في خضمّ الحرب الإبادية ضدّ غزة وتمدّدها إلى لبنان، شهدت الأشهر الماضية حركة سياسية واسعة عنوانها ضرورة معالجة خطر تدفّق المواطنين السوريّين إلى لبنان، وهو التدفّق المستمرّ منذ 2011. أخذتْ هذه الحركة أشكالًا عدّة تدرّجت من مبادرات تشريعيّة إلى تحرّكات لشباب الأحياء من أجل “تطهيرها” من التّواجد السوري. وقد تسارعتْ وتيرة هذه الحركة في إثر مقتل المسؤول القوّاتي باسكال سليمان على يد عصابة لسرقة السيارات اتّضح أنّ عددًا من أعضائها سوريون. كما عادت وتسارعت في إثر الإعلان عن “الهبة الأوروبيّة” للبنان، والتي عدّها كثيرون بمثابة رشوة للبنان لاقتبال التّواجد السّوري على أرضه والتعهّد بحراسة حدود أوروبا من الهجرة غير النظاميّة انطلاقًا من أراضيه. إلّا أنّه ورغم تعدّد الإجراءات الهادفة إلى مكافحة تزايد أعداد السّوريّين الوافدين إلى لبنان والمُقيمين فيه وتباينها، يُسجّل أنّها تقوم في عمقها على تغليب مكافحة هؤلاء أفرادًا وجماعات، فيما تكاد تخلو في المقابل من أيِّ مسعى ذي شأن لمكافحة العوامل المحفّزة للجوء السّوري إلى لبنان أو استشراف السبل لتخفيف الأعباء الناتجة عنه والتي تثقل كاهله. وفيما تعكس طبيعة هذه الإجراءات حالة العجز لدى السلطات السياسية اللبنانية في التعامل كدولة مع العوامل والأحداث الإقليمية والدوليّة، فإنّها تعيد في الواقع إنتاج الأساليب المُعتمدة حيال اللجوء الفلسطينيّ والتي تقوم بشكل أساسيّ على استهداف الحقوق الأساسية للاجئين أفرادًا ومجموعات بهدف التأثير على إرادتهم في البقاء في لبنان. وهذا ما تترجم طويلًا في سيّاسات العزل وإنكار الحقوق أو ما يصحّ تسميته سياسات التهجير.
وهكذا، بدل أن تضع القوى السياسية الحاكمة ومعها أجهزة الدولة خططًا لمواجهة سيّاسات دوليّة وإقليمية تؤدي إلى إرغام أو تحفيز مواطنين سوريّين على الانتقال إلى الأراضي اللبنانية أو تحول دون عودتهم إلى سوريا، تراها تحصر تدخّلها في محاربة المقيمين أو الوافدين منهم إليها. وبقدر ما تزداد مشاعر القلق إزاء هذا التواجد ومعها حالة العجز من إيجاد حلول ناجعة، بقدر ما تتّجه هذه القوى إلى تصعيد مواقفها ضدّ هؤلاء في اتجاه إنكار أسمى حقوقهم وصولًا إلى إنكار إنسانيّتهم. بمعنى أنّه بقدر ما تتعامل هذه القوى مع خطر ازدياد عدد الوافدين السوريّين على أنّه خطر وجوديّ بقدر ما تدّعي مشروعيّتها في إعلان الحرب ليس ضدّ سياسة معيّنة أو ضدّ فريق ما، بل ضدّ الوجود السوريّ بحدّ ذاته مع ما يفترض ذلك من نكرانٍ للحقوق وتشريعٍ لأدوات الاستباحة والتعدّي. وخير ما يعبّر عن ذلك هو رواج توصيف التّواجد السوري بـ “الاحتلال الديمغرافيّ” الأمر الذي يهيّئ عمليًّا لإعلان حرب ضدّ هذا الاحتلال تكون على صورته، حرب ديمغرافيّة ضدّ أفراد وجماعات ذنبهم الأساسي أنّهم “موجودون” في لبنان، وربما فقط أنّهم “موجودون” (هذا ما ينطبق على الذين أتوا إلى لبنان بفعل ضرورة ما برحت تمنعهم من العودة إلى سوريا). وبالطبع، بقدر ما نجرّد هؤلاء من حقوقهم الأساسية، بقدر ما نمهّد الأرضيّة لتجريدنا من حقوقنا الأساسيّة، وبخاصّة من حقّ اللجوء في أي بلد آخر في حال تحقق أسبابه. وبكلمة أخرى، بقدر ما ننكر إنسانيّة هؤلاء، بقدر ما ننكر إنسانيّتنا.
