القبر الجماعي للشهداء علي الجوهري وزوجته سحر جانبيه وأبنائهما محمد وشادي وفواز
عندما استُهدفت الهرمل في العام 2014، على خلفية تواجد المسلحين السوريين في جرود عرسال، بسيارات مفخّخة في قلبها، وضدّ عناصر حاجز الجيش اللبناني على مدخلها بالقرب من جسر نهر العاصي، وسقط شهداء، كما في الصواريخ التي أصاب إحداها رأس صبية في الـ 17 في عمرها. يومها، كتبتُ نصًا في جريدة السفير بعنوان “أنا من ثراكِ”، أختار منه جملة طويلة وجهتها إلى الهرمل: “اليوم، وأنت ضحية التفجيرات، وأنت تخرجين من ظلمة الإهمال والمجاهل إلى شهرة الخنساء الثكلى، أشعر برغبة في فرد ذراعي لأحضنك، لأردّ عنك الانتحاريين الذين وصلوا إليك قبل الدولة وقواها السياسية”. كانت تلك الأحداث الدامية هي الاستهدافات الأولى لنا، نحن الذين لم نعش الحرب اللبنانية من 1975 حتى اتفاق الطائف في التسعينيات. جلّ اهتزاز أمّنا كان مرتبطًا بتقاتل العشائر في جرودنا وفي ساحة مدينتنا المربوطة بالثأر والثأر المضاد، كما بمحاولات نادرة للقوى الأمنية وخصوصًا الجيش، حيث أننا منطقة عسكرية منذ الستينيات، القبض على بعض المطلوبين للعدالة، وكان بعضها دمويًا أيضًا.
مع أنّ الهرمل معروفة بمدينة الشهداء لكثرة أبنائها ممن قاتلوا إسرائيل منذ أيام المقاومة الوطنية، مرورًا بالإسلامية مع حزب الله، لكن القضاء الذي يقع على الطرف الآخر من الحدود مع فلسطين المحتلة، لم يعش حربًا إسرائيلية مباشرة على أرضه وناسه ومنازله ومؤسساته لغاية العدوان الحالي الذي استمر من 8 تشرين الأول 2023 ولغاية 27 تشرين الثاني 2024، وخصوصًا منذ 23 أيلول الماضي، عندما هددت إسرائيل كل البقاع بالإخلاء، وفي قلبه الهرمل.
وعليه، استفاق ناس الهرمل الأربعاء، 27 تشرين الثاني، تاريخ سريان وقف إطلاق النار، على هرمل أخرى تختلف عمّا قبل العدوان الإسرائيلي الأخير: دارت العزَوات المؤجّلة لـ 66 مدنيًا من أولادها قتلتهم إسرائيل على أرضهم، ومتابعة علاج 186 جريحًا، فيما ظهر الركام الذي كوّمته 134 غارة عنيفة على منازلها، كما حصارها بعدما قصف الطيران الحربي كل معبر رسمي وغير رسمي إلى سورية، وجهتها التاريخية حيث طالما كان الوطن بعيدًا وما زال. ومع العائدين إلى اللامكان ممن دمّرت إسرائيل منازلهم، اكتملت فصول سردية خاصة للهرمل مع العدوان الإسرائيلي، وارتفع الثمن ليتعدى مئات الشهداء من أبناء القضاء الذين سبق وسقطوا في جنوب لبنان والبقاع الغربي. وصار للهرمل أطفالٌ شهداء، صغيرتهم لم تُكمل الشهر وعشرة أيام قضت في حضن أمها وأبيها ومعهما، وفيديو سجله فوّاز الجوهري، ابن الخمس سنوات، قبل استشهاده مع والده وأمه، وشقيقته التوأم، يرفض فيه أي هدنة مع العدوان قبل وقف الحرب على غزّة “وعادي إذا بقيت إسرائيل عم تضربنا”، كما قال لشقيقته قمر، بكر العائلة التي نجت كونها كانت في بيت جدها، فيما حمت المناوبة حسين شقيقها، المتطوّع مع الصليب الأحمر اللبناني.
