد سي سالم بُوخُف الذي مات صغيرا قتله العشق صريعا للغواني. فالتقطه الفنان الخبير البارع بلقاسم بوقنة فحافظ على روحه التراثية المتوهجة وبث فيه من التجديد الموسيقي وأخرجه للناس ففتن به كل صاحب ذوق رفيع أصيل”.
أحبُّ تلك الأغنية، بذات الشّغف الذي التقط به بُوقنّة النّص، وبذات الشّغف الذي غنّاهُ بها أيضًا. كلماتها قويّة وصورها الشّعريّة باذخة بجمالياتٍ مُبهرة: “عَلْ صدر لَولافْ نشبح جرايد * ڤلايد محنّه * جُمّار كيف فتڤ اللِّيف منّه”. لا أعرفُ فنّانًا في كل تاريخ الفنّ التّونسي غنّى كلمات بعظمة هذه الصّورة وقوّتها وجسارتها وسِحريتها: “يا سَعد من دار زندك وِسادة * لحڤ ما تمنى * و يوم الآخرة تضمنيله الجنة”!
لم يرغب بُوقنّة يومًا، في أن يكون نجمًا. لم يدّع الموهبة أبدًا. لم يسعَ لحظةً واحدة نحو المجد. كان يُحرّكه الشّغفُ وحده، وحبُّ الفنّ والشّعر والكلمة. كان مُؤمنًا بالخُصوصيّة الثقافيّة، ومنحازًا إليها وحاملاً همَّ إحيائها. لم يدّع الاحتراف -حتّى- وظلَّ في كُلّ مرّة يتكلّم فيها، يُصرّ على أنّه مُجردُّ هاوٍ. كان يتعفّفُ عن إدّعاء المظلوميّة أو اصطناع المَلحميّة، كان يُبسّط سيرته بأقل ما يمكن من الكلمات، وينفرُ بأنفة من التعاطف. وبزهدٌ صُوفيٍّ مُتعفّف كان يخجلُ من المديح. لكنّه كان جديرًا أن يُمدح وصار اليوم جديرًا أن يُرثَى، وسيبقى كلّ يومٍ جديرًا بأن يخلدُ بفنّه ومدرسته التي أنجزها ونحتها على مدى عُقود، وبالطّريق الذي فتحه لعشراتٍ آخرين من بعده، من فنّاني الهوامش الجغرافيّة والثقافيّة.
طالمَا سحرتني أغاني بُوقنّة، وسحرت آلافًا آخرين من البدو في تونس وليبيا والجزائر، وشغفَ بها التّونسيون في مختلفِ مناطق البلاد. فرضَ نفسهُ وثقافته ولهجته وعوالمه البدويّة واخترق بها أسوار “الثقافة الرّسميّة” التي طالما جعلت للفنِّ قوالبَ جامدة ومقدّسة داخل أنماط شعريّة ومقامات مُوسيقيّة نهائيّةٍ لا يُمكن القفز فوقها. جاء بُوقنّة كرجلٍ ثوريٍّ من الصّحراء، مُعمّما بالخجل والشّغف، قفز فوق كلّ شيء وتركَ بصمته الجميلة والأبديّة في الثقافة التّونسيّة، ثمّ رحلَ -إلى رحمة الله- بصمتٍ وسلام.
وداعًا بلقاسم الجميل. سيفتقدك الرّعاة والعُشّاق والبدو والمُهرّبون والشّعراء وأحباب الله.