ومن دون التقليل من المخاطر الناجمة عن الوجود السّوري، فإنّ من شأن معالجته على هذا الوجه في الظرف الحالي أن تزيد على الأرجح من مخاطره لا أن تقلّل منها.
وهذا ما سنحاول بحثه على طول هذا المقال.
نكران الحقّ في اللجوء
أوّل أشكال هذه المواجهة، نكران الحقّ في اللجوء. تمثّل ذلك منذ 2011 في إصرار السلطات الرسميّة على استبدال مفهوميْ اللجوء واللاجئين بمفهوميْ النزوح والنازحين، وقد حصل ذلك في الفترة التي كانت سوريا تشهد فيها معارك لا تنتهي وأعمال خطف واعتقال وقتل من دون محاكمة. وقد أرادت السلطات من خلال ذلك توجيه رسالة مزدوجة: أوّلًا رسالة طمأنة إلى الرأي العامّ اللبنانيّ مفادها أنّ اللجوء السوري لن يكون طويل الأمد كاللجوء الفلسطيني، وثانيًا رسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أنّ لبنان ليس بلد لجُوء وأنّه ليس معنيًّا بضمان أي من حقوق اللاجئين على أرضه. ومع بدء 2015، ذهبتْ السلطات الرسميّة أبعد من ذلك في اتّجاه مطالبة الأمم المتحدة بالامتناع عن تسجيل أيّ من الوافدين الجدد، مُنكرةً عليهم حق الادّعاء بصفة لاجئ أو الاستفادة بأي صورة من حماية الأمم المتحدة. وفي العام 2019، قررت السلطات (من خلال المجلس الأعلى للدفاع) ترحيل كلّ من دخل خلسة إلى لبنان بعد تاريخ 24/4/2019 من دون السماح له بالتقدم بطلب لجوء أو حتّى تسوية أوضاعه القانونية في لبنان، بغضّ النظر عن أسباب مغادرته سوريا.
وفي 2023، وإذ برزتْ للمرّة الأولى مبادراتٌ نيابيّة تستنهض السلطات السياسيّة لممارسة صلاحياتها في هذا المجال، سرعان ما اقترنتْ هذه المبادرة باقتراحات تقوم أساسًا على تحرير لبنان من أيّ التزام دولي بعدم ترحيل الوافدين السوريين، بما فيهم الوافدين الذين تتوفّر لديهم أسباب اللجوء الاضطراري. وهذا ما نستشفّه بوضوح من السّند القانوني الذي تمحورتْ حوله جلّ هذه التحرّكات النيابية (عريضة نيابية في 13/7/2024 واقتراح قانون تنظيم الوضع القانوني للنازحين السوريين في لبنان كما عدّلته لجنة الإدارة والعدل في 30/1/2024 والذي انبنى على اقتراحين سابقين من مجموعات نيابية والتوصية الملزمة الصادرة عن الهيئة العامّة لمجلس النوّاب في تاريخ 15/5/2024). ويتمثّل هذا السّند في إعادة إحياء اتّفاقيّة العام 2003 الموقّعة بين الدولة اللبنانية والمفوّضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (المفوّضية)، والتي التزم لبنان بموجبها بتأمين حماية مؤقّتة لطالبي اللجوء مقابل التزام المفوضية في إعادة توطينهم