وصارت “الهرمل” تتردد على كلّ شفة ولسان وانضمّت إلى جردة المناطق المستهدفة يوميًا. عاشت مع قرى وبلدات قضائها تغريبة التهجير القسّريّ، ونزح أهلها نحو عكار وزغرتا شمالًا، والقاع ورأس بعلبك والفاكهة والجديدة والزيتون وعرسال شرقًا، ووصل بعضهم إلى بيروت. واستعاد جردها الفسيح مجدًا غابرًا وامتلأت منازله وحتى خيم مراحاته وحماه الصيفية بالسكان، بعدما كان بدء نزوح العشائر نحو الهرمل قبل أكثر من سبعين عامًا كاد أن يحوّله إلى مصيف للمزارعين أو لقضاء نهاية أسبوع مرة أو مرتين في كل صيف، فقط. وعاش أهل المدينة تجربتهم الأولى في مراكز الإيواء والمدارس، وانتظر بعضهم كرتونة الإعاشة والغطاء الرقيق الذي لا يرد صقيع طقسها شبه الصحراوي حيث تتدنى درجات الحرارة ليلًا. خصوصًا، أنّه كما كل شيء، تأخرت المساعدات في الوصول إلى المنطقة التي تقع في “مجاهل” لبنان بالنسبة إلى سلطته الرسمية وخارطتها. وصفّ النازحون إلى الجرود مواقد للطبخ والتدفئة، وعانى بعضهم الأمرّين، فيما ضمّ كل بيت أربع عائلات وما فوق، ونصب بعض آخر خيمًا.
إجرام إسرائيل لا يوفر جرد الهرمل
ظنّ أبناء عشائر الجرد الغربي أنّ جردهم آمنٌ من إسرائيل، إلى أن دشّنت إسرائيل أولى غاراتها عليه مستهدفة منطقة نهر النسور في أعالي جرد عشيرة ناصرالدين حيث استشهد عشرة أشخاص بينهم 3 أطفال و4 نساء.
تجلس أم خالد ناصرالدين، صاحبة المصاب و”أم الشهداء” كما تعرّف عنها ابنتها، في صدر غرفة دارها تستقبل المعزّين. تبدو السيدة، التي تختم الستين بعد سنتين، وكأنّها تحدّث نفسها حينًا، فيما تخاطب الشهداء العشرة واحدًا تلو الآخر أحيانًا. وعندما تصل إلى دنيا مرتضى حفيدتها تبكي. قبل تسع سنوات ونصف توفيت ابنة أم خالد، وبكر أولادها، دنيا، وهي تلد صغيرة أبنائها الأربعة. حاولت الأم الثكلى ترميم جراحها بتربية دنيا الصغيرة بعدما منحتها اسم أمها. تسع سنوات ونصف ودنيا الصغيرة ترسم البسمة على وجه أم خالد، فيما تبكيها صورة دنيا الكبيرة المعلّقة في صدر الدار. بعد المجزرة، انتصبت صورة الطفلة بالقرب من صورة أمها على الحائط نفسه.
