نشرت صحيفة "التونسية" في 19/11/2013 حوارا صحفيا مع وزير العدل الاستاذ نذير بن عمو وبدا من اسئلة الصحفي ان تاريخ الادلاء بالتصريح تزامن مع تحرك احتجاجي للقضاة على اعتبار ان الصحفي وجه سؤالا للوزير حول موقفه من الشعارات التي يرفعها القضاة ضده ويصل صداها لمكتبه اثناء لقائهما. لم يتطرق الوزير لأسباب الازمة التي جعلته يواجه رفض القضاة ويعاين حنقهم على شخصه وانما سعى لإبراز مشاريعه المستقبلية فيما بدا تجاوزا منه للخوض في أصل الازمة. وكان من اهم ما ورد في تصريح الوزير وتعلق بالشأن القضائي اعلانه عزمه انتداب محامين وأساتذة جامعيين بشكل مباشر لتعزيز الإطار القضائي بدعوى الحاجة لذلك لتجاوز النقص الحاصل في عدد القضاة وبما يسمح مستقبلا بتحقيق مشروعه الطموح الذي يتمثل في تركيز محكمة ابتدائية بمقر كل معتمدية وبعث محكمة استئناف بمقر كل ولاية سعيا لتقريب القضاء من المتقاضين حسب دعواه.
ويبدو ما طرحه وزير العدل من مراجعة للخريطة القضائية مجرد خطاب سياسي يستهدف قراء الصحيفة من غير اهل الاختصاص من دون أي إمكانية لتنفيذه على أرض الواقع خلال أمد قريب أو بعيد لاعتبارين:
*أولهما: أن موازنة وزارة العدل التي يشرف عليها والموازنة العامة للبلاد التي تقوم على فكرة التقشف وترشيد الانفاق العمومي لمواجهة الازمة الاقتصادية، لا يمكنها بحال من الأحوال ان تمكن في الاجل المنظور من تضخيم عدد المحاكم بالشكل الهائل المذكور خصوصا وان عدد المعتمديات في تونس يتجاوز 254 فيما ان عدد المحاكم الابتدائية حاليا يبلغ 28 فقط وأن عدد الولايات يناهز 24 فيما يبلغ عدد محاكم الاستئناف حاليا 12 فقط. وتاليا، يكون المشروع الوزاري غير واقعي فهو يتحدث عن مضاعفة هائلة لعدد المحاكم يستدعي انتدابات في الإطار الاداري وتخصيص موارد للمنشآت اللازمة الضخمة في ظل أزمة اقتصادية.
* وثانيهما: ان مراجعة الخريطة القضائية لا يمكن ان تحصل على أساس شعارات سياسية وانما على أساس دراسات موضوعية تبرز الحاجة الموضوعية لبعث محاكم جديدة وهو امر لازم لتحقيق الادارة الرشيدة للمرفق القضائي. وتجدر الإشارة الى أن وزارة العدل التونسية بالتعاون مع البرنامج الانمائي للأمم المتحدة وهياكل القضاة وفعاليات المجتمع المدني والهيئة الوطنية للمحامين كانت تولت وضع مخطط استراتيجي لتأهيل منظومة القضاء التونسي خلال الفترة الفاصلة بين 2012-2016 ولم تقترح الحل الذي انتهى اليه الوزير في إطار تصورها لتطوير القضاء.
وفي مقابل طوباوية مشروع محكمة ابتدائية لكل معتمدية ومحكمة استئناف لكل ولاية، بدا تصريح وزير العدل باعتزامه تعزيز الإطار القضائي بانتدابات مباشرة من بين المحامين وذلك طبق الاجراءات التي ينص عليها الفصل 32 من قانون عدد 29 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة اعلانا للنية في تفعيل فصل قانوني ظل لوقت طويل مهجورا خلال فترة نفاذه القانوني. وهو أمر يتعارض مع احكام الفصلين 12 و14 من القانون الاساسي عدد13 لسنة 2013 المؤرخ في 02 ماي 2013 المتعلق بأحداث الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي والذي منح صلاحية تعيين القضاة لهيئة الاشراف على القضاء العدلي ونص في فصله العشرين على نسخ الاحكام القانونية المخالفة له خصوصا احكام قانون سنة 1967 الذي استند اليه الوزير في تصريحاته.
وتجدر الاشارة الى أن الحكومة كانت تعهدت رسميا بالاستقالة استجابة لمتطلبات الحوار الوطني ضمن شروط يعمل على إتمامها ضمن أيام، مما يجعل حديث وزير العدل عن مشاريع مستقبلية بالحجم الذي تقدم مفتقرا للحد الأدنى من الجدية.
ولا يمكن بالواقع فهم لجوء الوزير لتصريحات دعائية غير قابلة للإنجاز بمعزل عن الصراع الذي تخوضه حكومته مع هيئة القضاء وهياكل القضاة. فالوعود التي أطلقها الوزير في حواره الصحفي بتطوير التوزيع الجغرافي للمحاكم تسعى لاستمالة المواطنين بالجهات اعتبارا لرغبة اغلبيتهم في تقريب مرفق القضاء منهم، فيما يبدو الوعد الصادر عنه بإجراء انتدابات مباشرة للمحامين بسلك القضاء محاولة منه لاستمالة المحامين الشباب والهيئة الوطنية للمحامين خصوصا وان السماح للمحامين بالالتحاق بالقضاء كان من المطالب الفئوية التي رفعها المحامون قبل الثورة وبعدها. ويتضح بالتالي ان تصريحات الوزير لا تشكل في واقعها مشاريع مستقبلية للإصلاح والتطوير بل هي جرعة من خطاب سياسي تهدف لكسب تأييد واسع في قطاعات الاسرة القضائية الموسعة والمواطنين للحكومة في حربها على هيئة القضاء العدلي.
ويمكن للمتتبع لتصريحات المسؤولين الحكوميين بوسائل الاعلام والتي تزامنت مع اضراب القضاة ليومي 19 و20 نوفمبر 2013 ان يتبين بوضوح ان الحكومة التي تمسكت برفض التراجع عن قراراتها وأوصدت بموازاة ذلك الابواب امام أي حوار جدي مع هياكل القضاة، تحاول تأليب الرأي العام على القضاة بإبرازهم في مظهر فلول النظام البائد الذين يعطلون مرفق العدالة بإضرابات عشوائية نكاية بالمواطنين ويتحالفون مع المعارضة لغاية اسقاط حكومة الثورة. وانطلاقا من ذلك، تسوغ وزارة العدل لنفسها أن تدعو أنصارها للتصدي للقضاة حماية للثورة وللشرعية القائمة بعدما اختزل مشروع اصلاح القضاء وتطويره في التمديد وترقية القضاة الملتزمين بسياسة الحكومة (وهم القضاة المستقلون بنظرها) في مقابل غيرهم ممن تسيسوا حسب الوزارة تحت غطاء شعار استقلالية القضاء.
ويلاحظ ختاما ان كل التصريحات الاعلامية للمسؤولين الحكوميين ذات الصلة بالقضاء حاولت في مضامينها القفز على المآخذات القانونية على قرارات الحكومة وعلى ما سجلته الاوساط الحقوقية من تعارضها مع مشروع اصلاح القضاء وحماية استقلاليته بحديث سياسي دعائي يكشف عن مدى حرص الساسة على تسسيس ملف القضاء خدمة لاستمرار وصايتهم عليه.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.