في بلدان أخرى بعد فترة معيّنة. ويستنتج أصحاب هذه المبادرات من هذه الاتفاقية أنّ لبنان بات بموجبها بلد لجوء مؤقت لطالبي اللجوء الوافدين إليه (سنة كحدّ أقصى) ريثما يتم توفير بلد لجوء دائم لهم وأنّ بإمكان لبنان من خلال إعادة إحياء هذه الاتفاقية أن يتحرّر تاليًا من مجمل التزاماته الدولية بما فيها التزامه بعدم ترحيل طالبي اللجوء بعد انقضاء مهلة الحماية المؤقتة. وهذا هو بالفعل ما انبنتْ عليه الأسباب الموجبة لاقتراح القانون النّاظم لأوضاع النّازحين اللبنانيّين كما عدّلته لجنة الإدارة والعدل، والذي نصّ حرفيًّا على وضع آليّة لحماية طالبي اللجوء لفترة محدّدة (سنة كحدّ أقصى) وفق الاتفاقية المذكورة على أن “يعود بعدها للأمن العام إلى اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة”. وهذا أيضًا ما انبنتْ عليه التوصية الملزمة للمجلس النيابي التي ذهبت في الاتجاه نفسه.
وكانت “المفكرة القانونية” ذكّرت تكرارًا بظروف وضع هذه الاتّفافية وعدم فعاليّتها بدليل أنّها لم تطبّق يومًا. فقد تم توقيعها في 2003 في وقت كان عدد طالبي اللجوء في لبنان لا يتجاوز 3000 شخصًا، لتفقد في غضون أشهر قليلة قابليّتها للتطبيق مع ارتفاع عدد هؤلاء إلى 50 ألفًا بفعل غزو العراق واحتلاله. ويتأتّى ذلك من محدودية قدرة المفوّضية على تأمين بلد لجوء ثالث، حيث أنّ إعادة التوطين للاجئين الحاصلة عالميًا بواسطة مفوّضية الأمم المتحدة بالكاد تتجاوز 50 ألفًا. ولئن تعطّل تنفيذ هذه الاتفاقية بنتيجة ذلك تمامًا، استمرّ لبنان الرسمي في تأكيد التزامه بعدم ترحيل الأجانب الذين قد يتعرّضون للخطر في بلادهم، تمامًا كأي دولة أخرى خاضعة للقانون الدولي. وقد تأكّدتْ طبعًا عدم فعالية هذه الاتفاقية تبعًا للكارثة السورية حيث بات عدد طالبي اللجوء لدى المفوضية من السوريين يقارب 780 ألف شخص من دون تعداد طالبي اللجوء من الجنسيّات الأخرى. ولا ينتظر تاليًا أن يؤدّي إعادة إحياء الاتفاقية إلى نتائج مختلفة عما كانت عليه الحال في الماضي طالما أنّ العوائق الموضوعيّة التي حالت دائمًا دون تنفيذها (محدودية فرص إعادة التوطين في دول ثالثة) تفاقمت مع زيادة الحروب في العالم. ومن المفيد هنا التذكير أنّ إشكال هذه الاتفاقيّة لا يكمن فقط في فعاليّتها إنّما أيضًا في كونها تتصرّف بحقوق يعدّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الذي هو جزء لا يتجزّأ من الدستور اللبناني) ملازمة لأيّ شخص وليس لأيّ كان المساومة عليها أو تجريدهم منها.