وأم خالد التي ربّت أبناءها بعد الرحيل المبكر لزوجها، مشهورة بجمعها شمل العائلة من حولها، وبتلك اللحمة بينهم: أبناء وكنائن، بنات وأصهرة، وطبعًا الأحفاد الذين يملأون عليها حياتها. حتى عائلات الأصهر والكنائن تدور في فلك تلك المحبة التي توزعها “أم الكل”، كما تسميها حماة ابنتها الشهيدة زينب. هذه المحبة أثمرت تشييد الأبناء والأصهار خمسة بيوت متقاربة في نهر النسور في الجرد حيث تملك العائلة أرضًا. وعند تهديد البقاع ومن ضمنه الهرمل، نزح هؤلاء، كلّ مع أقاربه إلى هذه البيوت. يومها، في 19 تشرين الأول، وبعد الغداء الجماعي الذي اعتادت عليه العائلة الكبيرة يوميًا، تفرّق هؤلاء إلى هذا المنزل وذاك، ورافقت أم خالد ابنتها رواق إلى منزلها المقابل لمنزل شقيقها رواد ناصر الدين، ابن أم خالد، فيما قصد بعض الأحفاد عين الماء القريبة لجلب المياه. دقائق وأغار الطيران الحربي على منزل رواد الذي استشهد مع زوجته ربيعة وشقيقها قاسم مع زوجته ندى وطفلتهما ابنة الشهر و10 أيام. معهم، استشهدت تحت الركام نفسه زينب، شقيقة رواد، وابنة أم خالد مع زوجها حسين شمص وشقيقته نتالي، كما حسين حمادة، ابن الـ 16 عامًا الذي لم يرافق أمه رواق إلى منزله، إذ رغب في البقاء مع خاله، إضافة إلى دنيا الصغيرة. تحمد أم خالد الله على نجاة أبناء رواد الثلاثة، وصغيرهم في السادسة من عمره، كما ابنتي زينب (10 و6 سنوات) وشقيقهما ابن السنتين و4 أشهر الذي لحق بها إلى منزل خالته، فيما كان البقية يأتون بالماء “بس دنيا وحسن ما راحوا معهم ع المي”، تقول بينما يرتفع نشيج بكائها. وهي تعدّ أحفادها الناجين، تعاود أم خالد البكاء “كم يتيم تركتولي يا أمي؟”، فيما صوت بكاء صغير الشهيدة زينب، ابن السنتين و4 أشهر، يملأ البيت: “اليوم كل النهار هو ويبكي ويسأل عن أمه”، تقول، فيما جدته لأبيه الشهيد أيضًا، تضمه إلى صدرها وتجول به في أنحاء المنزل.
أما رواق التي استشهد ابنها حسن (16 عامًا) فتبدو في عالم آخر. لا تشارك في حديث، لا تحكي عن حسن، تتقبل التعازي بصمت، حتى أنّها لا تنظر بعينيها اللتين جفّ دمعهما، إلى أحد. تنظر أم خالد إلى رواق، ابنتها الثكلى، ثم تحوّل عينيها إلى صورة دنيا الكبيرة، وتغرق في النشيج وغصّته من جديد وهي تقول “تعي شوفي شو صار فينا يا دنيا يا أمي”.
طفل الأربع سنوات ناج وحيد من مجزرة الخزان
خلال العدوان الإسرائيلي، تحوّل منزل محمد حسن جعفر وشقيقه مهدي إلى مقصد أبناء العشيرة التي تحد أراضيها مدينة القبيات في الجرد المشترك بين عكار والهرمل. مع اشتداد القصف، كان حسن يمسك بهاتفه ليدعو أقاربه إلى النزوح نحوه “تعوا تحيّدوا شوي لتروق”. يعتمد إحساس الرجل بالأمان على موقع بيته في أراضي القبيات المشتركة في حي الخزان في محمية كرم شباط، ولطالما عجّ البيت، وخصوصًا مصطبته مع باحته الخارجية بنحو خمسين شخصًا من عائلات العشيرة، تلمّسًا لأمان زائف أمام الإجرام الإسرائيلي: “كان مفكّر إنّه بيته آمن لأنّه بأرض القبيّات، وهيك فكرت أخته، مرتي”، يقول عطية جعفر الذي استشهدت ابنتاه فاطمة وأنوار مع أمهما شهيدة، شقيقة محمد صاحب البيت.
إلى المنزل نفسه، وفي طريقه إلى بيروت، مرّ شامل جعفر بمنزل صهر محمد قبل مابعة طريقه إلى بيروت. في المنزل كانت زوجة محمد حسن جعفر، صاحبة البيت وفاء سعيد جعفر، وابنها مصطفى، و”طبعًا” حفيدها علي مهدي جعفر (4 سنوات) الذي لا يفترق عن جده وجدته منذ ولادته “إبني ما عنده تياب بالبيت لأنه ما بيترك جده وعايش معه”، تقول ام عليّ، فيما هو لا يفارق حضنها. بعد تدمير الطيران الحربي الإسرائيلي منزل جده محمد على رؤس من فيه، وجد الذين سارعوا لنجدة العائلة الطفل علي وقد قذفه عصف الانفجار إلى شجرة ملاصقة للمنزل حيث علق بين أغصانها. تقول والدته إنّه كان هناك يمدّ يديه ويصرخ بمن حضر لإنقاذ المستهدفين: “تعوا نزلوني من هون”، فيما استشهد جده وشقيق جده وشقيقتهما شهيدة وابنتاها فاطمة وأنوار وشقيق زوجة محمد حسن جعفر، شامل جعفر. ونجا مصطفى محمد حسن، ابن صاحب البيت، ووالدته وفاء سعيد جعفر بعدما أصيبا بجراح خطرة أقعدتهما في المستشفى لغاية اليوم بعد عدد من العمليات، ووصفت حالتهما بالمستقرة اليوم.
يخرج عطية جعفر، زوج الشهيدة شهيدة ووالد الشهيدتين فاطمة وأنوار من خيمة العزاء التي خُصصت للرجال في أعالي بلدة سهلات الماء في الجرد الجعفري الأوسط، يسنده ابنه الوحيد الذي بقي من عائلته الصغيرة، حيث يسير الرجل والحزن يأكل قلبه. في طريقه نحوي، يهمس لي أحد أقاربه الذي رافقني إلى العزاء :” كان مبسوط ببناته لي تعب كتير حتى علّمهن. فاطمة محامية وبتشارك بمؤتمرات قانونية برّا لبنان، وأنوار دارسة بيزنس”. قضى الرجل حياته يكدح حتى تمكن من تعليم بناته قبل الصبي “ما إلكن إلّا العلم يا بيي، بدي شوف شهاداتكن وانبسط فيها”، وكان له ما أراد. يحكي عن شهيدة: “بالآخر لبست اسمها واستشهدت، تعبت معي كتير بس هلأ تركتني وراحت”. يلبس بدوره ملامح الفخر وهو يتحدّث عن تطوّر فاطمة في مهنتاه “كانت شاطرة كتير وعندها مستقبل باهر، كنت شوف حالي فيها وبأختها، لي تفوقت بدراسة البيزنس”. يكتفي هذا الرجل بهذا القدر حين يصل وفدًا من الأقارب لتقديم عزاء اختار مكانه الأهل في منزل الشهيد شامل الذي يقع في منطقة وسطية بين بلدة القصر والمخزن في محمية كرم شباط.
27 عامًا من الحب والشهادة
تستقبلني قمر الجوهري (21 عامًا) وشقيقها حسين (20 عامًا) في منزل عمهما في المنطقة الواقعة بين حييّ التل والدورة في الهرمل، إذ لم يعد للشقيقين بيت بعدما دمرته إسرائيل على رؤوس والدهما علي الجوهري ووالدتهما سحر جانبيه وأشقائهما التوأم محمد وشادي، وصغير البيت فواز، ابن الخمس سنوات.