في الاتجاه نفسه، نصّ الاقتراح كما عدّلته لجنة الإدارة والعدل على أنّ طالب اللجوء يفقد هذه الصفة بالنسبة للدولة اللبنانية في حال مخالفته القوانين اللبنانية أو تعرّضه لأحكام قضائية، فيُجرى تحضير ملف ترحيل من قبل المديرية العامة للأمن العام التي تتخذ الإجراءات اللازمة في هذا الشأن. وقد أشارت “المفكرة” إلى خطورة هذا النص ليس فقط لأنّه يعاقب أيّ مخالفة بالترحيل حتى ولو كانت مخالفة بسيطة، بل أيضًا لأنّه ينقض قرينة البراءة بحيث لا يشترط صدور أحكام مبرمة بل يترك هامش القرار للأمن العام.
وبذلك، بدتْ لجنة الإدارة والعدل ممثّلة بكتلٍ نيابيّة عدّة في معرض تقويض حقّ اللجوء تمامًا، على نحو يوحي بأنّه لا حصانة لأيّ طالب لجوء سوريّ متواجد في لبنان ضدّ ترحيله في أيّ حين. وهذا ما عاد وتأكّد في التوصية التي أجمعت عليها الكتل الكبرى في البرلمان، حيث تكرّر أنّ لبنان ليس بلد لجوء وأنّ المفوضية ملزمة بإعادة توطين طالبي اللجوء في بلدان أخرى خلال فترة سنة، فضلًا عن وجوب تسليم السجناء من النازحين إلى السلطات السورية من دون أي تمييز وفق أوضاعهم.
هشاشة الحقوق والعقوبات الجماعية
لا يكتفي لبنان الرسمي (ومعه القوى السياسية) بإنكار حقّ اللجوء على الأرض اللبنانية، إنّما يستهدف في الآن نفسه العديد من الحرّيات والحقوق التي يفترض أن تضمنها الدول لأيّ مقيم على أرضها من دون أيّ تمييز. وما يزيد من خطورة هذا التوجّه أنّه لا يحصل فقط بفعل تدابير تتّخذها السلطات العامّة، إنّما في الغالب بدفعٍ من جماعات غير رسميّة تعمل على فرض ما تريده على أرض الواقع، أقلّه في المناطق التي تتمتع فيها بنفوذ كبير. يبقى أنّ كلّ هذه التوجّهات أو الأفعال تندرج في التوجّه نفسه الذي يقوم على ضرورة تجريد الوافدين من الحقوق الأساسيّة على نحو يجعل إقامتهم أكثر صعوبة ويدفعهم إلى مغادرة لبنان، سواء للعودة “طوعًا” إلى سوريا أو الهجرة إلى الخارج كلّما كان ذلك ممكنًا.
وهنا أيضًا يشكّل اقتراح القانون كما عدّلته لجنة الإدارة والعدل وثيقة معبّرة، وبخاصّة لجهة منح السلطات البلدية إمكانية تقييد حرّيات الوافدين وحقوقهم بهدف “تنظيم قانونية وضبط إقامة وانضباط طالبي اللجوء ضمن النطاق البلدي”. ولئن سبق لبلديات عدّة أن اعتمدتْ ممارسة غير قانونية قوامها تقييد حرّية تنقّل الأجانب وبالأخصّ الوافدين السوريين، من المُلفت أنّ الاقتراح فتح الباب أمامها لتقييد (وربما لاستباحة) أيّ حق أو حرّية لهؤلاء من دون أيّ استثناء، تاركًا المجال مفتوحًا أمام المخيّلة والمزايدات السياسية على اختلافها لابتداع تدابير أقسى فأقسى بهدف إشاعة وتعزيز مشاعر الذلّ والهشاشة والفزع في صفوفهم، من دون أن يكون على البلديات حتى إثبات مراعاة مبدأي الضرورة والتناسب. ولا يفيد بشيء طبعًا أنّ الاقتراح أخضع البلديّات لرقابة القضاء، طالما أنّه سيكون شبه مستحيل على أيّ وافد سوريّ التشكّي من أيّ تقييد لحرّيته أو حقوقه خوفًا من طرده من البلديّة برمّتها. وخير دليل على ذلك، هو انعدام أيّ طعن بقرارات البلديات بتقييد حرّية التنقّل للأجانب رغم بداهة مخالفتها للقانون.
لم يكتفِ واضعو الاقتراح بذلك، بل سارعوا إلى تشغيل مخيّلتهم هم أيضًا وصولًا إلى زجّ مجموعة من القيود على حقوق السوريين الوافدين إلى لبنان، فيه. من هذه الحقوق التي تمّ تقييدها حقّ السكن بعدما نصّ الاقتراح على فرض عقوبة تصل إلى 3 سنوات على تأجير طالبي اللجوء الذين ليس لديهم أوراق قانونيّة، علمًا أنّ التقديرات تؤكد أنّ نحو 80% من الوافدين السوريين لا يحوزون على هذه الأوراق وذلك منذ سنوات طويلة. كما احتوى الاقتراح على منع هؤلاء من القيام بأيّ عمل أو تملّك أي حق عيني في لبنان. كما ذهب عدد آخر من النوّاب، تحت شعار تمكين البلديات، إلى فرض رسم شهري مرتفع نسبيًا على كلّ أجنبيّ مقيم في لبنان (مليون ليرة لبنانية للرّاشد ونصف مليون ليرة لبنانية للقاصر) بمعزل عن مداخيله.
وبمعزل عن مآل هذه الاقتراحات، تجدر الإشارة إلى أنّ هشاشة الحقوق وجدت منذ بدء الوفود السوري أرضًا خصبة في ظلّ عجز غالبيّتهم الكبرى في الحصول على إقامات نظامية في لبنان كما سبق بيانه، مع ما يستتبع ذلك من تجريد من الحماية القانونية وتسهيل الاستغلال والابتزاز وتقييد القدرة على التنقّل. وحتى من نجحوا في الحصول على إقامات قانونيّة، فإنّ ذلك تمّ بالنسبة إلى عدد كبير منهم بفعل ابتداع تطبيق نظام الكفالة عليهم من قبل الأمن العام، وهو النّظام الذي يربط قانونيّة إقامتهم بعقد عملهم بصاحب عمل لبناني. وفيما تمّ استلهام هذا النظام من النظام المطبّق على العاملات والعاملين الأجانب والضامن لهشاشتِهم، فإنّه اكتسى عاملًا إضافيًا من عوامل الهشاشة قوامه تفرّد الأمن العام بإدارته من دون أن يكون لوزارة العمل أيّ دور رقابيّ أو توجيهيّ أو حمائيّ من أي نوع كان.
وفي الواقع، أتَتْ هذه التوجّهات التي صبّت كلّها في سياسة “مكافحة اللاجئ”، مُنسجمةً مع الاستباحة المتكرّرة لحقوق الوافدين السّوريين بمناسبة أو في غير مناسبة، سواء من قبل الأجهزة الرسمية أو من قبل قوى نافذة غير رسمية. وليس هنا المكان المناسب لعرض هذه الاعتداءات، إنّما يبقى أبرزها حملات ترحيل الوافدين بصورة عشوائيّة والتي حصلت في السنوات الأخيرة، أغلبهم من قبل الجيش، وفق إجراءات موجزة من دون أوامر قضائية أو إتاحة الفرصة للمعنيين بالدفاع عن أنفسهم (وقد قدّر وزير الداخلية بسام المولوي عدد الذين رحّلهم الجيش بـ 29 ألفًا) أو أيضًا الإجراءات المتّخذة بين حين وآخر وبصورة فجائيّة من دون سابق إنذار لإخلاء بلديّات أو مخيّمات معيّنة والتي غالبًا ما تحصل كردّة فعل على اتّهام أحد المقيمين في نطاق هذه البلديّات أو المخيّمات بارتكاب جرم معيّن، فيما يشبه الحملة الانتقامية أو العقوبة الجماعية. وغالبًا ما يتمّ تبرير هذه الإجراءات بالاستجابة لمطالب أو مشاعر شعبيّة أو تفادي أيّ إشكالات أمنيّة بين سكان المنطقة المعنيّة من اللبنانيين والوافدين.