تقلّب قمر في هاتفها لتجد رسالة غرام من أبيها إلى أمها مكتوبة بخط اليد في بداية حبهما. تتدخّل غزل، شقيقة سحر لتشرح “هيدي الرسالة أوّل ما خطب علي سحر، كانوا يحبّوا بعضهن كتير، وضلّوا وحتى الموت ما فرّقهن”. لم تشأ قمر أن تشارك خصوصية الرسالة، وتغصّ، فأقول لها محاولة تغيير الجو “اسمك قمر وانت قمر يا قمر”، فتردّ “أنا بشبه أبي وأمي، كانوا تنيناتهم حلوين كتير”، ويختنق صوتها ثانية. تبدو قمر، بكر العائلة أكثر تماسكًا من حسين. اعتادت النوم في منزل جدها لأبيها مع عمّاتها حيث تعيش العائلة معًا “نحن مناكل ببيت جدي سوا، وكنا أنا وأخوتي ما نترك عماتي، قليل لنام ببيت أهلي”.
مع اشتداد العدوان على الهرمل، قرّر التوأم محمد وشادي الالتحاق بوالديهما في بيتهما ليلًا “ما عادوا حبّوا يتركوهم، وهنّ معلّقين ببعض كمان وبيضلّوا مع بعض كتوأم”. الطفل فواز لا يفارق والديه بالأساس “هيدا غنوج البيت”.
كان علي، والد قمر يدعو الجميع إلى بيته، هو الموظف في بلدية الهرمل وليس ملتزمًا بأي جهة حزبية، يعتبر نفسه بمنأى عن الاستهداف “كان يدقّ لعمّاته ويعزمهن مع عائلاتهن، ويقلّهن تعوا لعندي نضلّ سوا”.
ليلة شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي غارة على منزل علي عند الواحدة فجرًا، كانت العائلة كلّها قد تناولت العشاء في منزل العمّات كالعادة: “الساعة 11 بالليل قرر أبي يطلعوا يناموا بكير، قال ما بدنا نطوّل السهرة، الوضع مش منيح”، ورافقته سحر وثلاثة من أبنائه. بقيت قمر كالعادة في منزل جدها المقابل مباشرة لمنزل أهلها، تفصل بينهما طريق فرعية. أما حسين فالتحق بمناوبته في الصليب الأحمر اللبناني الذي نشط عناصره في الإسراع إلى مكان الغارات الإسرائيلية.
عند وقوع الغارة لم تسمع قمر صوت الصاروخ “كنت سهرانة بالصالون وعمّاتي وعمّات أبي وأولادهن كانوا بالغرفة التانية”. سمعت صوت الطيران الحربي “واطي كتير وقوي، فأدركت بالتجربة أنه بصدد استهداف مكان ما. وبما أنّ عمّاتها يتوتّرن مع قدوم الطيران، تركت الصالون باتجاه غرفتهما :”ما لحقت وصلت ع باب الصالون من ناحية غرفة عمّاتي حتّى تعبّا البيت غبرا، وطار الصالون”. ركضت نحو باب المنزل تفتحه ولم تفلح، فتساعدت وابن عمها لفتح باب الحديقة ولم يفلحا حيث خلّع عصف الانفجار الأبواب، فقاما بخلعه. عندما صارت خارج بيت جدها وجدت قمر الفراغ فقط: “كان بيتنا طاير، وساعتها عرفت إنه الغارة إجت فيه”. من الركام حيث “لم يبق حجر على حجر”، أدركت أنّ أمها وأبيها وأشقاءها استشهدوا. كانت قمر تصرخ، فيما الطيران الحربي يستمر بالإغارة على أماكن قريبة وبعيدة عنها في الهرمل “تسع غارات بأقلّ من نص ساعة”. جاء أقاربها ووضعوا النساء والأطفال ممن كانوا في منزل الجد في سيارات ومعهم قمر”غصب عني”، وقطعوا بهم الحدود إلى سوريا: “كان بعدهم ما دمّروا معبر مطربة وسكروه، وما عدت شفت أهلي وأخوتي، دفنوهن بغيابي”.
في هذا الوقت، أيقظ عناصر الصليب الأحمر المناوبين حسين وقالوا له “قوم في غارة ع (حي) التلّ”. وصل فريق المسعفين إلى مكان الاستهداف ليجد حسين أنّ منزله مدمّر: “وانهرت”. لم يقبل زملاء حسين تركه هناك، فطلبوا ممّن تجمّعوا حول الغارة نقله إلى مركز الصليب الأحمر. هناك اتصل بابن عمه الذي قاد النساء إلى سوريا وسأله :”مين معك؟”، وحينها عرف أنّ قمر قد نجت.
قبل استشهادهما بيوم، علم التوأم محمد وشادي باستشهاد صديقهم وزميلهم في المدرسة حسن حمادة في مجزرة نهر النسور. لم يسمح لهما والدهما قصد المستشفى لرؤيته شهيدًا “كان في قصف كتير ع الحدود وبالهرمل”. فظلّا يعاندانه: “بس بكرا بدّك تخلّينا نشارك بالدفن”. وفي فجر “بكرا” استشهدا، ودفنا مع حسن بفارق ساعات قليلة.
عندما يبلغ تأثري بحجم مأساة عائلة الجوهري، تقول لي قمر: “بيعزّيني إنّهم ضلّوا سوا، أبي وأمي وحبّهم من 27 سنة لليوم واللي ما خَفَت، ومحمد وشادي التوأم اللي كانو يعملوا كلّ شي سوا، وفواز اللي ما بده يتركهن كلّهن”.
طيب الجيرة والبيوت المفتوحة
134 غارة إسرائيلية على الهرمل، خلّفت 66 شهيدًا و168 جريحًا، وأعقبت التهديد الإسرائيلي للبقاع، أنتجت حتمًا تهجيرًا كبيرًا في القضاء الذي طالما استقبل نازحين من الداخل والخارج. توزّع هؤلاء: 4200 نازح إلى القاع، 900 في مراكز نزوح و3300 في منازل، و1500 نازح إلى رأس بعلبك بين مراكز نزوح (900 فرد) و600 في منازل. ووصل عدد النازحين من قضاء الهرمل وبلدات قضاء بعلبك التي تحدّه إلى 5000 نازح إلى الفاكهة والجديدة والزيتون. من بين هؤلاء سكن في مراكز الإيواء 3900 شخص، والبقية في منازل مقدّمة من أصدقاء ومعارف ومن أشخاص لا تربطهم بالنازحين أي معرفة سابقة. ووصل نازحو الهرمل أيضًا إلى شمال لبنان (سير الضنّية، زغرتا، عكار وطرابلس) وإلى زحلة وصولًا إلى بيروت.
تقول صبية عملت تطوّعًا في الإغاثة بعدما جمعت وأصدقاءها بعض المال من إيطاليا: “بأوّل 20 يوم كان الوضع بكل بساطة مزري، بعدها صار يتأمّن الحد الأدنى”. أما من بقي في الهرمل فقد تُركوا وحدهم “مرّة فتت لعند عيلة لقيتهم عم يبكوا، ما عندهم أي شي، شغل الناس وقف، واللي معه قرشين صرفهم، تأخّرت المساعدات ع الهرمل كتير”. واقتصرت المساعدات في الهرمل على مبادرات فردية وجمع تبرّعات من السكّان والمغتربين لتلبية حاجات أساسية لعدد من العائلات الباقية المحتاجة.
“خجّلونا الجيران”
وجد نافذ الحاج حسين الذي عمل عنصرًا في مخفر عرسال في 1996، قبل تقاعده، رقم هاتف أحد معارفه في عرسال من آل الحجيري: “ما كنت عم بتواصل معه من زمان، فقلت يللا بحكيه”. بعد السلام والكلام سأله عن مدى توفّر بيت للإيجار، فقال له: “تفضّل لعندي، وبعدين منشوف”. عندما رفض البقاء معه في بيته ومع عائلته، قدم له بيتًا مستقلًا ولكن من دون أثاث “ما قبل ياخد مصاري، وجاره عطاني كهربا من الطاقة الشمسية، وأنا ما بعرفه قبل”. يقول الحاج حسين إنّ نسبة من استأجروا في عرسال لا تتخطّى 10% “كتير ناس فتحت بيوتها، وفي بيوت سكن فيها أكتر من عيلة، حتى الأسعار أرخص من عنا، متل العادة”.