وتبلغ هشاشة الوافدين السوريين أقصاها في ظلّ تقاعس السلطات العامّة عن ضمان حمايتهم إزاء التحريض الإعلامي والتهديدات أو الاعتداءات المرتكبة ضدّهم من مجموعات شعبوية بعضها عفوي وبعضها الآخر منظّم قد تتوفّر فيه عناصر قيام جمعيات أشرار. وليس أكثر دلالة على ذلك من تقاعس النيابات العامّة عن التحرّك ضدّ المجموعات التي جاهرت في تهديد الوافدين المقيمين في برج حمود أو مناطق أخرى تبعًا لمقتل باسكال سليمان.
وقد بدا هذا الإسراف في صناعة هشاشة هؤلاء إزاء السلطات الرسمية والقوى غير الرسمية على حدّ سواء وكأنّها تهدف عمليًا إلى بناء بيئة غير سليمة، تدفع الوافد السوري بشكل منتظم إلى مغادرة لبنان اليوم قبل الغد، كلّما كان ذلك ممكنًا، طالما أنّ استمرار إقامته فيه يبقيه عرضة لتهديدات خطيرة ومتكرّرة بعضها يمسّ بعمق كرامته الإنسانية.
شيطنة التعاطف مع الوافدين السوريّين أو الدفاع عنهم
أمر آخر تتميّز به سياسة “مكافحة اللاجئ” يتمثّل في خلوّ الخطاب الرسميّ من أيّ تعاطف مع الوافدين السوريّين بل على العكس من ذلك، في توجّه هذا الخطاب بصورة تصاعدية إلى شيطنة أيّ تعاطف مع هؤلاء. وينبني هذا التوجه الرسمي في الواقع، على مقاربة الوافدين السوريين ليس على أنّهم أقرب الناس إلى اللبنانيين تاريخًا ونَسَبًا ولغة وجيرة، ليس على أنّهم بشر يتمتعون بحقوق غير قابلة لأيّ انتقاص، بل فقط على أنهم يشكّلون بفعل أعدادهم خطرًا على البنية الدّيمغرافيّة في لبنان، خطرًا يتعيّن على اللبنانيين (المنقسمين تقريبًا على كل شيء) التوحّد من أجل التصدّي له. وهذا ما عبّرت عنه “التوصية الملزمة” الصادرة عن الهيئة العامّة للبرلمان. ففيما جاء فيها أنّ النزوح السوري أثّر على لبنان “اقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا وبيئيًّا وصحيًّا” و”على الاستقرار العام”، فإنّها خلتْ في المقابل من أيّ تعاطف مع هؤلاء أو توصيف لمعاناتهم من جرّاء ما حصل في سوريا من حروب واضطهاد وتفقير أو حتى من جرّاء عجز قرابة 80% من هؤلاء عن الحصول على إقامة نظامية في لبنان. كما خلتْ من أيّ إشارة إلى أيّ دور إيجابي أدّاه أو يؤدّيه أو يمكن أن يؤدّيه الوافدون السوريّون في اقتصاد لبنان. وهذا الخطاب الرسميّ إنْ دلّ على شيء فعلى تصميم السلطات الرسمية على تغليب الهمّ الوطنيّ في مواجهة هذا الخطر (وجود اللاجئين) من دون أن تتأثر بالاعتبارات الإنسانية أو التاريخية التي غالبًا ما تبرزها المنظمات الحقوقية في سياق إبراز معاناة الوافدين السوريين. وما يعزّز ذلك هو الأسلوب الفوقيّ الذي باتت تعتمده المراجع الرسميّة في مخاطبة “المفوضية” التي يفترض أنّها الجهاز المكلّف دوليًا بضمان حقوق اللاجئين أيًا وأينما