أما أم علي ناصرالدين، فلم تكن قد زارت عرسال التي تبعد عن الهرمل نحو 40 كلم، قبلًا. “ما بعرف حدا بعرسال، بس قمت أنا وأولادي دورنا السيارة ومشينا ع عرسال”. في الطريق منحهم صديق رقم هاتف أحد أبناء عرسال الذي قال لهم “كملوا لعنا، رح انطركم بالساحة”. قالت لهم العائلة المضيفة “هلأ ارتاحوا وفي بيت غرفتين حدنا فاضي رح ندبرلكم اياه”. بعد أن قدموا لهم القهوة والضيافة بساعتين، أخبروهم أنهم سيبقون عندهم الليلة “بكرا الله بيفرجها البيت بده تجهيز والميّ مقطوعة عنه، الليلة بتضلوا عنا”، وهكذا كان. صباحًا، اتصلت صاحبة المنزل بشقيقها واستأذنته تقديم البيت لأم علي وابنائها “قالت له إنت عندك بيت ببيروت وفي نازحين من الهرمل، قام قدم لنا البيت، وهو في الطابق الثاني”.
اليوم، تنتظر أم علي هدوء الأوضاع في الهرمل ولملمة الناس جراحها لتدعو العائلة العرسالية المضيفة و”الجيران” إلى منزلها في الهرمل” صار عندي أصحاب بعرسال الحلوة، ما خلونا الجيران نهار نشرب قهوتنا لحالنا، عطول يعزومنا ويزورونا كمان”. أما العائلة المضيفة وعائلتها فقد تحولوا إلى عائلة واحدة: “كل يوم نعمل نفس الأكلة وناكل سوا، بّيضتها معنا عرسال وخجلتنا”.
عن طريق أحد الأصدقاء، تواصلت أماني ناصرالدين مع إحدى العائلات في القاع للاستفسار عن منزل للإيجار: “إيه عنّا بيت تفضّلوا”. هناك “تفضّلت” وعندما رأت البيت أعجبها “كان مرتّب ومفروش”. سألت عن قيمة الإيجار:”هلأ اقعدوا وبعدين منحكي بالمصاري”، لتكتشف أنّهم لا يريدون مالًا. بعد عشرة أيام، شعرت “إنّه القصة مطوّلة”، فصارت تبحث عن شقة تستأجرها “استحيت كتير لأنّه كان في ناس عم تأجّر”، فقال لها صاحب البيت “بدك تفلّي فلّي لوحدك، الأولاد ما بيطلعوا من هيدا البيت إلّا بعد انتهاء الحرب”.
تحكي أماني عن خلية الأزمة التي شكلتها بلدية القاع والجهود التي بذلها رئيسها بشير مطر لخدمة النازحين “اتّصل بكلّ الجمعيات التي يعرفها ليأتي بمساعدات للناس، وكمان الكنيسة استضافت نازحين”. كان مطر يدور على مراكز النزوح ليقف على حاجات النازحين “من الصبح لليل نشوفه عم يشتغل”. مع فريق البلدية تطوّع شبّان وشابات القاع “دركي، عنصر بالأمن العام، موظف، الكل كان متطوع وأنا كنت مفكرتهم عم يشتغلوا مع نازحين، ما تركوا الناس”. وعند وقف إطلاق النار، ودّع مطر النازحين وقال لهم “انشالله نكون قمنا بالواجب، ونحن أهل ومنضل”.
من رأس بعلبك والفاكهة والجديدة، انهمرت الاتصالات أيضًا على الهرمل “قعدنا عند أصحابنا كل الحرب وما قبلوا نستأجر”، تقول هدى لـ “المفكرة”: “هالحرب رجعت قرّبتنا كجيران كتير من بعضنا”، تُضيف.
هذا لا ينفي وجود بعض من استغل النزوح في كل هذه البلدات “ولكن نادرين لي غلّوا كتير الإيجارات وعارفين إنه الناس ما عندها خيارات إلّأ تقبل”.
نزحت ديالا علّام بشكل متقطع عن الهرمل ولأيام قليلة، ولكنها بقيت فيها معظم الوقت. تتحدث قليلًا عن قلة المساعدات “ما حدا سأل عنّا، كمان استغلّ بعض تجار المدينة الوضع وضرب الدولار بـ 95 ألف ليرة”، ولكن الأصعب كان الموت الذي يحيط بمن بقيوا :”تلاتة من رفقات أولادي (حسن شمص في مجزرة الجرد، ومحمد وشادي الجوهري، التوأم في الهرمل) استشهدوا وهيدا كان كتير صعب عليهم وقاسي”، وعلينا كمان، كل اللي راحوا منعرفهم، ما قدرنا ندفنهم وقتها ونعملّهم عزَوات ونوقف حد أهلهم”. طبيعة الاستهدافات هي الأخرى كانت ضاغطة “في مدنيين كتير استشهدوا، فلم نعد نشعر بوجود مكان آمن في كل الهرمل، وصار البقاء مشروع شهادة”. ولكن ما أوجعها أيضًا حال الهرمل “حسيتها ميتة، نحن مش متعودين عليها هيك، نحن مش عايشين حروب”.
شقاء النزوح إلى الجرد
بعد عشرة أيام على عودتها من نزوحها إلى جرد الهرمل، كانت شمس ما زالت تسحب شوك الشيح والبلان من كتفيها: “ما قادرة روح برا الهرمل، قلت الجرد آمن”. وفي الجرد بقيت رغم الاستهدافات ومجزرة نهر النسور. ولكن البقاء في الجرد الذي غالبًا ما يتركه المزارعون أوائل تشرين الأول وخصوصًا على ارتفاع 1500 متر وما فوق، بقيت شمس في سفح القرنة السوداء وصقيعها “كنت جمّع سيكون وبلان وشيح حتى اطبخ لهن ونتدفى”. تقصد “الفلا” ومعها طفلين وفتى وفتياتين في الـ 18 و20 عامًا، يجمعون معًا ما تيسّر مما يمكن أن تأكله النيران. وهناك لم يتركها رعاة من عرسال عادة ما يضمنون أراض لرعي قطعانهم “كانوا كل اسبوع يعطوني غالون لبن 5 ليترات، كمان جبنة ولبنة، وهيدا ساعدني كتير”.
كانت شمس تقسّم وجبات أبنائها على “بطاطا محوسة مع بصل، بطاطا مسلوقة، بطاطا مقلية، أرز مع سلطة عندما تقصد منطقة عميرة في جرد الضنية وتأتي ببعض الخضار “وما يقبلوا ياخدوا حقهم”. بعد نحو 15 يومًا نصحتها جارتها في الجرد العكاري أن تتسجّل في أحد مراكز النزوح في فنيدق “وصاروا يبعتوا لي كل 10 ايام كرتونة إعاشة”. ومن يومها دخل إلى غذاء أبنائها بعض الجبنة والمعلبات، ووصلني زيت للطبخ أيضًا وكذلك أغطية ساعدت في تخفيف البرد”. تضحك وهي تفكر في الإيجابيات “الناس كانوا كتير حلوين، بس كمان اولادي صاروا ياكلوا كل شي، يمكن لو طبخت لهم حجارة كانوا أكلوا، لا تنذكر ولا تنعاد انشالله”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.