كانوا والدفاع عنهم بعدما تمّ تحميلها عبء الفوضى نتيجة التستّر على أسماء المسجّلين لديها ومعطياتهم والمساعدات التي تغدق بها على هؤلاء وتقاعسها عن إعادة توطينهم في بلاد أخرى. ويتأكّد هذا التوجّه أيضًا في حملات الشيطنة ضدّ كلّ من يدافع عن حقوق اللجوء أو حقوق السوريين، على خلفية أنّ هؤلاء إنّما يخدمون أجندات دولية خفيّة لتغيير التركيبة الديمغرافية للبنان تحت غطاء شعارات إنسانية. وهنا أيضًا لم يتوانَ النوّاب عن تقديم اقتراح قانون في 2024 بهدف فرض احترام السّياسات العامّة على الجمعيّات الأجنبيّة والجمعيات المموّلة منها ومنعها من الترويج لكلّ ما يخالف ذلك. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ خطاب الشيطنة المعتمد من قبل القوى السياسية اللبنانية وبعض وسائل الإعلام يشبه في عمقه إلى حدّ بعيد خطاب شيطنة التعاطف مع الفلسطينيين في مواجهة الإبادة، أقلّه لجهة الغاية منه وهي التسليم في أسر الفئة المستهدفة في دائرة الهشاشة في موازاة تجريدها من مجمل أشكال الحماية.
“السياسات المنتجة” المنسيّة
في مقابل الجهود المبذولة في مكافحة اللاجئين والمدافعين عنهم على الوجه الذي تقدّم، تغيب أيّ جهود في مكافحة السياسات وبشكل أعمّ الأسباب التي حفّزت اللجوء إلى لبنان.
وما يُضعف لبنان في هذا المجال هو تحوّله إلى أسير هاجس ترحيل الوافدين السوريين إليه، من دون أن يكون لديه في المقابل أيّ خطة واقعية للتعامل مع حقيقة بقائهم فيه لسنوات في الماضي وعلى الأرجح لسنوات طويلة في المستقبل. وعليه، لا نجد أيّ تخطيط عقلانيّ لكيفية التّعامل مع الوافدين السوريّين المقيمين فيه، سواء لجهة إمكانية استخدام عددٍ منهم في خدمة نشاطاته الاقتصادية (وهو أمر حاصل منذ عقود) أو إمكانية توفير الحقوق الاجتماعية لهم وكلفتها وواجبات الدول الأخرى في الإسهام فيها بأكثر الطرق فعالية. ومؤدّى ذلك عجز رسمي عن تكوين ملف موثّق ومتين لإشراك دول العالم في تحمّل عبء اللجوء انطلاقًا من مبدأ التضامن الدولي في هذا الخصوص. ويتبدّى من خلال ذلك أنّ رفض لبنان الرسمي المبدئي الاعتراف بأنّه معرّض لاستقبال لاجئين كما أي دولة في العالم، يحرمه إمكانية تفعيل التضامن الدوليّ في تحمّل العبء الثقيل الناجم عن اللجوء إلى أرضه. إذ كيف يمكن لأيّ دولة أن تطالب العالم بتحمّل أعباء اللجوء فيما هي قرّرت أنّها ليست دولة لجوء ولو خلافًا للواقع؟ وما يُضعف لبنان أكثر هو تمنّعه عن القيام بأيّ إصلاح اقتصادي أو مالي أو سياسي، على نحو يخوّل الكثير من الدول المانحة التنصّل من مسؤوليّاتها تجاهه متذرّعة عن حسن أو سوء نية، بعدم وجود آليّات واضحة للتيقّن من حسن استخدام الهبات أو المساعدات التي قد توفّرها له.
من جهة أخرى، لا يزال لبنان ينأى بنفسه (أو بالأحرى منقسمًا على نفسه وربما بانتظار ضوء أخضر إقليمي) عن كلّ ما يتّصل بالوضع في سوريا، مع ما يستتبع ذلك من حياد تامّ بشأن عقوبات قيصر من دون التدقيق في أثرها على تفاقم الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في هذا البلد وتاليًا على تزايد نسب الهجرة منه. ونتبيّن هذا النأي بالنفس بوضوح كلّي في التوصية الملزمة الصادرة عن مجلس النوّاب بوجوب دعوة الأمم المتّحدة إلى “الاستفادة من (…) قرارها حول خطة التعافي المبكر الصادر في 2021 حيث يمكن أن يشكّل المدخل لتسريع العودة إلى الداخل السوري عن طريق المساعدات لتأهيل البنى التحتية من دون تعرّض الدول المانحة لعقوبات قانون قيصر”. كأنّما الهيئة العامّة تسلّم بعقوبات قيصر كواقعة لا يمكن تغييرها، من دون البحث في دور هذه العقوبات في عرقلة تنفيذ خطة التعافي رغم إقرارها قبل أكثر من 3 سنوات. إذ كيف يمكن حقًّا أن نأمل تراجع وتيرة الوفود السوري إلى لبنان من دون أيّ اهتمام بتطوّر الوضع الاقتصاديّ في سوريا؟ وألَم يحِنْ الوقت لتقييم أثر العقوبات الدولية المفروضة عليها، للتحرّي فيما إذا كانت تؤدي فعليًا إلى معاقبة النظام الحاكم أم إلى معاقبة الشعب بأسره ومعه الدول المحيطة بسوريا والتي باتت منذ فرضه تتحمّل أعباء تسارع وتيرة الوفود إليها؟
أما المطالب والضغوط اللبنانية على المفوضية لتأمين دفع المساعدات لطالبي اللجوء وأسرهم في سوريا وليس في لبنان، فهي إنّما تنبني على وضع اللاجئ أمام خيار بين اللجوء إلى بلد آمن وتلقّي المساعدات الدولية، وتندرج تاليًا ضمن إجراءات مكافحة اللاجئ أكثر ممّا تندرج في معالجة أسباب اللجوء.
هذا من دون الحديث عن عجز لبنان عن ضبط الحدود البرية وسط شبه تيقّن من استحالة ذلك خلال السنوات المقبلة. فما معنى ترحيل وتهجير الوافدين السوريين إذا كان دومًا بوسع هؤلاء استغلال ثغرات الحدود للعودة إلى لبنان؟
خلاصة
تبعًا لذلك، وفيما قد تنجح جهود لبنان في تضييق الخناق على الوافدين السوريين في دفع نسبة منهم (يرجّح أن تبقى محدودة) إلى العودة “الطوعية” في حال كان لا يزال لديهم مرقد أو مصدر رزق ممكن في سوريا أو إلى الهجرة في حال توفّرت لهم إمكانات ذلك، فإنّ أكثر ما نخشاه هو أن تدفع هذه السياسات ليس إلى رحيل أو ترحيل هؤلاء بل إلى تطهير مناطق لبنانية بصورة كاملة منهم مقابل “دفشهم” وربما عزلهم في مناطق لبنانية أخرى قد تكون أكثر ترحابًا أو أقل عدائية، في مقدّمتها عكار وطرابلس والضنّية. ولربما تصبح هذه المناطق ملاجئ لعائلاتهم فقط مقابل إبقاء العمّال وحدهم في المناطق المختلفة بالنظر إلى حاجتها إليهم. وفي حال حصول ذلك، فإنّنا نكون في إطار تكوين واقع من شأنه أن يزيد من مصاعب المناطق الأكثر حرمانًا ومعها مطالب التقسيم والفدرلة، كلّ ذلك من أجل تهدئة هواجس بعض المناطق لأمدٍ الكلّ يعلم أنّه لن يطول كثيرًا.
نشر هذا المقال في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان